السيمر / فيينا / الاحد 30 . 08 . 2020
سليم الحسني
طويل طريق السبايا، وطويلة خطبة زينب.
ما زال يزيد بقصره وراء الحدود، يصنع لنا في كل يوم كربلاء. صار العراق مسرى جنده. مهبط شرّه. مأوى شياطين الجنّ والإنس. وفيه الصوت مبحوح لا يُسمع.
أطلّ أبو سفيان برأسه من الصحراء يريد الفتنة. ناداه من وراء البحار شيطان بشعر أحمر: احرقْ كربلاء بكربلاء. أقتلْ زوّارها بزوّارها. سينطفئ مشعل الحسين، ويحلّ الظلام بضريحه.
اشتعلتْ نارٌ في الجنوب. رغى جملٌ في البصرة. هذه حرب لا يطفئها إلا الحريص الغيور. فيها يكون مُتهماً مَنْ يجعل نفسه كابن اللبون. يكون الصامت فيها عوناً للظالم، حليفاً لصاحب الشعر الأحمر، نصيراً لجيش يزيد، يسمعُ نداء الحسين (ألا من ناصرٍ ينصرنا)، فيغلق سمعه وقلبه، ثم يبكي عندما يسمع زينب.
لا تريد زينب دمعة زائفة. لا يريد السجاد حكمة خائف. لا تريد كربلاء مَنْ يرى الفتنة قادمة فيغلق بابه. لا يريد الحسين من يحمل عنوانه ولا يسير بدربه.
صوتٌ انطلق من عمق الكوفة، إنها كلماتُ عليّ ما تزال تدور بمسجدها. يُحذّر من وقعة صفين. من الخوارج يتجمعون. من آل أبي سفيان يكيدون بشيعته. ويحذّر من الصمتْ. عليّ يعرفُ أن الصمت يغري آل أبي سفيان باشعال الفتنة.
احترقتْ الخيام في كربلاء. جالتْ الخيول على صدر الحسين. تجددتْ كربلاء مرة أخرى.
وحده السجّاد يخطب. وحدها تخطب زينب. لا يبحُّ صوتُ محمد. لا يسكتُ لسانٌ يعرف درب الحسين. لن تنتهي خطبة السجاد وزينب، فهناك من يسمعهما، هناك من يعي الكلمات، يحفظها عن ظهر قلب، ثم يحمل القلب سلاحاً ماضياً.
صوتٌ ينطلق من الأرجاء، عليه تراب السواتر، فيه رائحة البارود، عليه دمٌ من كربلاء وجرف الصخر والموصل. صوتٌ يتحدى بخطابه الشيطان الأحمر يضع اصبعه في عين أبي سفيان:
ستقضي عمرك في حسرة، يأخذها أبناؤك لأحفادك. وأبقى أنا، تستند عليّ جبال الأرض.
إسألْ حساب الأيام والسنين. قسْ دهور الزمن جمعاً وفرادى. تفرسْ وجوه الأجيال، هل رأيتَ مثلي أحداً؟ هل مرّ بك مثلي شبيه؟ أنا الوِتر في الباقين، أنا نشيد هيهات منا الذلة. أنا الذي طاف بقبر الحسين رضيعاً، ولثم تربته يافعاً، فاستويتُ وتداً في طريق الطف. حملتُ راية العباس، ولا تزال بيميني. يسقطُ الجبارون ولا تسقط من يدي.
نادِ جندك من كل الأرض، وضاعفهم جِنّاً وشياطين، اعضدْهم بالوحوش والسحرة والدجّالين، وانثرْ الذهب عليهم، ستكون منازلة كبرى، أعيدُها عليك بدراً وخيبرَ والخندق.
أنا هنا. هذا الساتر لي. وهذه الأرض لي. وزوّار الحسين أوحّدهم. سأبقى أعيد عليهم خطبة الخلود: هيهات منّا الذلة.
٣٠ أغسطس ٢٠٢٠