الرئيسية / مقالات / تدمير الشعب الفلسطيني : الحل الاسرائيلي للقضية الفلسطينية *

تدمير الشعب الفلسطيني : الحل الاسرائيلي للقضية الفلسطينية *

السيمر / فيينا / الأحد 20 . 03 . 2022 

 د. لبيب قمحاوي

كان الشعب الفلسطيني دائماً وما يزال ، هو السلاح الأهم والأقوى في ترسانة القضية الفلسطينية ، وهذا ما جعل من  تدميرهذا الشعب بكل الوسائل هدفاً استراتيجياً لإسرائيل وحلفائها . ولعل أهم تلك الوسائل هي تلك القادمة من داخل ذلك الشعب نفسه،  لأن أي عملية مماثلة من خارج الشعب الفلسطيني سوف تواجه غالباً بمقاومة شعبية شديدة . من هنا تنبع  أهمية السلطة الفلسطينية ودورها في المخطط الاسرائيلي الهادف الى حل القضية الفلسطينية من خلال تدمير الشعب الفلسطيني وقِيَمِهِ وترابطه والتزامه الوطني بقضيته ، وتحويل أولوياته من النضال من أجل الحرية والاستقلال الى الاقتتال الداخلي والانقسام االمتعدد الأوجه ،  وتحريم مقاومة الاحتلال ، والتغاضي عن بناء المستوطنات ، وتقليص أهداف النضال الوطني من التحرير الى تحصيل لقمة العيش  حتى لو جاءت تلك اللقمة مغموسة بدماء القضية الفلسطينية نفسها ومعجونة بسموم الاحتلال الإسرائيلي .

إن تشخيص الحاله الفلسطينية الحالية تحت ادارة السلطة الفلسطينية يدفع المرء الى التساؤل عن الأسباب والوسائل التي حولت هذا الشعب في الضفة الفلسطينية المحتلة الى ما أصبح عليه الآن من خنوع  قهري وقبول مرير بالأمر الواقع الاحتلالي .

إن إعادة تعريف أولويات أي شعب هي أمر من الصعب تحقيقه بسرعة و سهولة ، بل قد يستغرق ذلك الأمر عقوداً طويلة ويستوجب الكثير من الضغوط والتفاعلات التي قد تؤدي ، كما في الحالة الفلسطينية مثلاً ، إلى صهر منظومة القيم

الفلسطينية و إعادة تشكيلها بما يتناسب ورؤية الاحتلال الاسرائيلي . فتحويل الفلسطينيين من شعب مناضل مقاوم مقاتل الى شعب مُقسَّم ومنقسم على نفسه ، قابلاً بالإحتلال حتى ولو على مضض، ساعٍ  فقط الى تأمين لقمة العيش ، هي مهمة أوكلتها “اسرائيل” الى السلطة الفلسطينية بوصفها قيادة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وقيادة للقضية الفلسطينية من خلال قيادتها المزعومة لمنظمة التحرير الفلسطينية .

يعَدّ تدمير الوحدة الوطنية الفلسطينية وتقسيم الشعب الفلسطيني الى مجموعات مختلفة متنافسة في أحسن الأحوال ومتناحرة في أسوئها هدف “اسرائيل” الخفي والأهم. وهذا المسار ، إذا ما سمُح له أن يستمر طويلاً، قد يساهم في خلق أكثر من أمر واقع جديد  في فلسطين وبين أوساط الفلسطينيين .

إن سياسة الأمر الواقع هي ما اتبعه الاحتلال في تعامله مع الشعب الفلسطيني عموماً منذ عام 1948 ، وهو ما نفّذته السلطة الفلسطينية في المناطق المحتله منذ عام 1967 من خلال تمزيق الشعب الفلسطيني و خلق واقعين مختلفين ، ان لم يكن متناقضَين ، بين فلسطينيّي قطاع غزة وفلسطينيّي الضفة الفلسطينية . وفي حين نجحت السلطة الفلسطينية في افتعال مسببات الانقسام وتعزيز مساره ، فشلت حركة حماس في خلق الأرض اللازمة لإفشال مخطط السلطة الفلسطينية في فصل الشعب الفلسطيني في منطقة غزة عن الشعب الفلسطيني في الضفة الفلسطينية المحتلة ، وتم بذلك تكريس المخطط والرؤية الاسرائيلية . وقد ساهم في تعزيز هذا التباعد التباينُ الواضح بين برنامج حماس النضالي وبرنامج السلطة التابع لرؤية الاحتلال .

إن استمرارية السلطة الفلسطينية وبقائها كأداة لاحتواء الشعب الفلسطيني والسيطرة عليه بما يتناسب وأهداف الاحتلال الإسرائيلي هو أمر حيوي واستراتيجي لإسرائيل ، الأمر الذي يتطلب العمل الدؤوب المستمر وبالتعاون مع أمريكا وحلفاء “اسرائيل” من أجل  خلق شرائح متتالية من القيادات للسلطة الفلسطينية تكون موالية لإسرائيل والاحتلال ، وتغطي على الأقل الصفيّن الأول والثاني من تلك القيادات التي تستند في أصولها و شرعيتها التاريخية إلى حقبة النضال الفلسطيني التي سادت منذ هزيمة 1967  وحتى ثمانينيات القرن الماضي، بينما تستمد شرعيتها الحالية  من إتفاقات أوسلو ومن الاحتلال نفسه .

في الوقت الذي غاب فيه نهج النضال في مناطق الضفة الفلسطينية كنتيجة  لحرص السلطة المستمر والشرس على الالتزام بالتنسيق الأمني و تحريم المقاومة ضد الاحتلال ، صعد في المقابل في المقابل إصرار عجيب من السلطة  نفسها على المحافظة على استمرار مفهوم  الفصائلية وتكريس مكتسباتها المادية والمنصبية  كما كان الوضع عليه  خلال حقبة الكفاح المسلح ، وهو ما يؤشر إلى وجود رغبة خفية  في استرضاء تلك الفصائل بالمال والمنصب عوضاً عن النضال والكفاح ، واستغلال التاريخ النضالي لتلك الفصائل لتعزيز صدقية  السلطة الفلسطينية واضفاء الشرعية النضالية الجامعة عليها . الهدف هو  زج جميع الفصائل في مخرجات أوسلو لتعزيز ادعاء السلطة بتمثيل جميع الفلسطينيين ، وخصوصًا بعدما اختطفت تلك السلطة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وألحقتها بذيل السلطة .  وقد رافق ذلك تعيينُ بعض المناضلين الفلسطينيين السابقين بمناصب في السلطة وبرواتب عالية بهدف خلق طبقة من المستفيدين والمنتفعين لضمان استمرارية قيام السلطة بدورها المنوط بها في كيفية ادارة شؤون الشعب الفلسطيني بالطريقة التي  يريدها الاحتلال ، وهو أسلوب خطير و مسعى لئيم لمصادرة المستقبل بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وتعزيز قدرة طبقة الفاسدين على الاستمرار في قيادة ذلك الشعب .

السلوك المالي و الأخلاقي للقيادة الفلسطينية عند وجودها في تونس والفساد الذي غمر أوساطها ، كانا من المحتم  أن يصبغا سلوك القيادة نفسها التي قامت بمفاوضات أوسلو ، ومن ثم إبرام صفقة الحكم الذاتي و السلطة الفلسطينية . وعلى مَرّ السنين صبغَ تراثُ الفساد سلوكَ السلطة الفلسطينية مما أدى الى إبتعاد الكثير من العناصر الشريفة من حركة فتح ومن المناضلين الفلسطينيين بشكل عام من السلطة ومؤسساتها ، الأمر الذي أدى إلى حصر مقدرات الشعب الفلسطيني في تلك الطبقة من الفاسدين مالياً وسياسيًا و أصبح هنالك بالنتيجة طبقة من الفاسدين على قمة هرم قيادة السلطة ومؤسساتها . إن حكم الفاسدين و بعض الزعران لن ينتج عنه أي خير سوى فتح المجال أمام المزيد منهم لتولي الشأن الفلسطيني . و مجتمع الفاسدين في الحياة السياسية الفلسطينية تحت الاحتلال قد أصبح الآن هو السائد والمسيطر ، وعماد استمرار تلك الطبقة هو رضا ودعم الاحتلال الاسرائيلي .

إن كل السياسات والممارسات الاسرائيلية لإلغاء الهوية والصفة الفلسطينية وتشتيت و تمزيق الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي الشتات بتعاون ملحوظ بين “اسرائيل” والسلطة الفلسطينية  وبعض الأنظمة العربية لم تنجح في الغاء الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة لتجمعات الشعب الفلسطيني كافة . وقد جاءت الحرب الرابعة على غزة عام 2021 ، المعروفة بمعركة “سيف القدس” ، لتقلب الموازين لمصلحة إعادة تأكيد وحدة الشعب الفلسطيني في كل أرض فلسطين . ولكن “اسرائيل” والسلطة الفلسطينية ومعظم الأنظمة العربية والعالم ، غربه وشرقه ،  تآمروا جميعاً لمصلحة السلطة الفلسطينية ومنع انهيارها بعد معركة “سيف القدس” ووقفة العز والفخار الفلسطينية . وعكفت “اسرائيل” في  إثر ذلك على دراسة الأسباب والمسببات التي أدت الى ذلك النهوض الفلسطيني ، وسعت – ومازالت – الى استخلاص العبر وتعلّم الدروس ، وابتدأت ذلك المسار بالعمل على إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية عربيًا و دوليًا  حتى تتمكن من الاستمرار في القيام بدورها المشؤوم في مساعدة الاحتلال الإسرائيلي على احتواء وتدمير الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال .

الاقتداء بالآخرين في ما هو باطل هي سمة من سمات الضعف الأخلاقي والمادي والانحلال السياسي . والسلطة الفلسطينية هي في هذا المسار منذ تأسيسها على يد الاحتلال الإسرائيلي . تسير السلطة الفلسطينية منذ إنشائها في المسار نفسه لمعظم الأنظمة العربية باعتبارها الرأي الآخر أو المعارضة السياسية فِعْلاً يستوجب العقاب و في عدّ المعارضين بالتالي أعداءً للنظام . ومن المؤسف والمحزن أن السلطة الفلسطينية تمادت في هذا التفسير ليشمل تصنيف النضال ومقاومة الاحتلال بوصفهما أعمالاً “إرهابية” تستوجب العقاب .

إن استعمال الخلفية النضالية والتراث النضالي للقادة لتبرير مرحلة التحول من النضال الى العمالة أمرًا غير متعارف عليه في العادة . فقيادات مراحل النهوض هي في العادة تختلف اختلافاً بينياً عن قيادات مرحلة السقوط . الاستثناء يأتي واضحاً في الحالة العربية كما جاء السادات عقب عبد الناصر. أما بقاء قادة النهوض أنفسهم لقيادة مرحلة السقوط فلم يأتِ إلا في الحالة الفلسطينية عندما تحول ياسر عرفات من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى رئيس السلطة الفلسطينية عقب اتفاقات أوسلو ، ومن ثم جاء خليفته محمود عباس لينقل السلطة الفلسطينية من مرحلة العمالة إلى مرحلة السقوط والاستسلام ويعيد تسميتها زورًا بمرحلة الاستقلال . وفي انتظار خليفة محمود عباس ليحوِّل مرحلة السقوط والاستسلام الى مرحلة الخيانة الكاملة ، ومن ثم اعتبار هذه المراحل الثلاثة الممتدة من مرحلة العمالة الانتقالية الى مرحلة السقوط والاستسلام انتهاء بمرحلة الخيانة الكاملة هي المراحل الثلاث المتممة لمرحلة النضال الفلسطيني وذلك  من منظور قيادات أوسلو التي ما زالت تدير السلطة الفلسطينية والشأن الرسمي الفلسطيني . وهكذا فإن السلطة الفلسطينية تحسب نفسها ونهجها  مرحلة الختام بالنسبة إلى القضية الفلسطينية و الفلسطينيين بالرغم ممّا تمثله تلك السلطة من سقوط وخيانة للأهداف الوطنية الفلسطينية .

 

* تم نشر هذا المقال في مجلة “المستقبل العربي” الصادرة عن “مركز دراسات الوحدة العربية” في عددها رقم 517 الصادر في آذار 2022 .

*مفكر عربي

20/03/2022

اترك تعليقاً