السيمر / فيينا / الخميس 04 . 11 . 2021 —— عبر تاريخه الفني الثرّي، لطالما بلغ الفنان السوري الكبير صباح فخري بصوته عنان السماء، وها هو جسده اليوم يعرج إليها في رحلته الأخيرة، معانقا 6 عقود على انطلاق صوته في فضاء الطرب العربي.
محمولا على الأكتاف… ملفوفا بالعلم الوطني للجمهورية العربية السورية، سار جثمان من وصف بـ”أمير القدود والموشحات”، رحلته من أحد مشافي العاصمة السورية دمشق، ليوارى الثرى في إحدى مقابر محافظة حلب شمالي البلاد.
محافظته حلب التي استقبلته ظهر اليوم، أفصحت عن حزنها متشحة بالسواد، فزيادة عن أن للفن رسالة عالمية احتضنها بدفء صوت الفنان الكبير فخري، إلا أن أهالي مدينته العريقة لطالما رأوا فيه جزءا من كيانها وشخصيتها العميقة والمتفردة والذواقة.
منذ دخوله عبر البوابة الجنوبية لحلب، رافق جثمان الفنان الراحل صباح فخري حشد رسمي وشعبي كبير، وصولا إلى مسجد (عبد الله بن عباس) في حي الفرقان، حيث أقام مفتي الجمهورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون صلاة الجنازة على روحه.
وشارك في التشييع كل من ممثل الرئيس السوري بشار الأسد، وزير شؤون رئاسة الجمهورية، ومحافظ حلب وعدد كبير من المسؤولين.
رحلة دمشق الأخيرة إلى حلب… الناس والمنازل تودع أمير الطرب
ومع رحيل أسطورة الطرب الأصيل صباح فخري عن هذا العالم، طوى الفن السوري والعربي صفحة مجيدة من تاريخه، مختتما مسيرة مضيئة سطرها الفنان الراحل على مدى 60 عاما.
الفنان الأسطورة، كان قد فارق الحياة الدنيا يوم أول أمس عن عمر 88 عاماً قضاها عشقا للفن والموسيقا، مجسدا في إرثه الفني أقاصي ما في الحب والصوفية بآن معا.
في عام 2007، كان الرئيس السوري بشار الأسد قد قلد الفنان صباح فخري وسام “الاستحقاق” السوري من الدرجة الممتازة تقديراً لإنجازاته الكبيرة والمتميزة في خدمة الفن العربي السوري الأصيل وإسهامه في إحياء التراث الفني الذي تزخر به سوريا المحافظة عليه.
وأول أمس، نعت وزارة الخارجية السورية الفنان السوري صباح فخري في بيان قالت فيه:
ببالغ الحزن والأسى تنعى وزارة الخارجية والمغتربين قامة سورية استثنائية، وسفير الفن السوري الأصيل إلى العالم الفنان الكبير الأستاذ صباح فخري، مضيفة: لقد غدا الراحل الكبير بأعماله الفنية على مدى أكثر من نصف قرن علامة فارقة، ورمزاً للأصالة في عالم الفن والموسيقا على مستوى العالم، فكان أيقونة سورية ترمز إلى حالة الإبداع والإرث الثقافي والفني في سوريا التي شدا لها الراحل الكبير أجمل الأغاني الوطنية عربون حب وتجذّر وانتماء للوطن المقدس سورية.
وختمت بيانها بالقول: “رحم الله الأستاذ صباح فخري الذي سيرحل عنا جسداً ولكنه سيبقى بيننا أبداً بروائعه الخالدة، وهكذا هي حال الكبار فهم يرحلون، ولكنهم يبقون أكثر حضوراً في غيابهم”.
وقدمت عبد الدايم العزاء للشعب السوري ولأسرته وجمهوره ومحبيه وتلاميذه في الوطن العربي، داعية الله أن يتغمد الفقيد برحمته وأن يلهم أسرته الصبر والسلوان.
كما نعت الفنان الراحل، كل من وزارة الإعلام السورية ونقابة الفنانين السوريين.
أمير الصوفية والحب… تربع على عرش الفن منذ بدايته
والفنان الراحل صباح فخري من مواليد حلب 1933، ويعتبر من مشاهير الغناء في سوريا والوطن العربي وعلم من أعلام الموسيقا الشرقية، واشتهر كواحد من أهم مطربي الشرق.
ظهرت موهبته في العقد الأول من عمره، ودرس الغناء والموسيقا مع دراسته العامة في تلك السن المبكرة في معهد حلب للموسيقا وبعد ذلك في معهد دمشق، وتخرج عام 1948، بعد أن درس الموشحات والقدود والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والصولفيج والعزف على العود، ليتوج بعدها وعبر تاريخه الفني على رأس قائمة من أنشدوا القدود والموشحات.
تشييع جثمان الفنان السوري الراحل صباح فخري
ومن أساتذته من أعلام الموسيقا العربية كبار الموسيقيين السوريين كالشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش ومجدي العقيلي وإبراهيم الدرويش ومحمد رجب وعزيز غنام، وقد كان في شبابه موظفاً في أوقاف حلب ومؤذناً في جامع الروضة هناك.
والده كان مقرئاً للقرآن الكريم ومنشداً صوفياً، ووالدته من أسرة دينية ذات تقاليد في الإنشاد الديني وحلقات الذكر الصوفي.
التحق فخري بالتعليم في المدرسة القرآنية في حلب، حيث تعلم مبادئ العربية وعلوم البيان والتجويد والدين الإسلامي حتى عام 1947.
الموال الأول للفنان الراحل كان “غرد يا بلبل وسلّ الناس بتغريدك” عام 1946، وقد علمته إياه إحدى صديقات والدته، وتتالت جلساته مع صديقات والدته وجاراتها وبدأ يتعلم منهن ما كان يُغنى في تلك الجلسات.
اصطحبه أخوه الأكبر عبد الهادي إلى مجالس الطرب، وهناك تعرف على عازف العود والملحن السوري محمد رجب، فتعلم منه موشح “يا هلال غاب عني واحتجب”.
اختار له عازف الكمان الحلبي الشهير الذي صحبه في عروضه في مختلف المدن السورية اسم محمد صباح.
سمعه الموسيقار محمد عبد الوهاب وقال له:”مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه”. وبقي الاثنان صديقين حتى رحيل عبد الوهاب.
وخلافاً للكثير من الفنانين العرب، لم يدرس أبداً في القاهرة أو يعمل فيها، مصراً على أن شهرته مرتبطة بالإرث الفني في موطنه سورية.
من أعماله السينمائية فيلم “الوادي الكبير” مع المطربة وردة الجزائرية، كما شارك في فيلم “الصعاليك” عام 1965 مع عددٍ من الممثلين مثل دريد لحام ومريم فخر الدين، ومن برامجه التلفزيونية “أسماء اللـه الحسنى” مع عبد الرحمن آل ـرشي ومنى واصف وزيناتي قدسية، ومسلسل “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، حيث سجل ووثق ما يقارب 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وكان محافظاً على التراث الموسيقي العربي الذي تنفرد فيه حلب.
لحن وغنّى قصائد عربية لأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمداني ومسكين الدارمي، كما غنى لابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.
كما لحن لشعراء معاصرين مثل فؤاد اليازجي وأنطوان شعراوي وجلال الدهان وعبد العزيز محي الدين الخوجة وعبد الباسط الصوفي.
غنى في كثير من المهرجانات، منها “تدمر، المحبة” في سوريا، “جرش، شبيب، الفحيص” في الأردن، “بيت الدين”، “عنجر”، “عاليه” في لبنان، “مهرجان الربيع في الموصل” في العراق، “سوسة”، “قرطاج”، “الحمامات”، “القيروان”، “صفاقس” في تونس، “فاس” في المغرب، “مهرجان الموسيقا العربية” في مصر، “مهرجان الموسيقا الشرقية” في فرنسا، “مهرجان الثقافة” في قطر، “مهرجان الفرين الثقافي” في الكويت.
كما غنى باللغة العربية في العديد من الدول في قارات أوروبا وآسيا والأميركيتين وأستراليا.
دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز 10 ساعات متواصلة من دون استراحة في مدينة كاراكاس الفنزولية عام 1968.
شغل عدة مناصب منها نقيب الفنانين لأكثر من مرة، ونائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، وعضو في مجلس الشعب في دورته التشريعية السابعة لعام 1998، وعضو في اللجنة العليا لمهرجان المحبة في اللاذقية، وعضو في اللجنة العليا لمهرجان الأغنية السورية والمدير العام للمهرجان الأول والثامن.
حصد الكثير من الجوائز والتكريمات، لعل أهمها وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة في 12 شباط 2007 في دمشق تقديراً لإنجازاته الكبيرة والمتميزة في خدمة الفن العربي السوري الأصيل وإسهامه في إحياء التراث الفني الذي تزخر به سورية والمحافظة عليه.
وكنوع من الرد المباشر على انحطاط الغناء العربي في معظم نماذجه، أسس صباح فخري معهداً فنياً في مدينة حلب سماه “معهد صباح فخري للموسيقا والغناء” هو الأول من نوعه لجهة طريقة التدريس، وتعليم اللغة العربية والتجويد.
وخلال الشهر الرابع عام 2019، أقامت وزارة الثقافة حفل توقيع كتاب “صباح فخري.. سيرة وتراث” حضرها الفنان الراحل بنفسه في مكتبة الأسد الوطنية.
يتطرق الكتاب لحياة صباح فخري منذ طفولته المبكرة حتى شيخوخته المهيبة، إضافة إلى دراسة عن التراث وكل البيئة المحيطة فيه والأشياء التي ساعدته في تقديم كل هذا الإبداع، والمحطات التي مرّ بها وكيف عمل كرجل منذ أن كان طفلاً.
وتطرق أيضاً إلى كل شيء في حياته، فلسفته وإيمانه ونظريته بالحياة وتصوفه وثقافته ويثقف نفسه بنفسه وحفظه قصائد عديدة عبر مخزونه اللغوي الكبير والثقافي العظيم.
تقدير عالمي وحب جماهيري
ونال الفنان فخري شهادة تقديرية من محافظ مدينة لاس فيغاس مع مفتاح المدينة، وقلد مفتاح مدينتي ديترويت في ولاية ميشيغان ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع شهادة تقديرية، وأقامت له جامعة U. C. L. A حفل تكريم في قاعة رويس وقدمت له شهادات التقدير.
أقام له الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة حفل تكريم وقلده وسام تونس الثقافي عام 1975، كما قدم له سلطان دولة عُمان السلطان قابوس وسام التكريم في عام 2000.
نال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية بدمشق عام 1978، وجائزة الغناء العربي من دولة الإمارات العربية المتحدة.
كرمته وزارة السياحة المصرية بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية، وكرمه مهرجان ومؤتمر الموسيقا العربية في مصر، وقدّمت له كتب الشكر لمشاركته ومساهمته لعدة سنوات في المهرجانات، التي أقيمت على مسرح دار الأوبرا الكبير ومسرح الجمهورية في القاهرة، ومسرح قصر المؤتمرات في الإسكندرية.
من خلال مشاركته في مهرجان فاس للموسيقا العالمية العريقة في دورته العاشرة لعام 2004، قدّم له رئيس جمعية فاس سايس شهادة تقدير وشكر والعضوية الفخرية لمجلس إدارة المهرجان.
قدمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في عام 2004 الجائزة التقديرية، مع درع المنظمة ووثيقة الأسباب الموجبة لمنح الجائزة، لحفاظه على الموسيقا العربية ونشرها.
وقبل عامين من الآن، وقف الفنان الراحل لآخر مرة على مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون ضمن الفعاليات الفنية المرافقة لمعرض دمشق الدولي بنسخته الحادية والستين، حيث أحيت الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية بقيادة عدنان فتح اللـه حفلاً تكريمياً لأحد رموز الفن العربي، أحياه ستة فنانين من تلامذته عبر عدة أجيال، وقدم وزير الثقافة حينها محمد الأحمد درعاً تكريمياً للراحل.
المصدر / سبوتنيك