السيمر / فيينا / الأحد 30 . 10 . 2022
د. نضير الخزرجي
لم أكن مثل بعض أترابي قد فككت الخط وتعلمت الحروف الهجائية والقراءة والكتابة عند الكتّاب أو الملَّة او الملاّية، ولكن كنت مثل بعض أترابي قد تعلمت منذ الصغر قراءة القرآن عند المعلم أو الملة، فكنا نجلس جلسة العبد في محفل قرآن ديوان آل شهيب بكربلاء ونحن كلنا آذان صاغية نتعلم مخارج الحروف وقواعد الترتيل والتجويد، وبين فترة وأخرى تمر علينا كلمة لا ندرك معناها فكنا نرمي السؤال على معلمنا الملة حمود النجار الحِمْيري المتوفى سنة 2004م عن معنى الكلمة فيجيب أو كان يبادر رحمه الله إلى بيان معنى الكلمة بأسلوب مبسط وإذا اراد التعمق في الشرح كان يفتح كتاب تفسير القرآن فيقرأ علينا شرح الكلمة أو الآية بخاصة إذا كان السائل أسنُّ منا عمراً.
هكذا كان الأمر في العقد الأول والثاني من عمرنا مع كلمات القرآن ومعانيها التي تنغلق مفاهيمنا عن معرفة معانيها، وكلما تحركت عجلة الزمن بالعمر في العقد الثالث وما بعده كانت القراءة المتأنية للقرآن وبيان معاني كلماته التي تبدو لنا غامضة هي أقرب للمراد وأقرب للفهم، وحيث دخلنا بوابة العقد السابع فإن معرفتنا بمعاني كلمات القرآن تظل قاصرة للغاية فبله بآياته أو سوره!، وحتى يومنا هذا رغم القراءة المتكررة لآيات القرآن تعجز أفهامنا عن معرفة معنى كلمات قرآنية نقرأها وكأنها جديدة علينا.
قراءتي للقرآن الكريم كأي أحاد الأمة قراءة نمطية وربما أقرأ القرآن في بعض المحافل ترتيلاً أو تجويداً تبركاً وطلباً للثواب أو ترحماً على فقيد، ولكن ما يعجزني أنني أمر على كلمات لا أدرك معناها في حينها إلا بالرجوع الى التفاسير رغم اشتغالي بالبحث والتحقيق وهو اشتغال قاسمه المشترك اللغة العربية،.
ولا شك أنَّ تعدد تفاسير القرآن الكريم منذ القرن الأول الهجري وحتى تقوم الساعة يعكس الغناء التي تكتسبها مفردات القرآن كأنها نهر رقراق جار لا ينضب معينه، وهو كذلك، وكلما مضى الزمن انفتحت علوم القرآن وتفسيره على علوم جديدة، ويحضرني هنا قول الوليد بن المغيرة المخزومي المتوفى سنة 1 للهجرة، عندما جاءه أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي المقتول في بدر سنة 2 للهجرة، ليقول في الرسول الأكرم (ص) والقرآن الكريم سوءاً ما يمنع أبناء مكة من الإلتحاق بالدين الجديد: (وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته).
وحتى يومنا هذا فإننا كلما سمعنا آية أو قرأناها وقد استوقفتنا بعض مفرداتها، نضطر للعودة إلى قاموس اللغة لنقف على مراد الكلمة ولا ندرك بالطبع غاية مراد الرب، من هنا سعى العلماء إلى وضع معاجم لفهم معاني القرآن، ومنهم العلامة الطريحي فخر الدين بن محمد علي الطريحي الأسدي المتوفى في النجف الأشرف بالعراق سنة 1085هجرية (1674م)، حيث وضع قاموساً ومعجماً في بيان وشرح معاني مفردات القرآن وفق الحروف الأبجدية أسماه “نزهة الناظر وسرور الخاطر وتحفة الحاضر ومتاع المسافر” ونسخه النسّاخ فيما بعد بأسماء مختلفة، ومن تلك التسميات “معجم غريب القرآن” الذي قام المحقق المعاصر الشيخ محمد صادق الكرباسي بإعداده وترتيبه والتعليق عليه، وصدر حديثاً الجزء الأول منه عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 455 صفحة من القطع الوزيري.
مقتضيات النشر
أخذ الكتاب عنوانه من كتاب سابق لأبي بكر السجستاني المتوفى سنة 330هـ المسمى “غريب القرآن” أو “نزهة القلوب وفرحة المكروب”، وهو ما يشير إليه العلامة الطريحي في مقدمته حيث: (تأملته وإذا هو كتاب فائق رائق عجيب غريب إلا أن المطلوب منه يعسر تناوله للقصور في ترتيبه، والخلل في تبويبه)، ومن أجل تعميم الفائدة العلمية كما يؤكد المؤلف: (فاستخرت الله على تغيير ذلك الترتيب على وجه له فيه رضىً، فشرعت فيه ورتبته على أبواب الحروف الهجائية، وجعلت كل باب على أنواع منها، كذلك ترتيباً يسهل تناوله على الطالبين ولا يستصعب تعاطيه على الراغبين)، ولم يتوقف العلامة الطريحي عند ذلك وهو الأديب والفقيه والمفسر واللغوي وصاحب مجمع البحرين، إذ: (أضفت إلى ذلك غير ما في المتن ما لم يشتمل عليه من اللغة والتفسير، وأفردت باباً في آخره لذكر ما يناسبه الإنفراد، مشتملاً على فوائد لطيفة، وفرائد شريفة ليتم بذلك المقصود إن شاء الله تعالى، فجاء بعون الله كتاباً لطيفاً حسناً تهش إليه عقول ذوي البصائر، وترتاح إليه أبصار ذوي الضمائر، وسميته بنزهة الخاطر وسرور الناظر وتحفة الحاضر ومتاع المسافر، وإن شئت ترجمته بربيع الإخوان الموضح لكلمات القرآن).
وكاد هذا الكنز القرآني اللغوي يظل حبيس مخطوطة أو ثلاث في مكتبات متباعدة، لولا أن قيض الله له أحد أحفاد المؤلف هو الشيخ محمد كاظم الطريحي (1920- 2002م) المتوفى في بلاد المهجر في الدنمارك، الذي أخرج المخطوطة من محبسها إلى حرية النشر فأكب على مقابلة النسخ المتوفرة وسد الفراغات والنواقص وأصدره في النجف الأشرف سنة 1953م، وكما يقول في المقدمة: (لم يبق من الكتب المصنَّفة في غريب القرآن إلا النادر القليل، ومن هذا النادر كتابنا هذا تأليف العلامة الثقة الجليل المحقق الشيخ فخر الدين بن محمد علي الطريحي) فخرج إلى المكتبة العربية تحت عنوان: “تفسير غريب القرآن” وطبع فيما بعد بطبعات مختلفة.
إعراب ما استعجم
ولأن الكتاب على مبلغ كبير من المعرفة والعلوم القرآنية واللغوية والتفسيرية، فإن المحقق الكرباسي عمد سنة 1985م أثناء إقامته في بيروت قبل أن يحل على لندن سنة 1986م إلى إعداد تنظيمه وترتيبه من جديد وأضاف عليه من التعليقات وشرح كل حرف من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين حرفاً وبإسهاب من حيث اللغة والإصطلاح، على أن العرب السابقين كما يؤكد المحقق الكرباسي: (لم يحتاجوا إلى التفسير والتوضيح مثلما نحن اليوم بحاجة إلى ذلك، وما هذا إلاّ لأننا ابتعدنا عن القرآن الكريم ونصوصه وعلومه وجعلناه زينة لمكتباتنا وحفظاً لبيوتنا ورحمة لأمواتنا واعتياداً نتبدئ به محافلنا وبركة لمجالسنا، ونسينا أنه دستور الحياة وبرنامج الإنسان والإنسانية، وطبيب النفوس ومفتاح للخلوص).
ولكن ما الذي دعاه إلى إعداده وترتيبه والتعليق عليه؟ يفيدنا الكرباسي بقوله: (جاء ترتيب تفسير غريب القرآن بشكل يصعب على مَن ليس له إلمام باللغة العربية من البحث عن الكلمة التي يريدها لأنه –قُدِّس سرّه- رتَّبه على الحرف الأخير من الكلمة كما هو الحال في غالب المعاجم السابقة، وهذا ما يجعل الباحث عن الكلمة متثاقلاً، فلذلك قمت بإعادة ترتيبه من جديد حيث اعتمدت على الحرف الأول فالأول من الكلمة تماماً كالأسلوب المتَّبع في المعاجم الحديثة، ولا شك أنني احتفظت بالنصوص التي اعتمدها العلامة الطريحي غير أنني أفرزت الكلمات على الترتيب الذي قلناه، حيث كان بعضها قد أتى مدموجاً تحت عنوان واحد، وأضفت بعض الملاحظات تسهيلاً للباحث).
ولم يرجع المحقق الكرباسي في إخراج الكتاب إلى مقارنته مع نسخ أو مخطوطات أخرى، لأن ما جاء به حفيد المؤلف كان غنياً وكما يفيد الكرباسي: (وللحقيقة أنّ له الفضل الكبير بإخراج هذا الكتاب من متاهات الإضمحلال والنسيان إلى عالم النور والطباعة، فجزاه الله عن الإسلام خير جزاء المحسنين، ولأنني اعتمدت على ما قام به الفاضل الطريحي لم أسقط شيئاً من تحقيقاته بل حاولت أن أزيد عليها كي تأتي بشكل أكمل).
ولأن تفسير غريب القرآن أو معجم غريب القرآن فيه الكثير من الشواهد القرآنية والحديثية والأمثال والحكم والأبيات، فإن المحقق الكرباسي كما هو دأبه في معظم مؤلفاته أفرد في نهاية الكتاب مجموعة فهارس ليسهل على القارئ الرجوع إلى المتن بسلاسة، وقد أخذت الفهارس على تعددها وكثرة ما فيها نحو ربع صفحات الكتاب، فكان: فهرس الآيات المباركة، فهرس الأحاديث، فهرس الأمثال والحكم، فهرس الأعلام والشخصيات، فهرس الأشعار، فهرس الأماكن، فهرس المصادر والمراجع، وفهرس المحتويات.
اقتصر الجزء الأول من هذا المعجم الغني بمضمونه ومحتواه على أربعة حروف هجائية وهي الألف والباء والتاء والثاء، حيث بدأ الألف والهمزة بـ (أ أ ن) وانتهى بـ (أ ي ي)، فيما بدأ الباء بـ (ب أ ء) وانتهى بـ (ب ي ن)، فيما ابتدأ التاء بـ (ت ا ء)، وانتهى بـ (ت ي هـ)، وحرف الثاء بدأ بـ: (ث ا ء)، وختم بـ (ث و ر).
وزينّ المحقق الكرباسي مقدمة كل حرف بإسم من أسماء الله الحسنى وصفاته فكان للألف والهمزة (الله الأول)، وللباء (الله البديع)، وللتاء (الله التوّاب)، وللثاء (الله الثابت).
وفي تقديري أن هذا المعجم وأمثاله على ندرتها في عالم التاليف بما فيها من ثراء معرفي ولغوي ينبغي أن يكون في متناول كل كاتب وأديب، فكما نرجع إلى معاجم اللغة لإعراب ما استعجم على الفهم نرجع إلى معجم غريب القرآن لفهم مراد الكلمة بخاصة وأن المؤلف والف عند بيان الكلمة بين المعنى اللغوي والإصطلاحي للكلمة وتفسير الآية ومراد كلماتها ومفرداتها، ولهذا كما يصح على الكتاب إطلاق مسمى: “تفسير غريب القرآن” يصح عنونته بـ: “معجم غريب القرآن”، على أن العنوان الأخير له ما يقابله من المؤلفات عند غيره مثل كتاب: “معجم غريب القرآن .. مستخرجاً من صحيح البخاري” للمحقق المصري محمد فؤاد عبد الباقي المتوفى سنة 1967م.
الرأي الآخر للدراسات- لندن