د . ميثم الجنابي
هناك حقائق لا تحتاج إلى براهين وأدلة إضافية ووثائق مادية من اجل كشف ماهيتها. وذلك لتطابق الوقائع والحقائق في الأشياء، التي تجعل من الممكن الحكم عليها بصورة مباشرة. مثل أن نقول، بان كثرة الذباب في مكان ما يعني وجود قمامة أو وساخة. وهذا بدوره يدل على انعدام الوقاية الصحية وثقافة النظافة. وحقائق الوجود والطبيعة والسياسة من حيث الجوهر هي من نفس هذه الفصيلة. وذلك لان الحقيقة منطق، والمنطق هو الصيغة المجردة لإدراك وجود الأشياء وعلاقاتها بمعايير السببية. وسواء جرى استعمال الاستدلال أو الاستنباط، فأنهما كلاهما يوصلان إلى إدراك الحقيقة كما هي. وما عدا ذلك أو بدونه أو بالخلاف عنه هو مجرد رغبات وأمان وأهواء كما كان يقول القدماء، أو تصورات وأحكام أيديولوجية جاهزة كما نقول اليوم.
وقد تكون المحاولات المحمومة والمنسقة لما يسمى بتخوين المالكي وتجريمه عما جرى وبجري في العراق بعد انهيار التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هو احد الأمثلة النموذجية لهذه الحالة. الأمر الذي يشير إلى وجود مشكلة كبرى تتعلق، من وجهة نظري، بقضية الفكرة الوطنية العراقية. وذلك لان القضية الوطنية العراقية الآن هي إحدى القضايا الأكثر جوهرية وإشكالية بالنسبة للحاضر والمستقبل. فهي الإطار الذي يمكنه أن يجمع الجميع، ومن ثم يولد مرجعية كبرى يجري الصراع فيها وضمنها من اجل تطويرها، أو بالعكس، يجري تفتيتها وتدميرها من الداخل عبر إثارة مختلف أشكال الانتماء البدائي لما قبل الدولة الحديثة وأدواته التقليدية.
ذلك يعني، إن “قضية المالكي” ليست شخصية وليست حزبية، بقدر ما هي قضية وطنية عامة. فتناسق الجوقة الإعلامية العنيفة ضده وإجماعها المتشابه في الأداة والعبارة من قبل أطراف مختلفة ومتناقضة ومتصارعة ومتناحرة، يطرح بالضرورة السؤال المتعلق بالغاية القائمة من وراءها. إذ ما هو الشيء الذي يجمع البرازاني والنجيفي وعلاوي ومقتدى الصدر وعمار الحكيم والضاري وأيتام صدام والقاعدة وداعش وبقايا البعث ومملكة ال سعود وإمارة قطر وتركيا والأردن وإسرائيل والولايات المتحدة؟ هل هو الحق والحقيقة؟ والخير والجمال؟ والعدل والمساواة؟ والفكرة الوطنية والقومية؟ والديمقراطية والشرعية؟ وفي حال الإجابة على هذه الأسئلة، فان الغاية تبدو جلية من دون الاستفاضة بما جرى ويجري من مغامرات ومقامرات ومؤامرات وتدمير وتفجير وتخريب وما إلى ذلك، ألا وهي تنوع المصالح ووحدة الغاية القائمة في السعي لتفتيت الدولة والمجتمع والنظام السياسي الناشئ في العراق. بعبارة أخرى، إن محاولات تخوين المالكي وتجريمه شبيه بهجوم الذباب على قمامة الانهيار المادي والمعنوي لجسد الفكرة الوطنية العراقية. وذلك لان هذه القوى لم ولن تجتمع إلا بهذا الصدد، تماما كما اجتمع أسلافها قبل عقود على الإطاحة بالزعيم الوطني عبد الكريم قاسم.
وبما أن الزعامة الوطنية حالة تاريخية، اي ليست مطلقة وليس لها نموذج ثابت واحد، إلا أن مقياسها العام يقوم في محاولة الحفاظ على وحدة الدولة واستقلالها وتوحيد صفوفها بمعايير الفكرة العامة التي تذلل نفسية وذهنية الانتماء الجزئي والعابر. وقد كان ذلك الأمر سهلا بالنسبة لعبد الكريم قاسم، بسبب توحد المقدمات الوطنية آنذاك، والصعود الاجتماعي واليساري، والحالة القومية العربية والعالمية الداعمة لفكرة التحرر والاستقلال. بينما تختلف الحالة أمام المالكي اختلفا هائل من حيث مقدماتها وتعقيدها. بل لا معنى للمقارنة بينهما بهذا الصدد. فقد جاء المالكي إلى الحكم في ظل انهيار شامل للدولة والفكرة الوطنية، وخراب اقتصادي شبه تام، وتحلل اجتماعي وانحطاط معنوي وأخلاقي مريع، وحصار عالمي قاس لعقد ونصف من الزمن، وتكالب إقليمي، وأخيرا احتلال أمريكي عسكري مباشر وتحكم تام بكل المفاصل الأساسية “لإعادة بناء الديمقراطية” فيه.
كما أن وصوله للسلطة جرى بعد تثبيت أسس النظام السياسي للمحاصصة، وإقرار الدستور المخرب، وتصنيع النخبة السياسية الفاسدة، وتوطين ثقافة الخيانة للمصالح الوطنية، وظهور وتوسع وتجذر التجزئة الطائفية والجهوية والعرقية، واشتداد قوة وبأس الميليشيات والعصابات، وتفجير الصراع الطائفي. وكل ذلك على خلفية مجتمع متهرئ وإدارة بالية هي عصب الفساد والتحلل، وفقر مدقع، وانعدام شبه تام لمنظومة الصحة والتربية والتعليم، وضمور مطلق للعلم والصناعة والثقافة، وزراعة بدائية. باختصار، بلد بنيته التحتية أشبه بقنوات مجاري المياه الثقيلة والآسنة.
وبالتالي، فان المهمات التي واجهها المالكي آنذاك كانت (وما تزال) من الصعوبة التي لا تستطيع تنفيذها على أفضل وجه، أية شخصية بمفردها، حتى في حال افتراض نواياها النبيلة وإرادتها القوية ورؤيتها الإستراتيجية الواقعية والعقلانية. دع عنك انعدام هذا النوع من الشخصيات السياسية. وينطبق هذا على الأحزاب والتيارات الحالية الموجودة في هرم السلطة. والأسباب العامة معروفة ألا وهي انعدام تقاليد النظام السياسي العقلاني، وضعف الشرعية والقانون وحكم الدستور، وتلاشي فكرة المواطنة الفعلية، والانهيار شبه الشامل للبنية الاجتماعية الاقتصادية الحديثة والعلم والصناعة والتكنولوجيا والثقافة.
إلا أن المالكي واجه هذا الواقع من خلال نمو وتهذب رؤيته السياسية المبنية على أساس إدراك الإمكانية وتحديد معالم الرؤية المستقبلية للدولة والنظام السياسي والوطن والمجتمع.
فقد نمت خياراته الإستراتيجية في السياسة الداخلية صوب إدراك أهمية وجوهرية الفكرة الوطنية، ووحدة الدولة ومركزيتها، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وإعادة بناء الجيش وتسليحه، وإعادة كتابة الدستور أو إصلاحه، وأخيرا إدارة الصراع السياسي عبر فكرة الأغلبية والمعارضة. وقد واجهت القوى المشار إليها أعلاه وعملت المستحيل من اجل عرقلة هذه الخيارات.
كما نمت خياراته الإستراتجية في السياسة الخارجية من خلال البحث عن علاقة معتدلة للقوى المؤثرة في السياسة العراقية (إيران والولايات المتحدة) مع التركيز على البعد العميق والضروري للعلاقة الإيرانية العراقية. والسعي نحو توحيد المصالح والسلوك العملي مع سوريا. وكلاهما خياران استراتجيان يصبان في خدمة المصالح العراقية الجوهرية ويسيران صوب المثلث العراقي الإيراني السوري بوصفه ضمانة الاستقرار والازدهار اللاحق. بمعنى الجمع بين العامل العربي والإسلامي بالشكل الأمثل. إضافة إلى توسيع وتنويع مصادر القوة الإضافية للعراق من خلال تمتين العلاقة الاقتصادية والعسكرية بروسيا والصين.
وقد احتوى هذا الخيار الاستراتيجي على إمكانية الابتعاد التدريجي عن تركيا والولايات المتحدة، واشتداد العداء المستتر والعلني مع السعودية وقطر وإسرائيل، اي الثلاثي الأكثر عداء للعراق والفكرة العربية والتقارب العربي الإيراني.
كل ذلك يشير إلى أن المالكي هو الشخصية الوطنية الكبرى بين النخبة السياسية العراقية الحالية. إذ استطاع أن يجسد فكرة الزعيم الوطني، ولعل حصوله على اكبر نسبة وكمية من أصوات الناخبين دلالة لا تحتاج إلى تأويل إضافي. إذ أن ما حصل عليه شخصيا بمفرده أكثر من أية شخصية وحزب وتيار سياسي في العراق. كما انه تنازل بدون صراع دموي حالما مالت كفة المتآمرين والخونة عليه. وهذا بدوره أيضا مؤشر جوهري على شخصيته السياسية الوطنية، اي التي تضع أولوية المصالح العليا للبلد على المصلح الشخصية، خصوصا، إذا كان بإمكان هذا الصراع أن يتحول إلى حرب ضروس. لقد تنازل عن استحقاقه الانتخابي، شأن اي قائد يعرف قيمة الانسحاب من اجل توفير القوة لهجوم لاحق. إن القائد السياسي الجيد هو الذي يجيد الانتصار ولو بعيد حين، وليس الذي ينتحر بمعايير “البطولة” الفردية. وقد يكون هذا أيضا خطأ من أخطائه. وعلى العموم، أن الأخطاء التي اقترفها المالكي في السياسة العملية أمر طبيعي وملازم لكل تجربة معقدة وحالة مزرية كما هي حالة العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي. وبالتالي، فان “الرذائل” التي يجري إلصاقها به، تبقى أفضل من “فضائل” من يسعى لتخوينه. إذ يكفيه انه اعدم صدام – رمز الدكتاتورية، واخرج القوات الأمريكية – رمز الاحتلال الأجنبي. ومن ثم جمع في سلوكه السياسي وشخصيته العملية وارسي مقدمات الفكرة الوطنية العراقية والدولة الوطنية العراقية. أما محاولات تخوينه البائسة واليائسة فهي مجرد مؤشر على الانحطاط والخيانة فيمن يدعو إليها.
***
إن مهمة النقد السياسي السليم للمالكي تفترض تقييم تجربته السياسية ما بعد الاحتلال، وإعادة النظر الجدية بمرحلة قيادته للسلطة التنفيذية. وهي مهمة حاول هو شخصيا البدء بها، لكنها مازالت طرية وأولية. فقد وقف بعد إزاحته غير الشرعية من السلطة، أمام مهمة تقييم تجربته السياسية ودور حزب الدعوة فيها. لكن المقالات التي نشرها لا تحتوي على تقييم نقدي ورؤية مستقبلية عميقة ومتعددة الجوانب. إذ أنها بقت ضمن سياق الرؤية اللاهوتية الأخلاقية والعقائدية السياسية.
إذ جرت إعادة النظر بالتجربة ضمن تأمل “عقائد الدعوة” وإعادة تفعيلها. وهذا وهم! بينما تفترض الرؤية النقدية العميقة بهذا الصدد إعادة النظر الجدية بتاريخ العراق السياسي والاجتماعي الحديث واستلهام الرؤية الواقعية والمستقبلية منه. مما يستلزم بدوره التحرر من شرنقة العقائد اللاهوتية والأخلاق الدينية المجردة. فكلاهما لا يبنيان دولة. وتجربة ما بعد الاحتلال دليل كاف. إذ لا عقائد ولا أخلاق!
إن البقاء ضمن حيز التربية العقائدية (لمحمد باقر الصدر) يعني البقاء ضمن رؤية نقدية سيئة. وذلك لان الخيار النقدي للصدر كان خاطئا من الناحية الإستراتيجية والمستقبلية. إذ أنه كان موجها ضد اليسار (العراقي والعربي) على ما فيه من سقم وخطيئة، لكنه كان الأفضل آنذاك بمعايير الحرية والحداثة والمستقبل والحق والحقوق والنزعة الإنسانية. إضافة إلى أن الشحنة العقائدية المتناثرة في (فلسفتننا) و(اقتصادنا) لم تعتد تمتلك قيمة عملية. فالتثقف بهذه المؤلفات يصنع شخصية دون كيشوتية في مساعيها وصراعها! إضافة إلى ضعفها النظري بمعايير العلم الفلسفي والاقتصادي.
إن التحرر من تقاليد أيديولوجية حزب الدعوة سيكون إنقاذا للنفس ومساهمة في الفكرة الوطنية والواقعية والعقلانية. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية دون تأسيس مناسب لفكرة الإصلاح الواقعية والعقلانية وجعلها مضمون العقيدة السياسية لحركة اجتماعية سياسية مدنية حديثة.