السيمر / فيينا / الاربعاء 16 . 09 . 2020
د. مصطفى يوسف اللداوي
لا يتوقف الإسرائيليون عن الشكوى والتذمر، والسؤال والتظلم، ورفع الصوت استغاثةً والصراخ ألماً، والتظاهر بالمسالمة وإبداء المظلومية، وادعاء البراءة وإشاعة الطهارة، وكأنهم المعتدى عليهم والمساء إليهم، والمحتلة أرضهم والمهدورة حقوقهم، والمهانة كرامتهم والمصادرة ممتلكاتهم، فتراهم يدعون زوراً وبهتاناً أنهم محاصرون ومعاقبون، ومظلومون ومضطهدون، وأنهم يتألمون ويتوجعون، ويقاسون ولا يرتاحون، وأن مستوطنيهم لا ينامون الليل ولا يحسنون الخروج من بيوتهم في النهار، فحياتهم في خطر وسلامتهم غير مأمونة، فهم يعانون من الصواريخ التي تسقط عليهم وتدمر مساكنهم وتلحق أضراراً ببيوتهم، ومن البالونات الحارقة التي تحرق حقولهم وتخرب زروعهم، ومن الطائرات الورقية التي تتسلل إليهم وتفلت من قبتهم، وتقض مضاجعهم وتربك حياتهم، وتمنعهم من مزاولة حياتهم الطبيعية، مخافة أن تسقط عليهم طائرة ورقية أو بالون حارقٌ.
يحسن الإسرائيليون استغلال معاناتهم الكاذبة وشكواهم الزائفة، ويشيعون في العالم روايتهم الخاصة ويروجون لها، ويستغلون في ذلك وسائل الإعلام العالمية، ونفوذهم الكبير فيها، وانتشارها الواسع وتأثيرها الكبير، وقدراتها المشهودة في التأثير والتغيير، ويجمعون لتعزيزها الصور والمشاهد والأدلة والقرائن، والمقابلات واللقاءات، والتصريحات والإعلانات، ليؤكدوا صدق روايتهم ومصداقية أخبارهم، ويستعطفوا الرأي العام الدولي معهم، ويستميلوا صناع القرار إلى جانبهم، في الوقت الذي يشوهون فيها صورة المقاومة، ويسيئون إليها، ويحملونها المسؤولية عما يصيبهم والأضرار التي تلحق بهم، ويتهمونها بأنها تقترف في حقهم جرائم دولية موصوفة، تستحق عليها المحاسبة والعقاب.
وللغاية نفسها تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلية من حينٍ لآخر، بعمل جولاتٍ إعلامية على حدود قطاع غزة جنوباً، وعلى الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة جنوبي لبنان، لسفراء الدول المعتمدين لديها، ولضيوفٍ وافدين لزيارتها، لاطلاعهم على الأوضاع الميدانية في المناطق المقصودة، ومشاهدة آثار الدمار والخراب وبقايا الحرائق التي تسببت بها صواريخ المقاومة، ووسائلها الخشنة المختلفة، وتتهيأ لهذه الزيارات بتجهيز “أرض المعركة” وفق الهيئة التي ترى أنها تخدم مصالحها وتحقق أهدافها، فتبرز بيتاً قد تضرر سقفه، وآخر قد نقب جداره، وغيره قد فتحت نوافذه وكسرت أبوابه، إلى جانب بعض الحقول المحروقة والمحال المتضررة.
وكانت آخرها الجولة الخاصة التي نفذتها قيادة أركان جيش العدو، داخل المستوطنات الإسرائيلية على الحدود الشرقية لقطاع غزة، التي نظمتها لسفراء دول الاتحاد الأوروبي، ومعهم لفيف من الإعلاميين وعشرات وكالات الأنباء والفضائيات الدولية، وطافت بهم جميعاً على المستوطنات الإسرائيلية القريبة من حدود قطاع غزة، وجمعت لهم رؤساء بلدياتها إلى جانب بعض الذين أصيبوا خلال فعاليات مسيرات العودة الفلسطينية، واستغل قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال الإسرائيلي المناسبة ليطلق فيها مجموعة من التهديدات أمام مندوبي دول أوروبا، بعد أن شعر باقتناعهم بما رأوا، وبتحاملهم على الجانب الفلسطيني، فأكد أن ذراع جيشه قوية، وقدرته فائقة، وأنه لن يسمح بحدوث المزيد من الخروقات، بل سيضرب على المعتدين بيدٍ من حديدٍ، وسيستخدم من أجل ردعهم كل الأدوات والأساليب الممكنة.
صدق سفراء الدول الأوروبية ما رأوا وشاهدوا، أو كأنهم كانوا مهيأين وجاهزين وفق برمجةٍ مسبقةٍ وإعدادٍ محكمٍ لتصديق الرواية الإسرائيلية، فعبروا عن عظيم أسفهم لمعاناة السكان الإسرائيليين، وأبدوا تعاطفهم معهم وتفهمهم لشكواهم، وأيدوا ما يقوم به الجيش لحمايتهم، واعتبروا أن ما تقوم به المقاومة الفلسطينية من عملياتٍ مختلفة، إنما هو نوعٌ من الإرهاب المرفوض والمدان، ودعوا الفلسطينيين إلى الكف عن العمليات العسكرية، والعودة إلى طاولة المفاوضات من جديد، كونها السبيل الوحيد لإحلال السلام بين الشعبين، وتحقيق الاستقرار العام في المنطقة.
لم يلتفت السفراء الأوروبيون إلى الجانب الغربي من السلك الشائك، حيث يقع قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من أربعة عشر عاماً، والمحروم من أبسط سبل الحياة وشروطها الإنسانية، وهو الذي يضم بين جدرانه الثلاثة المصمتة السميكة، المحكمة الإغلاق القاسية الأحكام ، العدو والبحر ومصر، أكثر من مليوني فلسطيني، يعيش أكثر من ثلثيهم تحت خط الفقر، ويعاني غالبيتهم من البطالة وغياب فرص العمل، ويشتركون جميعاً في الحرمان من الكهرباء والمياه النقية الصالحة للشرب ومياه الري والخدمة، فضلاً عن قيام جيش الاحتلال بالعدوان الدائم عليهم، سواء عبر حروبٍ طويلةٍ وقاسية، أو عبر غاراتٍ يوميةٍ مؤلمةٍ، يقوم بها طيرانه الحربي، أو تنفذها مدافع الميدان والدبابات الرابضة على حدوده، يقتل فيها العشرات من مواطنيه، ويدمر خلالها مساكنهم وبيوتهم، ومعاملهم ومصانعهم، ومتاجرهم ومحالهم، ومدارسهم وجامعاتهم، ومساجدهم وأسواقهم، ويعطل كل مرافق الحياة لديهم.
لم يلتفت السفراء الأوروبيون إلى مئات الشبان الفلسطينيين المعاقين جسدياً، الذين بتر رصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي المتفجر أطرافهم، وفقأ عيونهم، وكسر ظهورهم، وأعاق حركتهم، وشوه أجسادهم، وإلى غيرهم من المرضى والمصابين الذين حرمهم الاحتلال من الدواء والعلاج، وحال دون وصول الطواقم الطبية إليهم أو منعهم من السفر للاستشفاء والعلاج، كما لم يلتفتوا إلى آلاف الأسر والعائلات الذين فقدوا أبناءهم وآباءهم قتلاً برصاص الجنود والقناصة، وإلى آلاف الأسر التي تعاني من غياب أبنائها الأسرى في سجون الاحتلال ومعتقلاته، التي يسامون فيها سوء العذاب، ويحرمون فيها من أبسط حقوقهم الإنسانية.
لم يستمع السفراء الأوروبيون إلى الرواية الفلسطينية، واكتفوا بالإصغاء إلى الشكوى الإسرائيلية، ولعل بعض المتابعين الصادقين يحملون الفلسطينيين جزءاً من المسؤولية عن عدم نقل صور المعاناة الفلسطينية الدائمة إلى الغرب خصوصاً وإلى العالم عموماً، رغم أن جرائم العدو الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني مكشوفة ومفضوحة، ومعروفة ومعلومة.
إلا أنه كان ينبغي على الفلسطينيين أن يقلدوا الإسرائيليين في شكواهم، ويرفعوا بالألم والمعاناة عقيرتهم، ويظهروا بكل الصور والوسائل مظلوميتهم، ويسلطوا الضوء على جرائم الاحتلال العديدة في حقهم، وألا يكثروا من التهديد والوعيد، والتظاهر بالقوة والعظمة، واستعراض السلاح والقدرة، وادعاء التفوق والغلبة، ذلك أن فضح العدو جزءٌ من المعركة، وكشف جرائمه جزءٌ من الحرب عليه، وبيان عدوانه واعتدائه مساهمةً في إحراجه وحصاره.
بيروت في 16/9/2020
*كاتب من ارض فلسطين العربية المحتلة