السيمر / فيينا / الخميس 24 . 06 . 2021
كفاح الزهاوي
استيقظت من النوم ولا زلت اشعر بالنعاس. قفزت من الفراش بتنهيدة وتثاؤب بصوت مرتفع مع إصدار نغمات نشاز كلما صفقت على فمي بأصابع يدي المتراصة.
كان صادق الفلاح القروي في الخمسينيات من عمره قد أرسل ابنته الصغيرة ذات عشر سنوات الى مقرنا في وقت الظهيرة، طالبا المساعدة الطبية، لأن زوجته كانت تشعر بوعكة صحية. اتخذت استعداداتي وتوجهت الى منزلهم المتواضع، كان قد بناه بنفسه من الصخور والطين على الهضبة المطلة على مقرنا. المنزل يتكون من غرفة واحدة يتوسطها موقد. وإلى جانب الغرفة، كوخ صغير كان يؤدي وظيفة المطبخ.
بعد ان انتهيت من فحص زوجته. قدموا لي قدحا من الشاي. وفي هذا الاثناء دخل شاب وهو بيشمرگة ينتمي الى احدى الاحزاب الكردية التي كانت تتواجد قواتها في نفس الوادي. كان نحيل الجسد، عيناه غائصتين في محجريهما، ضامر الوجه، يخفي تحت بشرته حزن عميق. يلبس معطف غامق اللون.
رحب صادق به وقال:
– اهلا بك يا دكتور. تفضل بالجلوس.
أجاب بصوت خفيض:
– تعيش.
ثم جلس قبالتي وعيناه تحومان الغرفة بتفحص كمن يلقي على أجوائها نظرة الوداع. ثم ارخى نظره إلى الأرض، كاد اليشماغ ان يسقط من فوق رأسه. ورغم ذلك لم يرفع عينيه نحوي. بينما صادق طلب من ابنته تقديم الشاي إلى الضيف.
وأردف صادق وهو يوجه كلامه الى الضيف:
– زوجتي كانت تشعر بالتعب منذ يوم أمس، الشكر موصول للدكتور مهند من بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي الذي لبى الطلب واعتنى بالأمر.
عندها رفع رأسه والقى نظرة سريعة نحوي مع هزة رأس خفيفة بطريقة كمن يقول مفهوم.
ثم أضاف صادق كمن لا ينسى خدمات الاخرين ايضا:
– دكتور بهزاد كلما يأتي الى هنا يساعدنا إذا احتجنا الى المساعدة.
بهزاد كان رجل في الثلاثينيات من عمره. وهو معاون صحي. جاء مع مفرزة الى المقر التابع لحزبهم في مهمة عمل.
وفي تلك الجلسة القصيرة ترك في نفسي انطباع انه انسان غامض وغير ودود، لذلك حاولت التجنب وعدم الخوض في أي نقاش ودي معه. بعد ان احتسيتُ الشاي، غادرت المنزل.
وفي اليوم الثاني في الساعة الثانية ظهراً وبينما كنت في زيارة لمقر حزبهم تناهى إليّ أصوات تشي بالشجار، عرفت فيما بعد ان بهزاد هو أحد اقطاب التناحر في هذا التراشق الكلامي مع بعض من رفاقه داخل المقر واستولت عليه بغتة رغبة جامحة في ان يغادر المقر عائدا إلى مكان إقامته في مقر آخر، رغم مناشدات البعض لإيقافه عن اتخاذ خطوة قد يندم عليها وأخبروه بمخاطر الطريق.
عند خروجه من الغرفة، كان سلاحه من نوع الكلاشينكوف الروسية قد علا كتفه والغضب يغمر عينيه، ووجهه متجهم حد الانفجار.
كان يوما ثلجياً عاصفاً. رحل وحيدا في هذا الطقس المُهلك، رافضاً الاذعان الى النصائح، بل أصرَّ على العودة بعناد مستميت الى مقرهم والذي كان يبعد بحوالي أربع ساعات سيرا على الاقدام في الأيام المشمسة.
اعتراني قشعريرة في جسدي وانا التمس قراره الخاطئ بمغادرة المكان في ظل هذا الجو العابس الكئيب والمغبر، في شق طريق غير واضحة المعالم وهو يعاني من حالة نفسية حادة، وقد تراءى لي كمن يفكر بالانتحار.
كنت ابحث عن تفسير مقنع لغضبه الذي اشتدَّ في لحظة، وقدرته الذهنية في مواصلة المسيرة لوحده في تلك الوديان العميقة التي تغدو خطرة عندما السماء لا تنقطع ثلوجها عن السقوط. لابد وأن تركيزه منخفض ورؤيته شائبة وفكره مُضْطَرِب. كل تلك العوامل بمجملها كانت كافية في ان تلقي به في متاهة شاقة.
وفي صباح اليوم الثاني توقفت الثلوج عن الهطول والسماء كانت صافية كالزجاج، والشمس تضيء بقوة خاوية من الحرارة، وكأن السماء لم تكن قبل عدة ساعات في حرب ضروس مع الأرض وهي تغرقه بوابل من ندفات الثلج.
خرج صادق في رحلة الصيد كعادته بعد ان تناول فطوره الدسم. لم يدم مكوثه طويلا في رحلته تلك حتى عاد أدراجه بسرعة لينقل خبرا سيئاً إلى رفاقه بعد ان تأكد بان بهزاد كان يرقد متجمدا بالقرب من كهف مفتوح ليس عميقا نزولا الى الوديان القريبة عنا دون إعطاء مزيداً من التفاصيل…
بادره أحدهم بسؤال بينما علامات الحزن ترتسم على وجهه:
– هل هو ميت؟
اجابه صادق بتردد، كمن غير واثق من الأمر:
– لا أدري ولكن جسده جامد ومغطى بالثلج، فأسرعت الخطى اليكم كي ابلغكم عسى ان تتمكنوا من إنقاذه.
وحال وصول الخبر، أبلغونا بالفاجعة وطلبوا منا المساعدة الطبية في إنقاذ رفيقهم. فجهزنا أنفسنا في مفرزة صغيرة، حيث كنت أحد أفرادها، بينما كانت بحوزة مفرزتهم بطانية وبعض الحطب لإشعال النار. وخلال تلك المسيرة كنت ألقي بنظراتي على الطريق الذي سلكه بهزاد. يبدو انه كان يكابد جدا وهو وحيد وسط طبقة بيضاء غمرت الجبال والوديان، والرؤية كانت سيئة، والتعب قد نال منه وأنهك قواه العضلية، حيث لم يبق سوى ثلاث أمتار نحو كهف صغير. كانت توجد عيدان وبعض الأغصان اليابسة وولاعة (شخاطة) حيث وضعت هناك للاحتياط. كان بامكانه ان يحمر بها نارا ويوقد توهجا في جسده الذي استحال الى صقيع كي يعود إلى حالته الطبيعية فيستعيد الحياة منتعشا.
مشاهداتي لأثار اقدامه الناحلة المتعثرة في الثلوج تؤكد فشله في محاولاته المتكررة واخفاقه الكبير في قدرته للعودة الى الطريق بعد ان انزلق منه على المنحدر المتواري تحت أكوام الثلوج والسعي بكل طاقته في التسلق إلى الأعلى.
ترنح عاجزا يمينة ويسرة حتى صار خائر القوى. يبدو ان الظلام قد داهمه بعد ان امتص ما بقي من ضوء النهار الباهت وتضاءل منسوب الأمل مع تسرب اليأس إلى نفسه رويداً رويداً.
السكون العميق قد خيم على المكان، والريح الباردة قد أطبقت على جسده النحيل في عناق قاس وامسكت بخناقه بعنف حتى أنهكت قواه، ووقع صريعا مستسلما الى نوم هادئ قرب صخرة كبيرة اتخذها كجدار آمن واتكأ عليها ولاذ في صمت عميق بعيدا عن وقع بساطيل الجنود وأزيز رصاصات الموت.
بعد ان وصلنا الى الموقع، كان جسده متجمداً كما لو ان دجاجة ملفوفة في كيس تُركت في المجمدة وظلت هناك في فترة غير محددة. قمنا بإشعال النار وتركناه بالقرب منها ليتسرب الدفء إلى جسمه ويساعده على تحريك الدم.
كنت أتمعن إليه عن كثب. أخال اليَّ تلك الرحلة المشؤومة وما تمخض عنها من صعوبات: في تلك الساعة. كانت أعاصير من الأفكار قد عصفت جوارحي بقوة، وكأن صقيع الجبال ذاب على حين غرة وتدفق بسرعة لينساب مياهاً مدمرة تغرق كل شيء تصادفها في طريقها.
لقد تجمدت اطرافه من البرد وسرى الخدر في جسمه الخاوي من أي سعرات حرارية. كانت هيئته تبدو للناظر كجثة محنطة.
كانت هاوية الليل الطويل تزحف في الديجور أصداء الرعب والموت وتختبئ في الطرقات وتحت الجليد وتلقي ظلالا من العزاء واليأس. كنت أرنو الى وجهه الشاحب واتخيل وحدته في تلك الساعات العصيبة في العراء مرتعداً وهو يصارع أشباح الموت وهم ينقضون عليه تحت جنح الظلام. وناقوس الليل يقرع في سكون بارد في عتمة الوادي إيذانا بانتهاء حمايته. ومن نافذة الفجر تسمع تراتيل الحزن تذوب في توان صدى صوته. ارى من آثار الأقدام المتعبة فريسة يأس أليم ناجم عن محاولاته العديدة في لجة الانهيار النفسي وهو ينحرف عن الطريق ويتدحرج ليسقط من هاوية المنحدر في بحر من أكوام الثلوج التي ما فتئت تنهمر بغزارة دون توقف.
وكلما حاول انتشال نفسه من هذا الوحل الأبيض، تضاءلت قدراته الجسدية وذابت طاقته الذاتية في رفد عضلاته قوة إضافية تمكنه على الصمود. وما ان رفع قدمه إلى الأعلى حتى أحس ان ركبتيه ترتخيان، وقدميه تثقلان فكأن الجليد قيدهما بالأرض.