السيمر / فيينا / الخميس 18 . 06 . 2020
د. نضير الخزرجي
عندما ينخرط المهاجر من الشرق الى الغرب في الحياة اليومية يصطدم بأمور لم يعهدها في البلد الذي أتى منه، ويوما بعد آخر يتكشف له واقع الحياة التي جاء إليها مرغما بسبب الهجرة القسرية أو طوعا بحثا عن حياة أفضل، وعدد غير قليل من الجاليات العربية والمسلمة التي حطت أقدامها في بلاد الغرب ساقتها رياح الأوضاع السياسية السيئة التي تعصف في سماء أوطانها، وقد تعيش في الأشهر الأولى من المجيء حالة من النشوة مقارنة بما كانت عليه، ولكن سكرة النشوة تبدأ بالتبخر كلما اندكت في الحياة اليومية، لاسيما وإن قوانين العمل لا تفرق بين مواطن ومهاجر ولاجئ ومقيم، فهي تحكم الجميع وتلزمهم وعلى رأسها الضرائب.
ونقطة التباين بين الشرق والغرب، أن المواطن الأصلي نشأ في بيئة مزدحمة بأكثر من عشرة أنواع من الضرائب، والقادم الجديد تعقد الدهشة فاهه وهو يواجه أنواعا من الضرائب لو تحدث بها إلى أهله وبني جلدته لارتابوا فيما يقول وظنوا فيه سوءأ، ومهما حاول المرء أن يعكس واقع الحياة في الغرب في ظل ضرائب متعددة فإنه يصعب على الشرقي استيعابها، وكيف له أن يستوعب وضعا يحرم فيه مشاهدة التلفاز إلا أن يدفع ضريبة سنوية حسب نوع شاشة التلفاز إن كان ملونة أو بالأبيض والأسود، وكيف له أن يستوعب بأن عليه أن يدفع ضريبة شهرية تسمى ضريبة المسكن تذهب للصحة والتربية والتعليم وتنظيم الحدائق ورفع القمامة وتنظيم الأرصفة وما شابه، أي أنه يتنفس الهواء النظيف بما يدفع من ضريبة وإلا تحولت الحدائق إلى زرائب، ويدفع ضريبة للمدارس حتى وإن لم يكن له أولاد يدرسون، وكيف له أن يستوعب بأنه لا يستطيع أن يسير بمركبته ودراجته النارية إلا ان يدفع ضريبة الشارع السنوية وإلا حجزوا على سيارته وساقوه إلى المحاكم، هذا ناهيك عن التأمين السنوي الإجباري على السيارة والفحص السنوي الإلزامي فضلا عن الاموال المستحصلة في المواقف العامة، وكيف له أن يستوعب بأنَّ عليه أن يدفع مالا مقابل صف سيارته في موقف سيارات مستشفى حكومي عام لمراجعة طبيب أو عيادة مريض، بالطبع لا نتحدث عن ضريبة الراتب التي تصل إلى 40 بالمائة من الراتب الإسمي.
قبل سنوات وقعت في مشكلة مع البلدية حيث تأخرت في دفع الضريبة لضيق ذات اليد، وبعد اسبوع من انتهاء موعد الدفع الشهري وصلتني رسالة بخط أحمر إشارة بوجود إنذار، وهي رسالة كنت أتوقع وصولها على مضض، ومثل هذه الرسالة تصل الى الكثيرين وهي رسالة شؤم، لأن على صاحبها أن يدفع المتأخر خلال أسبوع وإذا تعذر عليه ذلك وانتهت المهلة تحولت إلى غرامة كبيرة عليه أن يدفعها مع المتأخر خلال الأسبوع الثاني من انتهاء الأسبوع الأول وإذا تأخر في الدفع انتهى به الأمر إلى المحكمة، وإذا لم يحضر ندبت المحكمة من يطرق عليه الباب والدخول إلى الدار عنوة لاستحصال المبلغ المطلوب مع الغرامة وأجور المحكمة من خلال الحجز على الأجهزة الكهربائية وكل ذي قيمة مالية بما يعادله، وحيث دفعت المتأخر بعد مضي الوقت المعلوم، تضاعفت الضريبة دون أن أعلم وعندما طرق مندوب المحكمة الباب ليدخل البيت بقوة القانون أوقفته بقوة، ولكنه أفهمني بأنه قد سبق السيف العذل وما عليّ إلا أن أذعن، وعندما أريته ما يثبت دفعي للمبلغ والغرامة وإن بعد مضي الوقت، تفهم وضعي وأمهلني حتى الساعة الخامس عصرا لدفع المبلغ وإلا فإنه قادم صباح اليوم التالي ومعه قوة من شرطة المنطقة لتفعيل قرار المحكمة أو إقتيادي إلى مركز الشرطة إذا مانعت، ولأني أدرك الواقع وما سيؤول إليه، أذعنت للأمر صاغرا، فقد دخلت من قبل مديرية أمن كربلاء سنة 1979م لأسباب سياسية وتعرضت للتعذيب الجسدي والنفسي وأنا يافع، فلست براغب لأدخله ثانية في بلد الغربة لأسباب مالية وأنا في الخمسينات.
ومن المفارقات أن شبيه ذلك حصل معي في شهر أبريل نيسان 2020م، حيث توجهت كما هي عادتي قبل نهاية الشهر لموقع البلدية على الشبكة البينية لأدفع ما علي من ضريبة شهرية فوجدت المبلغ قد خفض بنحو 40 بالمائة فشكرت في نفسي بلديتنا التي رأفت بالمواطنين الذين تعطلت حياتهم المعاشية بسبب جائحة كورونا، وبعد أسبوع من الدفع تلقيت رسالة إنذار بخط أحمر من البلدية يمهلونني فيها أسبوعا لدفع فارق الضريبة وإلا تحولت إلى غرامة مالية بعد مضي أسبوعين وبعدها المحكمة إذا امتنعت، ولأن لي تجربة سيئة سابقة مع البلدية نفسها فقد لبّيت طلبهم على عجل رغم أن الخطأ كان من عندهم، وتبخّر عندها حسن ظني بالبلدية.
الضريبة ومشاكلها التي تقل كثيرا في بلدان الشرق هو محور كتيب “شريعة الضرائب” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة ضم 74 مسألة فقهة و22 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وقد سبقتها كلمة للناشر ومثلها للمعلق مع مقدمة تمهيدية للمصنِّف.
مصاديق الضريبة
لشدة تعلق الضريبة بحياة الناس اليومية، أخذا أو عطاءً، طوعًا او رغمًا، عن طيب خاطر أو بقوة القانون، فإن المفردة من حيث الأصل تكاد تكون في أذهان الناس منحصرة باستحصال المال دون معانٍ أخرى، ولكن بالعودة إلى قواميس اللغة وما عليها الحياة اليومية فإن للكلمة معان كثيرة حالها حال الكثير من المفردات العربية التي تتميز بالإشتقاقات والمصاديق المتنوعة.
فالضريبة مأخوذة من ضرب يضرب أضرب، ومذكرها ضريب أي المضروب، ومن معاني الضرب الحركة والسفر ومن ذلك قوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) سورة المزمل: 20، ومن معانيها الإهمال مثل قولنا: ضرب الأمر عرض الحائط، ومن معانيها السجية والطبيعة، ومن معانيها النكاح مثل قولنا: ضرب الفحل الناقة، ومن معانيها الفرض والوجوب، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهي: (الضريبة: بفتح أولها وهي الجزية، وهي مأخوذة من الضرب بمعنى الفرض حيث يقال: ضرب عليه كذا، بمعنى فرض عليه، وكل مال يُفرض على أحد يُقال له ضريبة والجمع ضرائب)، وبشكل عام فإن الضريبة في مصطلح أهل الفن: (هو المال الذي تأخذه السلطات من الشعب بشكل دوري وبنسبة معينة سواء كان الفرض على الأموال أو الأعيان أو على الرؤوس والأنفس).
ولأن الإنسان ملتصق بالأرض فإنه يحب الأخذ دون العطاء، فإذا أخذ مدّ كفيه وبسطهما ليملأ جيوبه وسلته بأكثر ما يشاء، وإذا أعطى قبض على يديه وشبك على أصابعه خشية الإنفاق، رغم أنَّ العطاء الشرعي من خمس وزكاة هو نماء للأموال وتطهير للنفوس، ولذلك ورد الخطاب الإلهي: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) سورة التوبة: 103، والتزكية من الشيء نماؤه، وفي المال زيادته، مثلما هو جز صوف الخروف فيه نماء له، ومثلما هو تقليم الشجرة بقطع الأغصان والسيقان الزائدة وفيه قوة في جذعها وامتداد في جذورها وتحسن في ثمارها، والضريبة الشرعية في الواقع عطاء إن أخذ من أصحاب المال لتطهير نفوسهم وتنمية رؤوس أموالهم، وهو عطاء إن صرف في موارده بشكل سليم لرفع حاجة الفقير وتنجيز إحتياجات المجتمع، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه: (الضرائب الموضوعة من قبل النظام الحاكم، والأساس في كل ما يرتبط بما هو رعاية العدل والعدالة ولحاظ الوضع العام والخاص لأبناء البلاد، فالدولة هي المسؤولة أولا وبالذات لجميع ما يحتاج إليه الشعب حتى لا يواجه المشاكل الإقتصادية والمعيشية).
ولأن الزكوات الشرعية أو الضرائب بالتعبير الإقتصادي، هي عصب الحياة وفيه سلامة المجتمع ونموه وتطوره، فإن الممانعة عن دفعها أو إيصالها لمستحقيها أمر على غاية من الخطورة وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إنكار الخُمس أو الزكاة يُعد إنكارًا لضروريات الدين، إلا إذا كانت هناك شبهة)، ولهذا في النظام الشرعي: (يجوز مجازاة من لا يدفع الضرائب الشرعية، كما هو الحال فيما لا يدفع الخُمس والزكاة)، وهذه الشرعية مقيّدة كما يضيف الفقيه الغديري في تعليقه: “في الدولة الإسلامية الشرعية أو المشروعة بالإنتخابات العادلة”.
ثروات غائبة
تساؤل كبير وعريض وبعقلية الشرقي الذي يعيش بين ظهراني الغرب .. أين تذهب أموال النفط ومبيعات السلاح في البلدان التي تسير فيها الحياة اليومية على الضرائب فقط، وبخاصة وإن شعار (نفط الشعب للشعب موتي يا رجعية) طار في الآفاق سنوات طويلة في بلداننا الشرقية النفطية والغازية، فلا وجد مجتمع نفط الشعب للشعب رفاهية ونعيما، ولا اجتاز مجتمع الضرائب حاجز الفقر، وكل في فلك العبودية لأصحاب السلطة والمال يسبحون.
ورب تساؤل عريض يدغدغ المشاعر: كيف عاشت المجتمعات المسلمة في عصر الإسلام الاول حتى جرت الأموال في أيديهم وانتعش الإقتصاد، ولم يُر في المدينة أو الكوفة أو أفريقيا فقير، ولم يكن حينها نفط ولا غاز ولا معادن ولا فلزات، وقد اقتصرت الضرائب الشرعية على الخمس والزكاة وهذه معروفة المصارف، وبتعبير الفقيه الكرباسي أن الإسلام: (فرض ضريبتين رئيسيتين، الأولى: الخمس وهو بمثابة ضريبة الدخل لمرة واحدة وذلك بعد استثناء المصاريف التي كلّفت العامل والمالك، وبعد صرف ما يحتاجه المرء من مأكل ومشرب ومسكن وسفر وأي حاجة أخرى. والثانية: الزكاة التي تخص تسعة أشياء فقط: الأنعام الثلاثة الشائعة الإستخدام والتكاثر والتوالد: الإبل والبقر والغنم “أو البدائل عنها”، والغلات الأربع العامة المنفقة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب “أو بدائلها”، والنقدان: الذهب والفضة “أو البديل عنهما” مما غلا ثمنه، ومن لا يملك ما سبقه ذكره فلا شيء عليه)، ويتكلف بيت المال سد حاجة الفقير وأصحاب الدخل المحدود.
فالمجتمع الأول كان يتفهم قيمة الزكاة والخمس في حياة الأمة، وكان القانون هو القوة التي بها يستحصل الحاكم ما تخلف عنه التجار والمزارعون والرعاة لسبب ما، لأن الغني مثلما هو الفقير كان يدرك أن بيت المال ليس مصرفا مفتوحاً للفقير فحسب، فالكل فيه شركاء، ولأنه على درجة من الأهمية فإننا نجد في رسالة الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر فارس الإسلام مالك الأشتر النخعي فقرة مهمة تخص امر الضرائب أو الخراج بالمفهوم الإسلامي حيث يشير عليه السلام على واليه أن: (تفقَّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج).
ولأن صلاح المجتمع هو الغاية من أصل الضرائب، فإنه ينبغي أن تكون الحكومة صالحة ولا تأخذ الحاكم في الله لومة لائم في قراراته بما يخص رفاهية المجتمع لأن فيها حصانته تحول والحاكم من فرض ضرائب أخرى غير الزكاة والخمس، وحسبما يقول الفقيه الغديري: “وإذا كانت الدولة الصالحة تقوم بتنظيم القدرات الموجودة في الإستفادة منها بشكل صحيح فلا يبقى المجال بوضع الضرائب الإضافية والإستثنائية على أموال الشعب”، وقد دلت تجارب الشعوب بخاصة في البلدان الرأسمالية أن زيادة الضرائب وتنوعها مدعاة لمزيد من الفقر بخاصة لأصحاب الدخل المحدود الذين عليهم دفع فواتير الماء والكهرباء والغاز والتلفاز والهاتف، وغير ذلك، وليس من الغريب ان تزداد أعداد الوفيات بين كبار السن في الشتاء في بلدان رأسمالية ديمقراطية وذلك لعدم قدرتهم على دفع فاتورة الغاز فيفضلون مضطرين الإكتفاء بالملاحف والبطانيات، وليس من الغريب ان يبيت الملايين بلا عشاء وذلك لتوفير المال على الفواتير التي تهلك ظهر رب البيت، وأغلب الشركات هي شركات رأسمالية غير حكومية لا تتعامل بقانون الرأفة والرحمة، فما على المواطن إلا الدفع أو القطع تلاحقه بعد القطع الضرائب أو المحاكم.
ويواصل الفقيه الكرباسي في أحكام الضرائب بيان مشروعية وضع ضرائب استثنائية محددة الزمان تفرضها المستجدات الإقليمية والدولية، وحكم التهرب من دفع الضرائب الشرعية في النظام الشرعي والنظام غير الشرعي، وحكم التصرف بالضرائب المأخوذة دون وجه حق، والموقف الشرعي من الضرائب المستجدة في النظام المدني الحديث مثل ضريبة العقار بيعًا وشراءً وضريبة المطار وضريبة عبور الجسور بين المقاطعات وضريبة الشوارع الحديثة بين المدن والمحافظات وضريبة الجمارك وأمثال ذلك كثيرة في عالم اليوم.
وخلاصة الأمر فإن الخلل الذي نلحظه بصورة جلية للواقع الإقتصادي المتردي يعود في جانب كبير منه إلى عدم التعامل السليم مع الضرائب الشرعية والقانونية ومصارفها، وامتناع أصحاب الأموال أو تقصيرهم في دفع ما عليهم، فيتحقق في كل زمان ومكان وبصورة بشعة ما حذَّر منه الإمام علي عليه السلام: (ما جاع فقير إلاّ بما مُتِّع به غني).
الرأي الآخر للدراسات- لندن