فيينا / الأربعاء 18. 06 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
محمد علي محيي الدين
في مدينة الحلة، حيث تتشابك جذور النخيل مع آثار بابل، وُلد الباحث والمترجم حسين علوان حسين يوم الثلاثين من آذار عام 1951، في زمن كانت فيه الكلمة تحفر طريقها في وعي العراقيين كجذوة مقاومة أو كبذرة أمل. نشأ في مدينة تتكئ على مجد قديم وتقاوم خيبات الحاضر، فكبر وفي يده كتاب، وفي قلبه نزوع حاد إلى المعرفة.
منذ نعومة أظفاره، بدا كأنه لا يكتفي باللغة العربية، تلك التي أنجبت المتنبي والجاحظ، بل كانت عينه على لغات أخرى، فاختار الانكليزية جسراً إلى العالم، والتحق بكلية التربية / جامعة بغداد، متخرجًا من قسم اللغة الإنكليزية عام 1972، ليبدأ رحلته الطويلة في تدريس اللغة وتفكيك النصوص، في المدارس أولًا، ثم بين أروقة الجامعات وقاعات المحاضرات.
لكن حسين علوان لم يكن معلّمًا تقليديًا، بل كان باحثًا يحدّق في الكلمات كما يحدّق الحفار في طبقات الأرض، باحثًا عن المعاني الدفينة، مستقرئًا التاريخ، ناقدًا النص، ومُترجمًا الروح لا الكلمات فحسب.
كان التحوّل الأبرز في حياته حين استأنف دراسته الأكاديمية بعد سنوات من الخدمة، فحصل على شهادة الماجستير من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1997 في الأدب الإنكليزي، ثم الدكتوراه في علم اللغة الإنكليزية عام 2004. ومع ذلك، لم ينفصل أبدًا عن هموم الواقع، ولا عن إرث الحلة الثقافي، ولا عن صدى بابل في أعماقه، بل ظلّ يربط كل ما يكتب ويترجم بهذا الإرث، حتى وهو ينقل إلينا صوت الروائي النرويجي كنوت هامسن في نساء المضخة، أو يُعيد تشكيل الأسطورة في ملحمة كلكامش.
وهو في كل ما كتب وترجم، ظل مخلصًا لنظرة نقدية لا تنخدع بالسطح، بل تغور في المعنى. يرى فيه بعض النقاد أنه جسر ثقافي رصين بين الشرق والغرب، رجلٌ يعرف أن الترجمة ليست مجرد نقل، بل فعل خلق، حيث يعيد الكاتب ولادة النص في سياق جديد، بثقافة جديدة، دون أن يُفقده روحه.
يرى الناقد فاضل ثامر، في مقالة نشرها في إحدى الدوريات، أن حسين علوان “يتعامل مع النص الأجنبي كما يتعامل الجراح مع الجسد المريض: بدقة، بحذر، وبحبٍّ لا يُقال”، بينما أشار الناقد علي حسن الفواز إلى أن “مترجمًا مثل حسين علوان يُثري المكتبة العراقية لأنه يختار نصوصًا تحمل قيمة فكرية وفنية، ويقدّمها بلغة أنيقة وبترجمة مسؤولة”.
ولم يكن وفاؤه للترجمة وحدها، بل امتدّ إلى المسرح والرواية والقصة، فكتب بابل تزهو بالنصر، ومعمعة العميان، وحوار الطرشان، وهي مسرحيات تقف على الحافة بين الرمزية والواقعية، وتحمل في نسيجها السياسي والاجتماعي نقدًا ساخرًا وواعيًا، بينما روايته رجع الوجع وزعبيل في بابل تتناول تمزقات الإنسان العراقي، متوغلة في النفس المحلية دون أن تغرق في الانغلاق.
أمّا في كتابه الصراع في ملحمة كلكامش، فقد قرأ التراث بعيون معاصرة، وراح يبحث عن ذلك “الكلكامش” الجديد الذي لا يهزم الموت بالسيف، بل بالمعنى، بالمعرفة، وبفهم الحياة كما هي.
كان أيضًا ناقدًا يُجيد الإصغاء إلى النصوص الشعرية، فاشتغل على مختارات من شعر موفق محمد وجبار الكواز، وكتب في قراءاته الشعرية مقالات تنبض بحسّ تحليلي عميق، لا يفصل الجمال عن الفكر، ولا الوزن عن الرؤيا.
لقد كان عضويته في اتحاد أدباء وكتاب بابل منذ 1984، وجمعية المترجمين العراقيين، انعكاسًا طبيعيًا لمشروعه الثقافي، لا كصفة تكميلية، بل كامتداد لفعله وحضوره. وحين كتب عن احتلال العراق عام 2003، لم يكن شاهدًا فحسب، بل كان يحاكم اللغة، ويفكك الشعارات، ويعيد ترتيب الجُمل لتكشف ما خفي من أهداف وخيانات.
أما مقالاته المنشورة في الصحف الورقية والإلكترونية، فهي مزيج من التأمل التاريخي والنقد اللغوي والسياسي، وهي تكشف عن عقل يُجيد العبور بين السياقات دون أن يتورط في سذاجة الأدلجة أو ضباب الخطابة.
يكتب حسين علوان كمن ينقّب في الحطام عن جواهر لم تُكتشف بعد، مترجمًا وكاتبًا، باحثًا وأستاذًا، ظلّ، رغم تقلبات العراق ومآسيه، وفيًّا للغة، للأثر، للمعنى، ومخلصًا لرسالة ثقافية ظلّت تتأرجح دومًا بين الأمل والانطفاء.
في زمن تعلو فيه الضوضاء على المعنى، يظل حسين علوان أحد الذين اختاروا أن يكونوا أوفياء للحرف، لا كوسيلة، بل كغرسٍ ينبت، ببطء، على شاطئ بابل.
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات