الرئيسية / مقالات / مقدّمات في تاريخ الصين الاقتصاديّ

مقدّمات في تاريخ الصين الاقتصاديّ

السيمر / فيينا / السبت 14 . 01 . 2023

عامر محسن/ سوريا

دَعْكَ من الكلام عن فوائد السفر، فإنّ التجربة المباشرة ليست دوماً الطريقة الأنسب للتعرُّف إلى الشعوب والحضارات الأخرى. التجربة الفرديّة محدودة بطبيعتها، وتتلوّن بانحيازاتِ صاحبها وخبراته والزاوية التي يرى منها العالم. كان لدى أحدهم نظريّة بأنّ العربي، الذي نشأ في بلد مشرقي وتلقّى فيه تعليمه والنسخة الوطنية المكرّسة عن التاريخ، إن التقى بتركيٍّ «ستاندارد» أيضاً – يحمل هو الآخر نسخته الوطنية الرسمية عن الماضي القريب – فإنّ أوّل ما سيحصل بينهما – إنْ تناقشا – هو أنهما سيصطدمان. في ما بعد، قد يَعقلان ويَفهمان أن حقيقة كلّ منهما ليست كاملة، ولكن من الصعب ألّا يختلفا في البداية. بيننا وبين الصينيين، مثلاً، الكثير من المشتركات: في نمط العائلة، معاملة الكبار في السن، مفهوم الضيافة وغير ذلك. ثقافة أخرى وحضارة مختلفة ودين/ فلسفة لها مصدرها الخاص. ومع هذا، هم أقرب إلينا من نواحٍ كثيرة من شعوبٍ تحيط بنا (لعلّ ذلك ما جعل هادي العلوي يعتبر أنّنا ننتمي، كـ«شرقيين»، إلى مجال حضاري مشترك). ولكن من الصّعب أن يستنتج ذلك عربيّ يلتقي بصينيّ للمرّة الأولى. إنْ كان البحث التاريخي عماده التحليل والعقلانية والتجريد، فإنّ التجربة والانطباعات الفرديّة عمادها سوء الفهم. على الأخصّ، إيّاكم أن تأخذوا بأحكام مَن يزور بلداً في إجازة لأسبوع ثمّ يعود ليشرح لك كنهه، وأنّ «الأتراك هم كذا» و«المصريّون يريدون كذا» (هؤلاء، في حالاتٍ كثيرة، أناس لا يزالون غرباء عن فهْم مجتمعهم الخاص بعد حياةٍ كاملة فيه، فلا داعيَ، معهم، لأن تثق بخلاصات ما بعد الإجازة).

أنا هنا، أعترف، أوّل المذنبين. بل إنّ لقائي الأوّل مع «الحضارة الصينية» انتهى، للأسف، وأنا أصرخ في وجه سائقٍ صينيٍّ في نيويورك وأخلق ذعراً صغيراً في باص (لا داعي للتفاصيل). غنيٌّ عن القول إنّ الحال قد تغيّر كثيراً في ما بعد، وتعرّفت عن قرب إلى الكثير من الآسيويين (خاصةً حين عشت على الساحل الغربي)، بل إنّي سكنتُ لفترةٍ في مبنى تملكه المافيا الصينيّة، وهم كانوا أناساً لطفاء للغاية، وشرفاء بمعنى الكلمة.
هناك ماضٍ مثير للعلاقات بين العرب والصينيّين، وهذا أيضاً ليس موضوعنا اليوم؛ ولكنّك تجد مراسلات وعلاقات تجاريّة، بل – مثلاً – جيشاً عربياً عبّاسياً يتمّ استقدامه من وسط آسيا ليقاتل في الصين ضمن حربٍ أهلية شهيرة اشتعلت في أواسط القرن الثامن (ثورة آن لوشان – ويبدو أنّ العباسيين، بعدما تحاربوا مع الصينيين في وسط آسيا ثمّ تصالحوا، أرسلوا جيشهم كبادرة حسن نية لدعم حكم الـ«تانغ»). قبل ذلك، وقبل توحيد الصين حتى، فإنّ الكثير من التقنيات الزراعية والعسكرية والصناعات والمحاصيل الرئيسة قد جاءت إلى الصين من إقليمنا في غرب آسيا. إنْ وضعنا جانباً دور التجار العرب في آسيا الجزرية، ودور الإسلام بعد انتشاره في الصين، فإنّ العلاقات «الرسمية» بين الصين وإقليمنا قد مرّت بوضوح بمرحلة صعودٍ تبعها خفوت. ازدهار العباسيين والـ«تانغ» جاء تقريباً في مرحلة زمنية واحدة، وقد كان بين الدولة العباسية الفتيّة والصين تنافسٌ وتعاون، نجده يتقلّص في ما بعد حتّى يكاد يختفي مع مرور الزمن. قد يكون في هذا توكيدٌ على المقارنة التي عقدها سمير أمين بين الكتل الكبيرة في العالم القديم (الشرق الأوسط، الهند والصين). نظرية أمين هي أنه، بعد القرن الحادي عشر، حصل انحدارٌ تدريجي ومستمرّ لـ«قيمة» منطقتنا، مقارنةً بالإقليمين الآسيويين (في الديمغرافيا أساساً، وفي الإنتاج الاقتصادي، بمعنى أنّ عدد سكان الهند والصين ظلّ يرتفع بشكلٍ متوازٍ تقريباً وبلا توقّف حتى وصل إلى مئات الملايين، في حين تخلّفت منطقتنا عنهما بشكلٍ كبير بعدما كانت توازيهما حجماً). هذا، يضيف أمين، قد دفع السلالات الصينية المتأخّرة إلى «تجاهل» منطقتنا وتحويل أنظارهم واهتمامهم عن جهة الغرب، وترْك الشرق الأوسط لتحكمه القوى التركية القادمة إلى المنطقة.

الهدف من هذا المقال هو تقديم ملاحظات ابتدائيّة، تقديميّة، عن تاريخ الصين لمَن هو – مثلي – لم يدرسها ولا يعرف بالتجربة المباشرة عنها شيئاً. الموضوع الأساس هنا، هو التاريخ الاقتصادي ونشوء الدولة في الصين، وسنستخدم في السّرد التاريخي مجموعة من المراجع، بعضها شموليّ مثل كتاب ريتشارد فون غلان «التاريخ الاقتصادي للصين»، وبعضها متخصّص أكثر ككتاب جين شو عن التاريخ النقدي للصين («إمبراطورية الفضّة، منشورات «يال»، 2017)، إضافة إلى «تاريخ كامبردج الاقتصادي للصين» الذي نُشر منه الجزء الأول العام الماضي فقط، وهو يصل بنا حتى سنة 1800 (إنْ كنتَ تريد أن تعطي مثالاً عن أنّ الحياة قصيرة مقارنة بما يمكن قراءته، فما لك إلا أن تَستحضر «تاريخ كامبردج»: مجموعة سلاسل عن تاريخ إيران أو الصين أو الإسلام أو أيّ موضوع آخر، تكون الواحدة منها في عدّة كتب قد تصل إلى أكثر من عشرة، وتُنشر تباعاً على مدى سنواتٍ طويلة، وقد كانوا – خاصّة في الماضي – يستقدمون أفضل الباحثين والمستشرقين ليكتب كلٌّ فصلاً في مجاله).

المزارع والغابة
لا بدّ أن نبدأ من أنّ المقولة الشائعة عن أنّ الصين هي «مجتمع زراعي قديم» ليست صحيحة بالكامل. حتّى فترة قريبة كان هذا هو الاعتقاد الراسخ في الأوساط البحثيّة، بل إنّ بعض المستشرقين الأوائل (تحديداً البارون فون ريشتهوفن) خرجوا بمقولات اعتُمدت بلا نقديّة، من نمط أنّ التربة الصفراء في شمال الصين هي بطبيعتها مثالية للزراعة (وبالتالي للدولة)، وأنها تربة تخصّب نفسها بنفسها، وأنّها لا تصلح لإنبات الأشجار والغابات، إلخ. أي أنّ الزراعة كانت بمثابة «قدرٍ طبيعي» للبيئة الصينيّة. في «تاريخ كامبردج»، يشرح الباحث موتوكو هارا كيف تمّ تصحيح هذه الصور النمطية حتّى خرجنا، في العقود الأخيرة، بسرديّة مختلفة تماماً عن نشوء الدولة والزراعة في الصين.

بفضل الأركيولوجيا والحفريات والتقنيات الجديدة، نحن نعرف – مثلاً – أنّ منطقة شمال الصين (مولد الدولة ومهْدها) وحوض النهر الأصفر، كانت لا تزال مغطّاة بالغابات الكثيفة حتى نهاية حكم سلالة الـ«شانغ» القديمة (أي حوالى الألف الأول قبل الميلاد، قبل أن تتوحّد الصين بقرون طويلة). نمط الحياة في الصين حينها، كان أقرب إلى مجتمع الجمع والالتقاط، منه إلى المجتمع الزراعي: الزراعة لا تمارَس إلّا على نطاق ضيّقٍ جدّاً، على ضفاف الأنهار حيث هي «سهلة» ولا تحتاج إلى جهد. والناس يجنون أكثر قوْتهم من الغابة ويذهبون للصيد ضمن طقسٍ محدّد في فصل الشتاء، ويتمّ توزيع الطرائد والمحاصيل بشكلٍ طقسي تراتبي على السادة والأفراد. نحن ما زلنا في عصر البرونز وثورة الحديد (التي ابتدأت قبل قرونٍ في المتوسط) لم تصل بعد الى الصين. بل إنّه يمكن اعتبار سقوط دولة الـ«شانغ» (النظام القديم) وصعود دولة الـ«جو» تجسيداً للانتقال التدريجي من مجتمع صيدٍ والتقاط، إلى مجتمعٍ حضريّ يمارس الزراعة، فمنهج دولة الـ«جو» كان في التشجيع على الاستقرار واستثمار السهول النهرية في الزراعة الدائمة.

«الحركة» العامّة لتاريخ الدولة في الصين، كانت في انتشارها من الشمال وحوض النهر الأصفر (وهي المنطقة الأكثر جفافاً في البلد) في اتجاه الجنوب؛ فحصل استيطان حوض اليانغتسي أوّلاً، وقد كان منطقة أدغال ومستنقعات وَجد الملّاك الصينيّون أنها تصلح لملكيات الأرزّ الكبيرة ذات الإنتاج الكثيف المروي (وهو ما لم يكن متاحاً في الشمال، حيث زراعة القمح والشعير هي الغالبة)، وقد تمّ «تحضير» الجنوب الصيني وتثبيت الدولة فيه آخِراً؛ وقد ظلّت غاباته، حتى فترة قريبة تاريخياً، تمدّ البلد بخيراتها من الأخشاب والفراء وغيرها من الموارد. سقوط دولة الـ«شانغ»، بداية التاريخ الصيني، افتَتح قروناً طويلة من الصراع والتوسّع، وبناء دولٍ متنافسة واستيعاب تقنيات جديدة وتجريب نظرياتٍ في الحكم والاقتصاد («مرحلة الربيع والخريف» و«مرحلة الدول المتحاربة»)، قبل أن نصل إلى التوحيد الأوّل لـ«صينٍ» تشبه تلك التي نعرفها اليوم، وبمجتمعٍ أغلبه زراعي تحكمه دولة مركزية، وذلك في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد.

حين أخبرتُ حسن الخلف عن بدايات الدولة في الصين، كان تعليقه أنّ «دولتهم فتيّة»، بمعنى أنّ المجتمع الزراعي الصيني (ومعه الدولة وتنظيمها) قد «تأخّر» على الأقلّ بألفي عام مقارنة بنشأة الزراعة والدولة في مصر والرافدَين. السؤال هنا يعود بنا إلى النقاش الطويل حول طبيعة المجتمع الزراعي و«استعدادية» الناس للانضمام طوعاً إليه. والمشكلة، دائماً، هي أنّ السجلّ التاريخي الرسمي والثقافة الموروثة هي ثقافة حضرية تمجّد المجتمع الزراعي وتعتبره تطوّراً طبيعياً عن حياة الإنسان «البدائي». ولكن علم الآثار والإثباتات المادية يشيران أحياناً إلى ما هو عكس ذلك. يشرح فون غلان وغيره، أنّ دولة «جو» وأسلافها كانت تبذل جهوداً كبيرة لحثّ الناس على اعتماد حياة الزراعة، وأن الكثيرين من أجدادنا لم يمارسوها – في بداية الأمر – إلّا كخيارٍ أخيرٍ أو بالإرغام. بمعنى آخر، لو خُيّر الناس، فإن الكثير منهم كان سيفضّل حياةً «بربريّة»، يَجمع فيها الثمار ويصطاد في الغابة، على حياة المزارع في العالم القديم، وهي حياة من العمل المضني، والضرائب، والخوف الدائم من الجوع (هذه، تقريباً، هي خلاصة جيمس سكوت). من وجهة نظر الدولة، فإن مجتمع المزارعين المنتجين هو المجتمع «المثالي»، يسمح بجمع الخراج وتجنيد الجيوش، وإسكان أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس في بقعةٍ خصبة. من هنا، فإنّ الأدبيات التي تمجّد المزارع وعمل الأرض تتخلّلها تاريخياً «بروباغاندا» حكومية، من مصلحتها تحويل الناس إلى مزارعين ولفْظ البداوة والحياة غير الحضرية. نجد، في الأدبيات الكلاسيكية الصينية، مثلاً، ذمّاً في مهنة التجارة، ولكنك تكتشف أنّ الأمر لا يعود إلى نزوعٍ اشتراكي أو زهديّ، بل هو جزءٌ من فلسفة كاملة تُعلي من شأن الزراعة وتعتبرها العمل الوحيد «الشرعي»، وتذمّ كلّ نمطٍ آخر منافس للحياة والإنتاج (سواء كان الرعي أو الصيد أو التجارة والإبحار).

الدولة/ «التنّين»
في مرحلة الانتقال الطويلة هذه، قبل توحيد الصين تحت سلالة إمبراطورية تملك، في عُرفها، «تكليفاً سماوياً»، ستعرف الصين ثورة الحديد، بالتوازي مع صعود الدولة العسكرية. الحديد، وهو أسهل تصنيعاً وأكثر توافراً من البرونز، سمح بتسليح جيوش ضخمة، من مئات الآلاف بل والملايين من الجنود، بأسلحة حديدية فعّالة. اندحر النمط القديم من القتال (الذي يقوم على فرق النخبة وعربات الحرب) مقابل حربٍ تقوم على العدد وتنظيم حشودٍ ضخمةٍ من الفلّاحين في تشكيلاتٍ، يتمّ تحريكها من قِبَل الجنرالات مثل قطع الشطرنج. وأصبح تحدّي الدولة هو في تأمين الضرورات الاقتصادية لمثل هذا الحشد، والتفوّق في ذلك على جيرانها ومنافسيها. الأدوات الحديدية أدخلت أيضاً ثورةً زراعية ونهضةً في الإنتاج والبناء. باستخدام الحديد، يمكنك قطع الغابات بشكل أسرع، فيما إنتاج الحديد يحتاج بدوره إلى كميات كبيرة من الطاقة والأخشاب. تنبّهت سلالة الـ«هان» الصينية، منذ ألفَي عام، إلى أن هذا النمط سوف يوصل بسرعة إلى صينٍ لا تملك أيّ غطاء شجريّ، فاستدخلت شروطاً على الفلّاحين، من بينها أن يزرع كلّ بيت عدداً معيّناً من الأشجار في أرضه لغايات مختلفة (ثمار، حرير، إلخ)، وقد جرت هذه سنّةً لقرونٍ طويلة. على الهامش: في السنوات الماضية، عاد الغطاء الشجري في الصين ليرتفع إلى ما يزيد على الـ20% من المساحة العامة، وذلك بعد جهود هائلة استمرّت منذ الخمسينيات لإعادة الغابات إلى الصين.

الفكرة هي أنّ الكثير من التحليلات الرائجة تربط بين الدولة الإمبراطورية وبين الصين الحالية، باعتبار أنّ النظام القائم ليس سوى استمرار للتقليد الإمبراطوري في الحُكم. في هذه السرديّة، يتمّ تقديم الصين الإمبراطورية على أنها «الدولة/ التنّين»: استمرّت لألفَي عام، نظّمت أكبر مجتمع في العالم وجمعت منه الضرائب، بنت السور العظيم والقنال الكبيرة (وهي قناة داخلية هائلة، حُفرت على مدى قرون، تصل جنوب الصين بشمالها فلا يعود الصينيون في حاجةٍ – نظريّاً – إلى البحر). أي أن حالة الضعف في القرن التاسع عشر كانت استثناء، و«الحزب الشيوعي» هو استعادة حديثة لهذه «الدولة/ التنين». في الحقيقة، فإن سطوة الدولة في الصين ومركزيتها لم تكونا يوماً على هذا النّحو. التشبيه الأقرب للإدارة الإمبراطورية قد يكون ذاك الذي خرج به إيمانويل والرستين، مفسّراً عمرها المديد: لم تكن إدارة ناجحة كفاية بحيث تخلق مركزية وتراكُماً رأسمالياً، ولكنها أيضاً لم تكن فاشلة وطفيلية إلى درجة تجعلها تنهار وتتفكّك ليستبدلها نظامٌ آخر.

يعطي الباحثون إجابات مختلفة على هذا السؤال، بعضها ينطلق من الحدود التي وضعتها الإدارة الإمبراطورية على النشاط الاقتصادي، والبعض الآخر على طبيعة النخب الحاكمة وتوزيع السلطة في الأقاليم. إلّا أنّ لدى جين شو تفسيراً «نقدياً/ مالياً» مثيراً. الصين لم تكن تنقصها التقانة أو الإدارة، يكتب شو، بل كان ينقصها نظام نقدي موحّد ومتطوّر. مع أنّ الصين أصدرت عملات ورقية (اسميّة) قبل أوروبا بقرون، إلا أنّ النقد الصيني المتداوَل ظلّ معتمَداً على المعدن البسيط، وفي البلد أكثر من «عملة» يتم التعامل بموجبها في وقت واحد، بعضها برونزي يعود إلى السلالات الأولى (يتمّ صفّها في رزمٍ عبر خيوط)، وبعضها قروش نحاسية لاحقة، ومن ثمّ أصبحت الفضة هي الغالبة في البلد بعد القرن السادس عشر. هذا النمط من الاقتصاد، يحاجج شو، كان يصلح للتعامل اليومي والصفقات التجارية المحدودة، ولكنه لا يسمح بتطوير أدوات مالية متقدّمة وحسابات دفترية منفصلة عن العملة المعدنية. بمعنى آخر، بتعبير شو، لم يكن الاقتصاد الصيني قابلاً للصيرفة (non-bankable)؛ ومن غير المصارف والعملات الاسمية (بحيث يتحوّل المعدن إلى مجرد احتياط ويصبح المال أرقاماً في دفاتر)، لا يمكنك تحويل الثروة وادّخار الأفراد إلى رأسمال وتوجيهه في استثمارات كبيرة. ظلّت بيوت الأموال في الصين محدودة في الحجم، يقتصر عملها على التسليف البسيط والتعاملات الشخصية. بل إنّ الصين ظلّت، حتى القرن التاسع عشر، لا تملك مؤسّسة تشبه مصرفاً مركزياً، أي أنّ الدولة لا تقدر على التحكّم بالعملة والنقد والاستثمار (تخيّل أن تكون عملتك الوطنية هي الفضّة، التي لا تملك احتياطاً منها ولا تتحكّم بإنتاجها ولا بأسعارها).

الخلاصة هنا، هي أنّ الدولة الصينيّة الحالية ليست مجرّد استمراريّة لنظام قديم. في كتاب جديد اسمه «ماو والأسواق» (منشورات «يال»، 2022)، يرصد المؤلّفان كيف صاغت التعاليم الماويّة نظام السوق في الصين «الرأسمالية» النامية اليوم. ما فعله ماو لم يكن «إعادة صياغة» أو «تحديثاً»، بل تجربة جديدة للدولة المركزية لم تَعرف الصين مثيلاً لها في تاريخها. حين يحكم الناس على التجربة الصينية (وهي هي «اشتراكية» أو «رأسمالية»)، فهم غالباً ينطلقون من مفهوم تبسيطي عن الاشتراكية ورأس المال. هم يعتبرون أنّ الخيار ثنائي، محصور بين نموذجَين مثاليَّين: إما شيوعيّة كاملة، لا ملكية فردية فيها، أو نحن، طالما هناك سوق وأرباح، في «الرأسمالية»، والصين وأميركا هما الشيء نفسه. في الحقيقة، فإنّ المعادلة هي أعقد كثيراً من ذلك. سنناقش الموضوع في المستقبل، ولكن خلاصته هي أنّ المسألة ليست في خيارٍ بين أن تُدير الدولة الاقتصاد أو أن يُدار عبر أدوات سوقيّة. السؤال الحقيقي هو: من يتحكّم بهذه الأدوات وبرأس المال ويوجّهه؟ الموضوع ليس بسطحية: هل هناك أثرياء في البلد وبليونيرات أم لا؟ بل هو: هل الأثرياء هم من أسّسوا المصرف المركزي ويديرون النظام المالي، أم أنّ الدولة والمصرف المركزي يخلقان الأثرياء؟
في الصين القديمة، بينما كانت الدولة تصعد وتقوى، وتنتزع الإنسان من مجاله الطبيعي وتحوّله إلى مواطن/ مزارع/ جندي، خرجت من هذه العملية توليفة كونفوشيوسية تحاول أن تصالح بين الإنسان والقوّة. صيغت قاعدة مفادها أنّ الحياة الزراعية هي نمط الحياة المثالي في المجتمع، ولكن ليس أيّ زراعة، بل نموذج الفلاح المستقلّ المزدهر، الذي يملك أرضه ويستثمر فيها. لا البربرية ولا العبودية، بل مساحة أخلاقية في كنف «العالم الجديد». على الرغم من أنّ هذا المثال لم يُطبّق في كامل الصين، ولا في كلّ أقاليمها، إلّا أنه ظلّ بمثابة مفهوم فلسفي حاضر بقوّة على طول التاريخ الصيني باعتباره الهدف الذي نسعى إليه. الأثر العميق للتجربة الصينية اليوم، وهي لم تزل في بدايتها، والاختبار الحقيقي لها، قد لا يكون في خلخلة موازين القوى وخريطتها في العالم، بل في أن تبتدع – كما فعل الأسلاف في الصين – مفهوماً جديداً بالكامل للحياة في عصر السوق.

* كاتب من أسرة «الأخبار»

   جريدة الاخبار اللبنانية

اترك تعليقاً