الرئيسية / ثقافة وادب / قصة قصيرة / الحلم وقطار الوهم

قصة قصيرة / الحلم وقطار الوهم

السيمر / فيينا / الاربعاء 30 . 09 . 2020

كفاح الزهاوي

 

من غور السحب القاتمة للدخان المتصاعد يتسلل الى العالم كائن من هذا العصر ذو رأس كبير أشبه بوعاء فارغ، ساذج وعقيم، وجهه ثقيل كامد تزينه لحية رثة، يترقب هبوط الليل عن كثب، كي لا يفوته قطار الحلم، تستثيره المغامرة، وتحثه شهوة السلطة. فهو عبارة عن صوت بليد وخادع، ولكنه ينذر بالشرور ، بينما صداه محملا بالرعد والبرق مشحون بمواد سامة. يحاول ان يسبر قدراته الخرقاء في عالم الغيب، ليرى مدى عمق طموحاته، وقدرته على تطبيق التجربة في عالم اليقظة في ظل مخلوقات لا ترتقي عقولهم عن ادمغة المواشي.

يعيش حياةً خاوية تطل من نافذتها عجائب الدنيا، يتميز بالقلق، لا يثبت على حالة، تجده في تأرجح دائم. فهو ينتمي الى حظيرة المزاجيات ويساق وفق هذه الرؤية الشديدة الخطورة، فهو يغامر على إشعال نار الموقد بحطب المعدومين والبسطاء. هكذا يجد نفسه في قلب الحدث، حيث  يجري وقائعه منذ ان أسدل جفنيه وغاب عن الواقع.

يعتمد في منهجه على الأفكار الروحية التي توهم الناس بأن الأقدار تحكمهم وتنشد لهم الانتظار،  ينبثق من غور العتمة، ثمرة تهور، ورعونة، وبلاهة كائن شاذ يتصرف كطفل أحمق يعبث بأمور كبيرة وذات أوجه عديدة أكثر تعدادا من ان تستطيع طاقته استيعابها. فهو شخصية غريبة الأطوار، متقلب المزاج، تحركه الغرائز.

الليل يزحف بهدوء غير مألوف، كأطياف مغروسة في حلمه الوهمي، مستسلما للمساته الهادئة، تتدفق من نهره الأفكار. أما الحلم، فهو نتاج الليل فيشرئب عالمه الغامض بكل تفاصيله ويتعالى كجبال مخيفة، تحيطه هواجس الاحتراس من كل شيء بما في ذلك ظله، فيقوم بعمليات التفتيش الدقيق كجزء مهم من مشروعه الاحترازي، وذلك من خلال تعقبه لكل عربات القطار، مدركاً ان لا يتسلل إليها دخيل قد يعبث بأركان العربة ويسبب التخلخل والاهتزاز في مسار القطار وينهار الحلم.

كانت جدران العربات مطلية باللون الاخضر، كلون من ألوان الخداع البصري، بثت في حناياها إشراقة مضيئة ولاحت نورها كاليراعات تتلألأ كالنجوم في فضاء العربات، وتلمع كزمردة ترفل وتداعب سواد الليل.

أصابه داء الجمود منذ الطفولة بعد ان قيدت الأوهام أفكاره بسلاسل الهلوسة. التوغل في العمق يغدو نصلاً حاداً، يقطع شريان التواصل، ويسكب شلالات من الدم. الرماد الحار يخفي دقائق الجمرات الهادئة، التي قد تتوهج بنفحة ريح غير متوقعة، نافثه ألسنة من اللهب وتنشب الحرائق.

عندما يحين الوقت كي يخلد الى النوم، يسلم جثته الضخمة للرقاد في فراشه كالعادة، يبقى حريصا على وضع غطاء الفراش مستقرا وإلا ينزلق عن جسمه وينحرف حلمه العظيم عن مساره. فهناك مَنْ يتربص من خارج السور، منتهزاً فرصة اختباء القمر لزعزعة قطار الحلم عن سكته الهادفة.

لا يغفل لحظة عن التمسك بنفس الخطوات التي يخطوها بحذر واناة في كل ليلة: يمد ساقيه على امتداد الفراش على شكل خطين، ويسحب الغطاء بعناية وبقياس ثابت، يتأكد أن الوسادة لم تتحرك من مكانها، بل يتفحص ان رائحتها لم تتغير، وان لونها مازال بلا خدوش. تَعَوَّدَ ان ينام على ظهره مع بقاء رأسه الفارغ ووجهه الذي توحي ملامحه الدميمة بالدناءة، والخسة، مستقراً دون حراك، منتصباً باتجاه سقف الحجرة العالية، كي تبقى الصورة ثابتة لا تحيد عن خطوط الحلم.

يسعى جاهدا على رسم الحدود داخل حجرته الكبيرة من خلال وضع قِطَع الكرتون، يصنع منها جدراناً وهمية لتبدو الحجرة صغيرة. ظنّاً منه: ان ذلك سوف يوهم الدخلاء ويساعده في حماية فضائه من العدوان غير المتوقع. وكذلك لصد تسرب الضوء من الخارج عبر النافذة الى داخل الغرفة بغية منع كشف اسرار الحلم.

فهو يمارس هذا النمط من السلوك على نحو ثابت دون ملل. لابد للقطار ان يمضي في طريقه دون ضجيج، فصوت القطار لا ينبغي ان يسمعه الغرباء. الاستغراق في النوم يمنحه فرصة أطول في ان يعيش الحلم بحرية أكبر.

ينتابه شعورا عظيما بما يقدمه من إنجازات خلال انفصاله عن عالم اليقظة. فهو يشعر بالتباهي، كونه لوحده قادر على التحكم بمصير محتويات عربات القطار على مدار الساعة، بينما هو مستغرق في نومه العميق. وها هنا في عالمه المضطجع يخترق الطرق الوعرة والأنفاق المظلمة والجسور المهترئة دون أن تقف اية قوة حائلةً أمام جبروته.

عندما تدور عجلات القطار على السكة الحديدية تنفث أشكالا مختلفة من الصخب، الحافلة بالتهديد، مما تطغى الضوضاء على صوت الانسان، وفي وسط هذه الفوضى المفتعلة يصبح حينها ذاك الصوت ضعيفا لا يكاد يميزه الأذن. وفي غمرة هذه الرحلة الوهمية بدت الغابات أكثر هدوءً وظلاما، وبدت عتمة الليل وصَمْته أكثر كثافة واتساعا، حتى تراءت للمرء تلك العتمة كغيوم داكنة، تستلقي بكل ثقلها على جسم القطار.

القطار يسير على مدار الساعة دون هدف في ضبابية مطلقة، بينما هو يقف منتصباً بقامته المتوسطة، جارياً ببصره فوق السهول الكثيفة بالأعشاب على خطى جامدة تتسلى بالعبث، حصادها الأفق المجهول على امتداد رؤية لا نهاية لها.

قال في نفسه بصمت وكأن الكلمات تنبعث من عينيه بدلا ان تخرج من ثغره:

هل أستطيع عبور حدود الخيال … اخترق جدار المستحيل واخلق المعجزات. فأنا سيد الكون وكلمتي هي العليا. فالقطار لازال يسابق الريح دون هوادة.

وفجأة بدأت شفتاه ترتجف للحظة وكأنه يحاول ان يقول شيئا مسموعا. ولكن رجعت الأفكار القهقري وغرقت في القاع. وهنا نشأت سحابة من الصمت صار فاصلا بين تلك الأفكار التي كانت تجول في ذاكرته، وبين تلك التي كانت على وشك الخروج الى الهواء الطلق كالعبث. وكأنه عاجز عن إيجاد الحلول الناجعة وفَضَلَ الهروب منها تجنبا من تحمل اعبائه الحقيقية، مندفعا بنظره بعيدا، ساداً أذنيه، مدعيا الصم، تاركاً هموم الناس تقطر سوادا.

يخترق القرى المنسية مُخْتَالاً، تلك الأماكن يطوقها سور من الطين، معبقاً بطيبة اهاليها، الا انهم يجثمون تحت أنقاض الجهل والفقر المدقع. كلما ثقل حجم السكون، ينصت الى همسات اناس فقدوا حياتهم، انفاس موتى لم يملكوا ارادتهم. يهتف في حلمه العظيم انه المنقذ ورسول هذه الأمة.

يشعر بزهو كونه القائد المفدى والعقل الجمعي والمفكر بالرغم انه لا يمتلك أي شيء من هذا كله.

كانت الأحداث تمر أمامه كزخات مطر صيفية، انه بالكاد يشعر بتأثيرها. أما آفة الضغينة والحقد والحنق كانت تنهشه نهشاً، وتستقر في أحشائه لينقلها الى النفوس الضعيفة التي استوطنت في بيئة الجراثيم الخطرة والمستنقعات الأسنة، النافثة منها روائح كريهة تلحق لمن حولها اضرارا جسيمة. وإن تقاطعت معه الاحدث، او لاقى في طريقه الأخطاء، وإن كانت فادحة، يُبقي عينيه مغمضتين دون ألم وبوعي كامل، كي لا يرى نزيف الدم الجارف من قلوب الهالكين. هكذا يبني نهجه الصالح.

فهو يمارس العبث دون ان يدرك معالمه او ينتبه إلى سلوكه. فهو يحاول ان يقنع ذاته بجدية المهمة واستمراره حتى النهاية لتحقيق مشروعه المقدس. كان يخال له أثناء تجواله في تلك الطرقات، انه مستطلعا ومكتشفا، بل كان يعتقد بانه في رواية سينمائية التي تجسد علاقة مكانية زمانية، منطلقا من فكرة: ان الاحداث تتعاقب حتى تحقيق الهدف والوصول الى القمة.

وفجأة يدوي صوت في ارجاء العربات يبدد ضجيج القطار. ضمَّ وجهه في راحة يديه، كي يصد شرارة الكلمة أن تلذع قسماته المرتعدة:

– هل الإيمان بقضية معينة تنفصل عن المعاناة اليومية للناس ومدى الظلم الذي يلحق بهم، وبإمكان المرء إنقاذ مَنْ على شفا الموت.

ما كاد ان يزيح يديه عن وجهه وإذا بصدى الصوت يخترق سمعه كرصاصة قاتلة:

– نعم هذا السلوك العبثي هو الذي يزحزح الإنسان ويمنعه من رؤية الأشياء بوضوح. وكذلك اعتماد الأفكار الخيالية باعتبارها مفاهيم مطلقة تجعله ان يسقط في دوامة التخبط والانحراف.

وما ان يتولاه الفزع، ينتفض رعبا، مسرعا الى الانزواء والخضوع في ركن العربة. يطفأ ذهنه ويعتكف لحين زوال الخطر.

فهو يرى الأشياء بصورة مغايرة عن الواقع. أفكاره مستمدة من رمال الصحراء، ممزوجة بغبار سام، يصطبغ دقائقه بألوان جديدة، ليخفي جوهرها الحقيقي. بينما حلمه في تناقض مع مجريات الحقيقة. يحتار الانسان في شأنه، فهو لغز غريب، يقتحم الموائد دون ان يفكر بعسر الهضم، يبدأ بقضية ثم يتركها دون الشعور بالذنب أو بالمسؤولية من عواقبها.

أصبح مع مرور الزمن هو الآمر والناهي. كل تناقضات الحياة صارت تنبثق من اعماقه. هذا الوهم تحول من بذرة الى شجرة الشبح يرافقه في كل ليلة. شعوره بالغبطة المزيفة والغطرسة الوهمية حوله الى وحش كاسر، راح يغدو أكثر عدوانيا عندما يواجه نفسه في أحلام اليقظة. أصبح النهار لديه كابوساً جاثماً يقلق هواجسه ويهدم أسوار مخططاته. الشمس المتوهجة في كبد السماء تغشى عينيه وتحرمه من تحقيق اوهامه. وعندما ينوي تطبيق الحلم على الواقع، يصطدم بالعقبات، فيكون الفشل نصيبه كلما أقدم على خطوة.

اترك تعليقاً