السيمر / فيينا / الاحد 30 . 08 . 2020
سليم الحسني
في أشد ظروف القمع والمضايقة للشعائر الحسينية، وفي أوج السخط البعثي على مواكب عاشوراء، صعد رجل شجاع المنبر، رمى ببصره بعيداً فتجاوز المسافات حتى بدا أمامه القصر الجمهوري وفيه يجلس يزيد العصر محاطاً بحرسه. فأيقن أن صوته سيصل الى هناك.
شعر الرجل الشجاع بجمرة مشتعلة من بقايا مخيم الحسين (ع) تستعر بداخله، أغمض عينيه، رأى النار لا تزال مشتعلة، وسمع صراخ الأطفال وبكاء السبايا، تأجج الغضب الثوري بداخله. تطلّع في كلمات القصيدة التي كتبها المرحوم (عبد الرسول محي الدين)، وجدها مرسومة بالصور، لا كلمات فيها ولا حروف، إنما لوحات مرسومة بعضها فوق بعض.
حدّق الرجل الشجاع في الماضي، اخترق بعينيه التاريخ، فوجد المأساة الحسينية تتكرر عبر العصور، ورأى جموع الزوار والمحبين يقصدون ضريح أبي الأحرار.
كانت الأزمنة تتغير لكن يزيد باق في قصره. أحس بالنار في جوفه تزداد اتقاداً، ولسعته جمرة قادمة من كربلاء. أدار وجهه صوب بغداد، يخترق بنظره الجدران والأسوار، حتى ركزّ عينيه على يزيد العصر، والجموع أمام المنبر عارية الصدور، تنتظر كلمة منه، لكنه لم يقرأ قصيدته، فليست أمامه كلمات ليقرأها. إنه يرى صوراً متراصة تمتد من عاشوراء الى عاشوراء، ومن كربلاء الى كربلاء.
بلغتْ جمرة الغضب حنجرته فصدح بالصوت من فرط الألم: (يحسين بضمايرنا).
لم تكن صرخة، ولم يكن صوت رادود، ولم يكن إيقاع لطم.. كانت ثورة حسينية بمعانيها ومفاهيمها وقيمها.
هناك في تلك البلدة البسيطة (خرنابات) من محافظة ديالى عام ١٩٧٧ انبعث بركان حسيني ثائر، سرعان ما شمل العراق، وكانت كل الآذان تسمع صوت الرجل الشجاع (يحسين بضمايرنا).
يائسون وخائفون ومترددون، صدمهم الصوت. هزهم بقوة. حرّك فيهم الإرادة. ضخ فيهم العزيمة، فتحركت أقدامهم تقطع الطريق صوب كربلاء.
بقي الرجل الشجاع واقفاً على المنبر، ينظر الى صور القصيدة، فيحولها الى هتافات نارية، ويسمعها الناس فيصيّرونها إرادة تغيير، فيما كان يزيد العصر يستعر غضباً على شيعة الحسين، يريد أن يبيدهم فلا يبقي لهم باقية.
بصوت الرجل الشجاع، أحسّ الجميع بأن الحسين في ضمائرهم، يستنهض النفوس، ويبعث فيها القوة، فولدت أمة جديدة وكأنها آمنت بالحسين من جديد، فهتفت له: (بيك آمنا يحسين بضمايرنا).
كان المحرك لتلك الأمة أبناء مدرسة الشهيد محمد باقر الصدر. حملوا القصيدة في صدورهم، يتنقلون بها على المدن، وقائدهم الصدر يحثهم على ذلك، فقد وجد فيها الهتاف الثوري الذي يجب أن تسمعه الأمة كلها.
…
مرّ زمن طويل، وعوقب يزيد العصر بالموت، وتغيرت الأحوال، وتبدل حال الناس والبلاد.
في الحرية التي انتظرها الفقراء والمسحوقون طويلاً، جاء قوم تنكروا لهم، نسوا صرخة الرجل الشجاع، نسوا صوت (ياسين الرميثي) وهو يصدح:
لا حب محترف طامع
لا حب هاوي شبّ وغاب
حب المحترف عنده
بتحــقيـق الاربـاح حسـاب
نفث الرجل الشجاع وهو على فراش الموت، حسراته الساخنة، وهو يرى أن ثورته قد ذوت جذوتها، وخفتت شعلتها. فمضى تحت الثرى حزيناً، وكان من قبله قد مضى شاعر القصيدة.
…
ومرت سنوات أخرى، فهجمت جيوش يزيد ثانية تريد هدم كربلاء، فتجددت الثورة في نفوس أنصار الحسين، واعادوا القصيدة وهم يهتفون:
صاحو اشركت يحسين
صحنه انت اصول الديـن
صاحـو بيكـم اكفرنـه
صحنـه بيك آمـنّـه
…
أيها الرجل الشجاع، أيها الشاعر المبدع، ليت الحياة تعود اليكما، ليسمع الشيعة الذين يقتل بعضهم بعضاً في جنوب العراق، القصيدة مرة ثانية، فيصحو العقل الغافل، ويتنبه المخدوع، فقد توغل في أوساطهم صُنّاع الخراب، استأجرهم آل أبي سفيان، ودفعوهم يوقدون فتنة تحرق نارها الغافلين.
عجّل بقولك يا شيخ الشجاعة، توسّط جموعهم، وكررها عليهم:
لابـد ماتجـي الساعـه
البيهـا ننتبـه ونعيد
كررها عليهم. أعدْ كلماتها بصوتك. فما من رجل يتكلم هذه الأيام. إقرأها عليهم من قبرك وبكفنك، فانهم يتوحدّون ثانية حين يهتفون: (يحسين بضمايرنا).
٢٩ أغسطس ٢٠٢٠