الرئيسية / مقالات / «التيه السنّي» بين موت الدولة وولادة الأمة

«التيه السنّي» بين موت الدولة وولادة الأمة

السيمر / فيينا / الجمعة 11 . 09 . 2020

خالد الناصر

لا يمكن الحديث عن تلاشي معالم الدولة العراقية ما بعد عام 2003، من دون الحديث عن التيه السياسي والاجتماعي والقِيَمي الذي أصاب «المكوّن السنّي» على اختلاف مستوياته (الشعبي والنخبوي والسياسي). هنا، يجب أن نتوخّى الدقّة في فحص منظومة القيم السياسية والدينية والاجتماعية لدى هذا المكوّن، مع استخدام عدسة مكبّرة بمواصفات خاصّة لاكتشاف مكامن الاختلاف بين «العرب السنّة» و«العرب الشيعة» من جهة، وبين «السنّة العرب» و«السنّة الكرد» من جهة أخرى؛ إذ إن لكلّ من تلك المسمّيات دلالة خاصة، وتأثيرات مباشرة في استمرار التيه «السنّي» الحالي.

أوّلاً: التيه «المقاومي»
إن غياب «القضية السنّية»، وغياب ما يُعرف بـ«النضال السنّي التاريخي»، خلافاً لما هو الحال لدى «الشيعة» و«الأكراد»، ظهر واضحاً بعد سقوط البلاد في نيسان/ أبريل 2003 بيد الاحتلال الأميركي. هذا ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«التيه المقاومي للعرب السُنّة». لقد تَشتت المقاوم «السُنّي» ما بين مقاوم إسلامي ومقاوم قومي ومقاوم «بعثي» ومقاوم عبثي. وهو ما أوجد حالة من الانفصام بين المقاومة والشارع «السُنّي» من جهة، وبين المقاوم والسياسي «السنّي» من جهة أخرى، وفتح الباب أمام دخول الأجندات الإقليمية والدولية إلى مضمار المقاومة «السنّية»، وتحويلها بشكل دراماتيكي إلى جماعات متطرّفة أنتجت تنظيم «القاعدة»، ولاحقاً «داعش».
هذا التيه هو الذي حَوّل حالة المقاومة «السنّية» إلى حالة من الإرهاب والتطرف، وأفقد المكوّن قيمته الفخرية والتاريخية، بصفته أوّل من قاوم الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. أمّا المقاومة «الشيعية» والتي كانت تتمتّع بهوية واضحة، فقد جاءت متأخّرة عن المقاومة «السنّية»، لكنها استطاعت أن تستحوذ على المشهد المقاوم في العراق، بل وأصبحت هي هوية المقاومة العراقية.

ثانياً: التيه السياسي
لا يختلف التيه السياسي لدى «العرب السنّة» ما بعد 2003 عن التيه المقاومي؛ فالأسباب هي نفسها. بدا هذا التيه واضحاً في التوجّهات السياسية «السنّية»، والخطاب الذي تبنّاه أصحابها، وكذلك في طبيعة الأهداف والأساليب المنتهَجة. لقد كان التشرذم والتشتّت واضحين، سواءً في الموقف تجاه مقاومة المحتلّ، أو في الخطاب القومي ضدّ دعوات التقسيم، أو في الموقف من «الشيعة» و«الكرد»، أو في التعامل مع «حزب البعث» والنظام السابق. وهذا ما يعود، أيضاً، إلى غياب القضية والتاريخ والنضال.
تَحوّل المشهد السياسي، بعد فترة، إلى حالة من الاتفاق المصلحي لدى الطبقة السياسية، والتي باتت تتمحور بشكل كامل حول المصالح الحزبية والشخصية فقط، من دون أيّ أهداف عليا تتعلّق بمصالح مَن تمثّل، ما جعلها تتفق على المغانم وتفترق على المغارم. هكذا، أضحى رجالات «السنّة» أدوات رخيصة، ليس بيد الدول الأخرى فحسب، بل أدوات أكثر رخصاً بيد شركائهم في الوطن.

ثالثاً: التيه الشعبي
ما أنتجته حالة التيه المقاومي والتي حَوّلت الجغرافيا «السنّية» إلى بيئة حاضنة للإرهاب، وما تبع ذلك من تيه سياسيّ حَوّل البيئة الاجتماعية «السنّية» إلى ساحة للفساد الحزبي والشخصي، جعل المواطن «السنّي» في درجة ثالثة، أي بعد المواطن «الشيعي» والمواطن «الكردي»، يفتقر إلى الأمن الشخصي والكرامة والاحترام في ظلّ غياب كامل للخدمات، وهو ما جعله يفكّر – بشكل واضح – بل ويعلن عدم رغبته في البقاء كجزء من الدولة والمجتمع العراقي، مطالِباً – في وقت لاحق – بالأقلمة التي قاتل ضدها، ورفض الدستور المشرعن لها.
وحين شعرت الأحزاب السياسية أن المجتمع «السنّي» أصبح جاهزاً للاستغلال، اتجهت نحو تهييج الشارع ضدّ الدولة العراقية، مُستخدمةً الخطاب الهلامي نفسه، والمشتّت بين خطاب ديني ينطلق من المساجد تبنّاه التيار الإسلامي، وبين خطاب عشائري ينطلق من الدواوين تبنّته الشخصيات العشائرية ذات الطموحات السياسية، وبين خطاب بعثي يتغنّى بالكرامة والعزة السابقة إبان حقبة «البعث» وصدام حسين وتَبنّته شخصيات سياسية داخل العراق وخارجه.
هذه الخطابات المتناقضة دفعت بالجمهور «السُنّي» اليائس إلى السير بشكل أعمى وراء تلك الجوقة الموسيقية الانتهازية، ليتحوّل الحراك الشعبي إلى حالة من التمرّد الذي خرج عن السيطرة، ويأتي التطرف مرّة أخرى متمثّلاً بـ«داعش»، ويقضي على ما تبقى من هذا «المكوّن»، مُحوِّلاً إيّاه إلى حالة من الضياع الكامل واللامحدود.

الصحوة الوطنية
لا يزال الحديث مبكراً عن صحوة وطنية «سُنّية»، تناظر الصحوة الوطنية «الشيعية»، والتي أحيتها «ثورة تشرين/ أكتوبر 2019». لكن هذا لا يعني أنّها لن تأتي، بل يمكن أن تكون هناك صحوة «سنّية» وطنية وصحوة «كردية» وطنية، تُتوّج نجاح الصحوة «الشيعية» الوطنية. لذلك ربما تشهد مرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة تطوّرات من هذا النوع، تُمثّل استجابة طبيعية للتحوّل الوطني الواضح في الساحة «الشيعية»، والذي إذا ما تمّ سيساهم في صناعة خطاب وطني مؤسّساتي يمهّد لما يُعرف بـ«ولادة الأمّة العراقية».

*باحث سياسي عراقي

 

اترك تعليقاً