السيمر / فيينا / الخميس 01 . 10 . 2020
سليم الحسني
لم أقرأ لكاتب ـ حسب اطلاعي ـ قدّم عبارات الإجلال والتعظيم لشخصية السيد السيستاني مثل حسين شريعتمداري. كان مقاله نسجاً رقيقاً من عبارات صادقة كتبها بقلبه ونشرها بروحه. لا يمكن لكاتب يكتب بهذه الدرجة من الإحترام والتبجيل ما لم يكن صادقاً مع نفسه. لكن مشكلة الكاتب تكمن في جنسيته الإيرانية، وهذا ما جعل حرصه وحبه ودفاعه عن شخصية المرجع الأعلى السيد السيستاني، تتحول على ألسنة المنتفعين وصيادي الفرص الى عكس مضامينها، وهم شرائح متناثرة تنتمي لاتجاهات عديدة وتمشي نحو أهداف مختلفة، لكنهم يلتقون على تحريف الحقيقة الواضحة وتشويه الصورة الجميلة.
لم يأخذ شريعتمداري بنظر الإعتبار الأجواء المحيطة الحاكمة بمكتب السيد السيستاني، فقد تعامل من ثقافة مجتمعه ودولته حيث تنتشر ثقافة النقد الحرّ في صحافتها لتشمل أبرز الرموز في الدولة من دون ردة فعل أو إجراء رادع.
ورغم ذلك فأن الكاتب لم يوجه نقداً للسيد السيستاني، إنما لفت النظر الى نقطة بحاجة الى إيضاح من قبل المكتب، أي أنه بيّن أن مكتب المرجع الأعلى وقع في خطأ صياغة المعنى الدقيق لكلامه حول تنسيق الأمم المتحدة مع الحكومة العراقية في الاشراف على الانتخابات.
بدأ شريعتمداري مقاله بخطاب غاية في التواضع والتأدب. وانتهى به على صيغة أكثر تواضعاً وتأدباً، وهو بين البداية والنهاية كان يجلس بين يدي المرجع الأعلى مطرقاً الى الأرض، يخاطبه بحياء العارف بقدر هذا الرجل الكبير وحكمته ومنزلته ومقامه الرفيع، وكان في كل سطر من مقاله يرسم لوحة من الحب والولاء للسيد، مجسدة حقيقته في كونه من مريديه المخلصين.
انطلق شريعتمداري من ثقافة شعبه الذي يعيش الكرامة والسيادة الوطنية على أحسن وجه. وما مشكلة إيران مع أمريكا والدول الغربية إلا لأنها تعتز بكرامتها وسيادتها. وما كان شعبها يسند حكومته لو لا إيمانه العميق بالكرامة والسيادة الوطنية.
يعرف شريعتمداري مثل أي كاتب مثقف شيعي، تاريخ المرجعيات ومواقف المراجع بخصوص السيادة الوطنية، ويعرف حساسيتهم من أي تدخل خارجي مهما كانت درجته، فقد سلكوا بمدرجة المبادئ الإسلامية يتوارثون هذه المواقف جيلاً بعد جيل، وكابراً عن كابر.
ولأنه يعرف ذلك، فقد كتب مقاله مقتنعاً بوجود خطأ ما في صياغة هذه العبارة، وكان يرغب بإيضاح من قبل المكتب، يصحح فيه الخطأ الوارد في تلك الجملة، وذلك لكي تبقى صورة المرجع الأعلى على سموها، ولكي يُبعد عنها أي قشة طارئة قد تخدش صفاءها.
لكن حرص هذا الانسان الشيعي المُريد للمرجع، وحبّه الكبير، لم يرق للمسؤولين على مكتبه، فقد تعاملوا على أن الكاتب يمسهم، وأنهم لو قدّموا التوضيح، فان مكانتهم ستقل بضعة سنتميترات. هكذا يقيس أصحاب النظرة الذاتية الأمور، فهم يهتمون بالشأن الشخصي على حساب الشأن الأكبر.
الحادثة صارت قضية كبيرة شغلت الأوساط الشيعية، وخرجت منها لتشغل اهتمام السنة والوهابيين والعملاء والمطبّعين مع إسرائيل والعلمانيين، لقد تنافخوا للدفاع عن المرجعية الشيعية من (الإساءة) التي تعرضت لها، وهم الذين كانوا حتى قبل ساعات من الحادثة، يطعنون بالسيد السيستاني بأبشع الطعون، وينالون من المرجعية بكل أشكال الكيد والإساءة.
لقد وجدوا في كاتب المقال، فرصة ثمينة لكي يحشّدوا الحشود ضد إيران، وينقلوا القضية الى أعلى مستوى سياسي، من أجل أن تقدّم القيادة الإيرانية اعتذاراً رسمياً وبذلك تبرد نار الشيطان في الصدور، حين يرون أن القيادة التي لم تخضع لأعظم القوى الدولية، قد انحنت أمام عاصفة مفتعلة، أثار ريحها أشخاص مغرضون، ورفعت صوتها ألسنة تحمد أمريكا وتمجّد إسرائيل.
الى جانب هذه الشريحة من اتباع الشياطين، كانت هناك فئة الراكضين وراء الفتنة والباحثين عن فرصة اعتياش، فكتبوا وصرحوا وغرّدوا. والغريب أن كل هذه الفئات لم تتحرك الغيرة فيها على السيد السيستاني عندما نشرت صحيفة كويتية كاريكاتيراً مسيئاً للمرجع الأعلى. فلم نسمع لهم حساً ولا همساً ولا نفساً، بل كان بعضهم يتضاحك بنشوة الشامت.
أين كانت هذه الأصوات الغاضبة من الاساءات المتكررة على مقام المرجعية وعلى المرجع الأعلى؟
أين هذه الأصوات من الاساءات المتتالية في وسائل الإعلام السعودي والاماراتي والقطري وغيرها على مقام المرجعية والمرجع الأعلى؟
أين هذا الحماس المنتفض شهامة من الاعتداء على قيم المرجعية وخطها ومنهجها الأصيل، عندما ينسب البعض للسيد السيستاني آراءً فكرية تسيء الى مقامه والى مقام المرجعية؟
كان بإمكان مكتب السيد السيستاني أن يتعامل بروحية الحريص على مكانة المرجع الأعلى، ويبادر الى توضيح المقصود، بدل أن يتحرك مسؤولوه لتحريض الأقلام والأصوات على افتعال هجمة اشترك فيها أعداء التشيع وصنّاع الإرهاب وأصدقاء إسرائيل والتابعون لها.
كان بمقدور المكتب أن يكون حكيماً في تصرفه ومواقفه، وأن يأخذ من حكمة المرجع الأعلى ولو قدراً بسيطاً في التعامل مع هذه الأمور. وكان المؤمّل من المكتب أن يبادر الى قطع الطريق على أصحاب النوايا المغرضة الذين استغلوا المقال فأثاروا ضجة صاخبة، لتمرير مشروعهم في تفتيت الكيان الشيعي، وتصوير إيران وكأنها تتساوى مع أعداء العراق الحقيقيين الذين نشروا فيه الدمار والموت والخراب.
لشخصية مثل المرجع الأعلى الذي أطفأ نار الشياطين بكلمة منه، والذي أدار عتلة القوة فتحولت دولة الدواعش الى فلول هاربة أمام أبنائه الأبطال الذين تسابقوا يلبون فتواه ونداءه، كان الأجدر أن يكون مكتبه بمستوى فهم شخصيته ودوره القيادي البارز.
حماك الله أيها السيد المثقل بالهموم، وأمد في عمرك يا ناشر السلام.
٢٨ أيلول ٢٠٢٠