السيمر / فيينا / الاحد 28 . 06 . 2020
د. نضير الخزرجي
عندما تفرض على المرء الإقامة في موضع محدود الأمتار طوعا أو قسرا، فإن الشيء الذي لا يريد أن يخسره هو اتصاله بالعالم الخارجي، لإدراكه بأن الغياب عن العالم الصغير والكبير وانقطاع الأخبار هو بمثابة قطع الحبل السري عن الجنين قبل أوانه.
وتختلف وسائل الإتصال من زمن إلى آخر ومن بلد إلى آخر، ولكن القدر المتيقن منها أن يكون المرء على معرفة بما يجري لذويه وأصدقائه وبالعكس، وإذا توسع أكثر عرف ما يجري في المجتمع، وإذا مضى عرف ما يجري في البلد، ولأننا نعيش في زمن يطل الإنسان على الكرة الأرضية بقاراتها وبحارها وقطبيها وما يقع فيها عبر شاشة صغيرة بقدر كف اليد، فإن الإتصال الخارجي صار قدر كل إنسان إن فرضت عليه جائحة الكورونا إقامة قهرية، أو طار في الآفاق.
ومن السوء أن يعيش المرء الحصار الذاتي لسبب من الأسباب ويفرض عليه الإنقطاع مع الخارج إلى حد التعتيم التام، وقمة السوء أن يصار قهرا إلى مكان لا يعرف ليله من نهاره إلا مصباح ضوء خافت في سقف عال مع مجموعة من أترابه ونظرائه يتقاسمون المكان للنوم إلتصاقا، فتتخذ مجموعة هيئة الوقوف حتى يتسع المكان لآخرين لرقدتهم، وأكثرهم قربا للنوم هو من تعرض للتعذيب الجسدي المبرح، فيظل بعض وقوفا لفترة تاركا المكان للمعذب عسى أن يكون النوم والغياب عن عالم اليقظة لسويعات مرهما لجراحاته.
تجربة مرَّة عشتها نهاية العام 1979م في قبو مديرية أمن كربلاء بعد أن تم اعتقالي من على مقعد الدراسة في إعدادية القدس، ومن آثاره السيئة، غير التعذيب البدني والنفسي، حصول فجوة عن المحيط الخارجي، فكنا نتوسل إلى السجان لأن يرمي لنا جريدة وإن كانت قديمة، لكنه يأبى معتصما بالقوانين المانعة، وكنا نجد ضالتنا بين الحين والآخر في صاحب المطعم الذي كان يزود المعتقل بالوجبات اليومية، فكان يأتينا الطعام في بعض الأحيان مغلفا بصحف قديمة، فكنا نلتهمها من ألفها إلى يائها على ما فيها من دهون وزيوت وبقايا مروقات، فهي حبل الوصل مع الخارج ولا يهم إن كانت حديثة الصدور أو قديمة.
ومن ذكرياتنا مع الصحف القادمة إلينا مع الطعام أننا لأول اطلعنا على حادثة الحرم المكي التي قادها جهيمان العتبي يوم الأول من المحرم سنة 1400هـ الموافق للعشرين من شهر نوفمبر تشرين الثاني سنة 1979م، وبدأنا نقرأ القصة ونحن غير مصدقين بما يجري، وحيث لا نملك مصدرا آخر فتزايدت التأويلات بين الشباب المعتقل عن الفرج وظهور الحجة المنتظر الذي سينقذ البلاد والعباد، وذهب بعضنا بعيدا في شطحاته التأويلية والتفسيرية للواقع ليبشرنا عن كشف غيبي حصل له بالفرج القريب!، وما علينا إلا تحمل شدة التعذيب لأيام قلائل حتى يطل الفرج من مكة المكرمة وترتفع راية الحجة المنتظر في الكوفة، ومضت الأيام والأسابيع ولا من خبر، فلا جريدة تأتينا والسجان هو السجان لم يظهر عليه ما يدل على تحول في الواقع الخارجي
وبعد فترة من الإعتقال تم الإفراج عني وشابين اعتقلا من المدرسة نفسها عبر مديرية أمن ناحية الجدول الغربي (الرجيبة) التي كانوا قد نقلونا إليها، وعندما وصلت مدينة كربلاء بدأت أحتك مع الواقع الخارجي، وأول ما لفت نظري مجموعة لافتات تمجد رئيس السلطة آنذاك صدام حسين، والأمة العراقية على أعتاب يوم الأربعين من ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العشرين من شهر صفر، وأكثر لافتة أثارت انتباهي تلك القائلة: “الرئيس القائد صدام حسين يعزي المسلمين في ذكرى أربعين جده الإمام الحسين”، مثل هذه اللافتة وقريب من مضمونها وجدتها موزعة على أماكن مختلفة من المدينة المقدسة.
لا تعد لافتات التعزية بالأمر الغريب لأن كل رئيس دولة عراقية يريد أن يحسن صورته يستخدم إسم الإمام الحسين عليه السلام وذلك لاستمالة المسلمين الشيعة الذين يمثلون نحو ثمانين في المائة من سكان العراق، ولكن الغريب فيها أنني قبل أن أدخل المعتقل اطلعت في مجلة ألف باء الحكومية على السيرة الذاتية للرئيس الذي تسلم الحكم يوم 16 تموز 1979م خلفا للرئيس أحمد حسن البكر، سيرة مزينة بنسخة من الهوية الشخصية وبعض الوثائق وفيها كان اسم الرئيس (صدام حسين مسلط)، ومسلط هو لقب والدته صبحة، فكيف أصبح الإمام الحسين العلوي المحمدي الهاشمي القرشي بين ليلة وضحاها جداًّ للرئيس صدام حسين مسلط التكريتي؟
سؤال لا يعرف جوابه إلا أهل قرية العوجة في تكريت وأصحاب النسب، ولست منهم، ولكن اللافتة كانت لافتة للبصر ولازالت، تذكرتها وأنا أقرأ كتيب “شريعة النسب” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت في 48 صفحة عن بيت العلم للنابهين وفيه 78 مسألة شرعية و16 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وسبقتهما مقدمة للناشر ومثلها للمعلق وتمهيد للمصنِّف.
نسب وانتساب
يصل الطفل مبلغ الرجال ويتعرف على أبناء أسرته وعشيرته فيدرك لأي قبيلة يعود، فهو لم يختر لنفسه العشيرة ولم ينتسب لها اختيارا، وإنما بالولادة، ولكنه إن أصبح على مرمى من شباك الزواج والإقتران له أن يختار لابنه من خلال اختيار الزوجة، ولهذا ورد عن النبي الأكرم محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله قوله: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)، وهذا ما أثبته علم الجينات وواقع الحياة الإجتماعية.
والنسب من حيث اللغة كما يشير الفقيه الكرباسي في التمهيد هو: (القرابة، والمراد به لدى البحث عنه في أروقة الفقهاء: العلاقة التي تربط الإنسان في قرابته مع الآخر بالعمود التسلسلي وما يتفرغ منه)، وهذه القرابة لا تنقطع مع موت الإنسان فهي باقية في نسله، بل تتحق في بعض صورها يوم القيامة، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (وأما نسب الإنسان فلا ينتهي بالموت بل نجد أنه من زاوية معينة يبقى ولو بشكل محدود حيث ينادى الإنسان يوم القيامة بإسم أمِّه تكريما لها من جهة وحتى لا يُطعن بنسبه فيما إذا تكونت نطفته من غير أبيه الذي عُرف به)، ولكن في الوقت نفسه تنتهي الأحساب والأنساب التي كان يتفاخر بها في الحياة الدنيا وبتعبير القرآن الكريم: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) سورة المؤمنون: 101.
وعلى مستوى الواقع لا ينبغي أن تكون العشيرة هي معيار التفاضل في الحياة الدنيا بقدر عمل المرء نفسه وتقواه، نعم ينبغي للمرء أن يرفع من شأنه لترتفع عشيرته شأنا ومكانة، وأن يحتمي بها من أجل رفعته ورفعتها، فهناك تلازم حميمي وصميمي بين المرء وعشيرته، فمن جانب تتحقق وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام: (وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول)، ومن جانب يتحقق قول الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأجل، مرضاة للرب)، وقوله عليه وآله الصلاة والسلام: (إعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة)، وبالطبع لا يتحقق مفهوم صلة الرحم إذا لم يعرف المرء نسبه.
وبالنسب الطيب يُعرف المرء حسبه وشأنه، ويفترض فيه لحفظ كرامة عشيرته أن يكون حسن السيرة في المجتمع، لأن الناس إن أحسن إليهم المرء ذكروا والده وأجداده بالخير والعكس صحيح، وفي الوقت الذي يعتبر النسب محل اعتزاز وتفاخر، فهو محل تواصل وتعاون بين عشائر المجتمع وقبائل الأمة، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (فالأنساب جاءت لتكون الوسيلة الأنجع للتواصل وخلق حياة إجتماعية أفضل، وما اختلاف القبائل والألسن إلا لمزيد هذا التواصل والتفاهم والتمايز بينهم وليس للإمتياز، فقد قال جلّ وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات: 13، وما أوردناه هنا لا يعني أن نتمسك بالأنساب وننسى الآخرين بل المقصود أن يكون أحدهما داعماً للآخر).
ما لا ينبغي
في عالم الحيوان وتربيتها، أنواع منها يسعى المرء إلى تحسين نسلها عبر اختيار أفضل الذكور لضرب أفضل الإناث، ومنها عالم الأحصنة والجياد في عموم الأرض، وعموم الحيوانات الأليفة في الغرب.
وحيث يحرص المرء على تحسين جنس الحيوان، فمن باب أولى أن يحرص على تحسين نسله ومعرفة أصله وفصله، وبتعبير الفقيه الكرباسي في المسألة الأولى من أحكام النسب: (يجب تحديد أب وأم المرء، وتشخيصهما)، وبإزاء ذلك: (لا يجوز الطعن في نسب الآخر)، وذلك بشروط كما يعلق الفقيه الغديري: “فاذا كان هناك غرض عقلائي قويم يقتضي ذلك فلا مانع فيه شرعاً”.
ولأن النسب في الفقه الإسلامي: (له موارد متعددة، من الزواج والطلاق واللعان والإرث والدية والقصاص والخمس والوصية، وما إلى ذلك) كما يشير الفقيه الكرباسي لذا وعلى سبيل المثال: (لا يجوز لمن ليس من الهاشميين أن ينتسب إليهم)، وعلى هذا المنوال يضيف المعلِّق: “وكذلك إذا كان الإنتساب باللفظ المشترك فلا يجوز ذلك إذا كان يوجب الخلط، كما هو المشاهد في بعض الأشخاص فإنهم يتخذون لأنفسهم لقباً انتسابيا فينقلب إلى الحقيقة العرفية الكاذبة مثل: الهاشمي، الجعفري، الكاظمي، العلوي، الحسيني، فينبغي الإجتناب عن ذلك إلى حدِّ التمييز”.
وإذا كان المرء يعرف نسبه من خلال لقبه وهو الشائع فهذا عامري وذاك مالكي، فإن بعض البلدان يُستخدم إسم المدينة لقبا، فهذا بخاري وذاك أهوازي، ولأن لبعض المدن مميزاتها وبخاصة ذات الحواضر العلمية، فإن الدارس فيها ينتسب إليها حتى وإن لم يكن من أهلها لدلالة قيمتها الدينية والعلمية، فيقال لمن درس في حاضرة النجف الأشرف العلمية نجفي او غروي، ولمن درس في حاضرة جامع الأزهر العلمية في القاهرة أزهري، ولمن درس في حاضرة كربلاء المقدسة العلمية كربلائي أو حائري، ولمن درس في حاضرة قم المقدسة العلمية قمي، ولمن درس في حاضرة جامع الزيتونة العلمية في تونس زيتوني، وعلى هذا فقس.
ولأن لبعض المدن دلالة اعتبارية وشأنية علمية أو اجتماعية فإنه كما يفيد المصنِّف: (لا ينبغي أن ينتسب المرء إلى بلدة لم يكن منها مما يوهم أنه سكنها لأغراض اعتبارية، وربما إذا كانت له آثار كالإغراء بالجهل حَرُم)، بل للزي والهندام مدخلية في النسب، إذْ: (لا يجوز لبس زيِّ يوحي إلى أنه من تلك القبيلة لأغراض انتفاعية، إذا كان الزي خاصًّا بهم)، وبشكل عام: (إذا أصبح زيٌّ خاصًّا بقبيلة معينة فلا يجوز لبس ذلك الزي لغيرهم إذا سبَّب إغراءً)، وعلى هذا المنوال: (لا يجوز أن يرتدي غير الهاشمي عمامة سوداء والتي أصبحت علامة للمنتسبين إلى الرسول (ص) إذا كان عُرفاً عاماً في ذلك البلد).
وحيث كان الإسلام أمميا وتوزع المسلمون في القارات منذ القرن الأول الهجري، وارتفعت وتيرة الهجرات الطوعية والقسرية بين البلدان القريبة والبعيدة ذات الجنسيات والقوميات المختلفة، فما عادت النسبة لبلد دليلاً قاطعاً على النسبة القومية، فليس كل من سكن حيدر آباد الدكن هنديا، وليس كل من سكن شيراز فارسيا، وليس كل من سكن مصر أو الحجاز أو الشام أو الجزائر عربيا، من هنا يعقب الفقيه الكرباسي على هذا الواقع قائلا: (النسبة إلى القومية لا اعتبار شرعي لها، فرُبَّ شخص عربي سكن منطقة تركية او تكلم بلغة قوم آخرين أو تجنَّس بجنسية قوم آخرين، فلا يمكن إسقاط عروبته مثلاً، ولو كان هناك ضرورة في مثل هذا الإنتساب فالمسألة تكون عرفية وليست حقيقية).
ويواصل الفقيه الكرباسي في “شريعة النسب” متابعة مسائل متفرقة، مثل الإنتساب إلى عشيرة الأم، والإنتساب بالولاء، وجدوائية عمل نقابات النسب وعمل النسابة، ومشروعية المشجرات النسبية، والزواج والنسب والتدليس فيه، واستخدام التحاليل الحديثة لبيان النسب، ومسائل اللعان ونفي الطفل، والرضاع والإنتساب، والنسب والميراث، وغير ذلك.
في الواقع تدخل مسائل النسب في صلب حيثية الإنسان وكرامته ومكانته، والأمر في الأول والآخر عائد لذاته وكينونته وسلوكه، وحسن اختياره، له أن يطير بجناح عشيرته إن أحسن وأن يهوى إن أساء.
الرأي الآخر للدراسات – لندن