السيمر / الاحد 12 . 06 . 2016
قراءة: رواء الجصاني
يعرف المتابعون والموثقون جيدا، بأن الشاعر العظيم، محمد مهدي الجواهري، نادرا ما كان يجيب عن أسئلة من قبيل: أي قصائده أحب إليه من غيرها… ولكنه كثيراً ما بادر إلى تمييز “المقصورة”، بل ووصفها في مرات عديدة، بأنها الأفرد والأخلد… ويكفي الاستدلال هنا بقوله “لو فنيت جميع أشعاري لبقيت المقصورة”…
وتلك القصيدة – الملحمة، تتعدى أبياتها المئتين والعشرين، وهي الأطول من بين جميع قصائده التي يتجاوز عدد أبياتها الخمسة والعشرين ألف بيت، اذاع مقاطع أولى منها – من المقصورة- عام 1947 ثم نشرت كاملة سنة 1948 مع تقديم يشير إلى أن ثمة مئة وخمسين بيتاً أخريات، عصفت بها الرياح إلى “دجلة الخير”، فضلاً عن خمسين بيتاً فقدت لأسباب أخرى…
برغم الاباء ورغم العلى، ورغم أنوف كرام الملا
فأنت مع الصبح شدو الرعاة، وحلم العذارى إذ الليل جا
واذ انت ترعاك عين الزمان، ويهفو لجرسك سمع الدنى
الحت بشعرك للبائسين، بداجي الخطوب، بريق السنا
وبعد هذا الافتتاح الشموخ، يجوب الجواهري مختلف أغراض الشعر العربي المعروفة، إلا اننا سنتوقف هنا عند محورين رئيسين وحسب، وهما ما يتعلقان بلواعج الجواهري، ومواجهاته، بحسب العنوان الذي تُنشر هذه التأرخة تحته… ففي الأبيات التالية يبرز الشاعر العظيم هضيمته من سياسيي البلاد، وصنائعهم وغيرهم، مناشداً “الكرماء” خصوصاً، للتضامن معه، كحال شخصية، ولكنها معبرة عن هدف عام، يعبر من خلاله عن مشاعر ناس لا يعدون أو يحصون:
إلا من كريم يسر الكريم، بجيفة جلف ٍ زنيم عتا
فيا طالما كان حد البغي، يخفف من فحش أهل البغا
انبيك عن أطيب الأخبثين، فقل أنت بالأخبث المزدرى
زقاق من الريح منفوخة، وان ثقـّـل الزهو منها الخطى
واشباح ناس، وان أوهموا، بأنهم “قادة” في الورى
وفي سياق “المقصورة” يعود الشاعر ليهدد “الأرذلين” بكل سلاح الكلمة، واليراع الأبي، وليعاتب، وبكل هضيمة وتألم، “أمته” العراقية التي لم تنصف شاعرها، وحامل لواء تنويرها وابداعها… كما يركز “عتابه” على القادة والزعماء، أو من يدعون تلك الزعامةّ الثقافية والسياسية:
بماذا يخوفني الأرذلون، ومم تخاف صلال الفلا
أيسلب منها نعيم الهجير، ونفح الرمال، وبذخ العرا !!
بلى ان عندي خوف الشجاع، وطيش الحليم، وموت الردا،
إذا شئت أنضجت نضج الشواء، جلوداً تعاصت فما تشتوى
وأبقيت من ميسمي في الجباه وشماً كوشم بنات الهوى
فوارق لا يمحي عارهن، ولا يلتبسن بوصف سوى
بحيث يقال إذا ما مشى الصليّ بها، ان وغداً بدا
وحيث يعير أبناؤه بأن لهم والداً مثل ذا
… وهكذا يستمر الشاعر في قصيدته ليوثق هذه المرة مواقفه ونهجه ورؤاه للحياة والمجتمع، مبارزاً المتجاوزين، متباهياً بالضمير، وداعياً النفس أولاً لأن تكون أمثولة للآخرين… وقد جاء كل ذلك عبر الاعتداد والعنفوان الجواهري المعروف:
أقول لنفسي إذا ضمها، وأترابها محفل يزدهى
تسامي فإنك خير النفوس، إذا قيس كل على ما انطوى
وأحسن ما فيك ان الضمير، يصيح من القلب إني هنا
تسامي فان جناحيك لا يقران إلا على مرتقى
كذلك كل ذوات الطماح والهم، مخلوقة للذرى
شهدت بأنك مذخورة لأبعد ما في المدى من مدى
وانكِ سوف تدوي العصور، بما تتركين بها من صدى
وفي تسلسل محسوب، وببراعة متناهية في اختيار المباشرة، أو الرمزية، يفضح الجواهري الكبير المدعين والمتنطعين، وفي ذهنه بالتأكيد حالات ومواقف ملموسة، تعبر عن ظاهرة عامة، سائدة آنذاك – ولعلها تضاخمت اليوم – في البلاد العراقية… ونرى في هذا الشأن ما يزيد من رؤى الجواهري التبشيرية والانتقادية على حد سواء، ويضخم من عمق منجزه الابداعي الثري:
ومنتحلين سمات ِ الأديب يظنونها جبباً ترتدى
كما جاوبت “بومة ٌ” بومة ً تقارضُ ما بينها بالثنى
ويرعون في هذر ٍ يابس ٍ من القول، رعي الجمال الكلا
ولاهين عن جدهم بالفراغ، زوايا المقاهي لهم منتدى
… ثم في مقاطع لاحقة – وقل قصائد أخرى ولاتخف -، يعود شاعر الأمة ليتوقف عند هضبات الوطن، وشطيه والجرف والمنحنى، فيتغزل، ويتباهى، ويصف، كما الأم والعاشق والقائد!. ولا يكتفي بذلك فيجوب طبيعة البلاد ويصف نخيلها وحقولها، بل وحتى ضفادعها التي تنقل على الشاطئين بريد الهوى!… أما في ختام “المقصورة” – القصيدة البانورامية المجيدة، فيحاول الجواهري أن يعتذر عن فورانه وغضبه في أبياته السابقة، الناقدة والمحرضة باتجاه النهوض والانهاض، فيعود ممجداً “بلداً صانه” وكلاهما – الشاعر والوطن – في موقع التلاحم والانسجام والتداخل الذي لا فكاك منه… كما يزعم هو، على الأقل!…
مع تحيات مركز “الجواهري” للثقافة والتوثيق