الرئيسية / ثقافة وادب / قصة / في الحافلة

قصة / في الحافلة

السيمر / فيينا / الأربعاء 26 . 10 . 2022

علي محسن التميمي

خرج كعادته بعد ان (مشط) شعره الذي اشتعل شيبا وهو لايزال في نهاية العشرينات , وصل المحطة واستقل الحافلة التي انتظرها دقائق , كانت مزدحمة بالركاب دفعته جموع الراكبين الى الامام , امسك بالمقبض المعلق بالسقف, بدت اكياس الناس تضايقه , لكنه لم يعبا بها , لفتت نظره طفلة يبدو عليها سيماء الذكاء , ماسكة بيد امها , احب ان يمازحها , لحبه الاطفال لدرجة جنونية , احب الطفولة التي يرى فيها البياض الناصع , والبراءة الصافية , ولانه حرم من الزواج والاطفال , لان ظروف الجهاد فرضت ذلك وضع يده على راس الطفلة , داعب شعرها , محدقا بها يرنو الى البراءة الفواحة منها.

قال ممازحا , اين تذكره الركوب ؟ قالت , الاتعرف انني صغيرة , واركب مجانا , قال لها هل تحبين السفر الى بلدي ؟ قالت هل هو قريب ام بعيد؟ قال بل بعيد انه في الشرق , قالت لقد سمعت ببلدك , كان جميلا ساحرا, لكن الحرب دمرته , وسممت مياه انهاره , وقتلت شبابه . لقد شاهدته في التلفزيون وحكت لي المعلمة , قالو لي فيه الحر والحرب.

قال وهل تخشين الحر؟ قالت نعم, لكن الحرب يشمئز منها بدني , تسرق الابتسامة من شفاه الناس , خاصة اذا مزجت بالظلم , وحكامكم ظلمة لا يتقنون سوى الحروب! قال صدقت , لقد ماتت الابتسامة ودفنت الاحلام , الحرب مرعبة ثم قال لها انت كبيرة لانك تعرفين اشياء كثيرة وعليك دفع ثمن تذكرة الركوب , قاطعته ولكنني صغيرة , قالت حسنا اخبرني متى تركت وطنك واهلك؟ قال جئت قبل خمس سنوات , هاربا من الحر ,والظلم وانقطاع الكهرباء ومن البعوض والذباب والوباء الذي غزا بلدي , قالت لماذا لا تكفاحون هذه الافات , وهل هي مرعبة حقا؟ هنالك شي تجهلينه حقا انه التعذيب الجسدي والنفسي البشع الذي لايخطر على بال انسان وكذلك الاعتداء على الاعراض , قالت حكامكم حقا قساة.

قال مقاطعا , تصوري ان الذي يشتكي من الحر وانقطاع الكهرباء يقطعون لسانه , قالت والذي يشكو كثرة الذباب ، قال يقتلعون عينه اليمنى , قالت والذي يشكو كثرة البعوض ؟ قال يقتلعون عينه اليسرى , قالت والذي يشكو الظلام الدامس ؟ قال يقطعون رجله ويده من خلاف , قالت والذي يشكو الجوع؟ قال يدفنونه حيا , قالت وان اشتكى الجياع من الجوع مرة واحدة؟ قال يدفنونهم احياء جميعهم(بالشفلات)ثم اطرق متنهدا متاوها, ودارت امام ناظري ذكرى سجنه الانفرادي الرهيب ثم سالته الطفلة , هل تركت اهلك هنالك؟ قال نعم .. قال : نعم.. قالت هل هم اغنياء , ام فقراء , قال تركتهم اغنياء , ربما افقرهم الجلاد. قالت: الاتخشى عليهم من ان يدفنوا احياء؟ قال بلا شك, قالت ادع الله لهم في صلاتك, ليزيح عنهم كابوس الظلم والظلام , لينعموا بروْية النور الذي وهبه الله لهم.

ثم اخرج للطفلة قطعة حلوى , قالت لا اخذها, قال , لانها ممزوجة بروائح الحرب والغاز اسلم الذي يتجول بشواركم مختالا, ويحلق في سمائكم , قال لا هذه الحلوى من بلدكم, لانني عندما غادرت بلادي هاربا , لم اجلب معي شيئا, قالت ساْخذها, ولكن لماذا لا تعرضوا قضيتكم على العالم والجرائد والمجلات ليطلع عليها الناس , قال العالم لايسمع ولا يبصر واغلب الجرائد مرتزقة مشتراة, ولكن سنكتب قضيتنا بدماء شهدائنا في صفحات التاريخ, وصلت الحافلة وودع الطفلة ونزل ليذهب الى معهد المعلمين الذي يدرس فيه , حمل كتبه من الخزانة, ودخل الصف وسلم على الطلاب , وشرع بكتابة موضوع الدرس الكلاسكية الجديدة, ورائدها الجواهري.

حييت سفحك عن بعد فحييني             يا دجلة الخير يا اْم البساتين

وبدا بتحليل القصيدة وقد اختفى عن طلابه دمعه خرساء .

هذه خاطرة كتبتها عام 1982 عندما كنت مدرسا بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بمدينة اْسفي بالمغرب, فعند خروجي من البيت ,ركبت (الباص) حافلة نقل الركاب فصادفت طفلة في الحافلة مع امها, والطفل سن الخامسة لا يدفع تذكرة الركوب , فمازحتها وكانت ذكية جدا وبعد مغادرتي الحافلة وتوديعها دخلت المعهد وذهبت لقسمي ومن الصدف ان يكون موضوع الدرس الجواهري (الكلاسكية الجديدة) وبعد عودتي للبيت دونتها ونشرتها عام 1985 مع قصة الشحرور الذهبي الخطير بمجلة العالم الصادرة بلندن ثم بجريدة نداء الرافدين عام 1996 ومن عجيب الصدف ان يتحول الخيال الى حقيقة بدفن المعارضين العراقيين بمقابر جماعية صدامية.

اترك تعليقاً