السيمر / فيينا / الثلاثاء 31 . 01 . 2023
د. نضير الخزرجي
يجتهد كل طالب من ذكر وأنثى في المدارس الحديثة الظفر بدرجة عالية في مرحلة الدراسة الثانوية أو الإعدادية تؤهله لدخول كلية أو جامعة في مجال الطب والهندسة وأمثالهما، لإدراكه أنَّ المعدل المرتفع في الإمتحان الوزاري هو أول الدرج لارتقاء سلم الحياة، بخاصة وأن الطالب يضع في أحلامه المستقبلية الوظيفة الجيدة والمرتب المحترم والسكن الهانئ، ويدرك أن كثرة المتطلبات وتنوعها جعلت من الحياة الزوجية أصعب من ذي قبل، فالمرأة التي يقدم على خطبتها تطمح بزوج مقتدر مادياً ولا ترضى هي أو والداها بشاب أنهى لتوه دراسته إن عدم المال والدار، حيث صار الجيب المعمور وإن بان خراب المستور هو مبلغ همِّ المرأة وذويها.
وقد يظن بعض طلبة المرحلة المتوسطة وهم كثيرون أن دراسة القسم الأدبي في المرحلة الإعدادية أقل جهداً ونصباً من الدراسة، وإني وإن لم أمر بتجربة الدراسة الأدبية قبل الجامعة، لكني أدرك من خلال بعض الإختصاصات أن العلوم الإنسانية ليست بالأمر الهين كما يظن البعض، فإذا تطلبت الدراسة العلمية عقلاً قادراً على التعامل مع الأرقام والمعادلات الرياضية والقوانين الفيزيائية والتجارب الكيمائية، فإن الدراسة الأدبية هي الأخرى تتطلب عقلاً متمكناً من التعامل مع النصوص والمتون ودركها والوقوف على غوامضها، بخاصة إذا كانت دراسته والشهادة التي سينالها على علاقة مباشرة بشؤون الناس ومصائرهم، وهذا ما عليه بشكل خاص الدراسة في كلية الحقوق أو كلية القانون.
ولأن دراسة القانون لها أهميتها في العلوم الإنسانية فإن بعض الجامعات الرسمية الحكومية تشترط على المتقدم حصوله على درجة عالية في الإمتحان الوزاري، فبعض الدول اشترط درجة 86 بالمائة كحد أدنى وبعضها 84 وبعضها تنازلت إلى 79 درجة أو أقل من ذلك بقليل، وبالطبع لا نتحدث عن الجامعات الأهلية التي تقبل درجة 56 فما فوق لدراسة القانون لأنها جامعات ربحية.
وكما اختلفت نسبة المعدل العام اختلفت سنوات الدراسة الجامعية فبعضها ثلاث سنوات وبعضها أربع سنوات، وبعض الدول تشترط على المتخرج العمل لسنة أو سنتين تحت الإختبار قبل مباشرة المهنة، وليس لكل مجاز من كلية الحقوق أو القانون حق المرافعة القانونية، فهذه المرحلة لها اشتراطاتها وهي متباينة بين دولة وأخرى، لأن العمل ليس نتائج مختبرية أو معادلة رياضية أو فيزيائية أو خلطة كيمائية، وإنما النتائج على علقة مباشرة بحياة ناس وأملاك ناس وشركات، ولذلك تنوعت الدراسة، فهناك القانون العام والقانون الخاص، والقانون الإداري، والقانون المالي، والقانون الدستوري، والقانون المدني، وقانون الملكية العام، وقانون الملكية الفكرية، وقانون الأسرة، والقانون الدولي، والقانون التجاري، والقانون الجنائي، وما إلى ذلك من قوانين هي محل اختصاص المتخرج من كلية الحقوق أو القانون يستفيض في دراسات عليا لنيل الماجستير أو الدكتوراه، ويعود إليها كل حين إذا التزم بقضية وهو في مقام المحامي والدفاع عن موكله، كما أصبح المواطن بمسيس إلى رجل القانون عندما يقع في مشكلة وما أكثرها في عالمنا المضطرب اليوم.
هذي المقدمة ساقني إليها صدور الجزء الأول من كتاب جديد للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد الصادق الكرباسي يتناول فيه حاجة الناس إلى فهم قوانين الأرض والسماء وما يحيط بهم في حياتهم اليومية بالقدر المتيقن عند الإبتلاء بها أسماه “منار المقلِّدين ومعتمد المُحتاطين وأُنس المجتهدين وتنبيه الغافلين” قسم العبادات صادر حديثاً عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 383 من القطع الوزيري.
ثنائية الإجتهاد والتقليد
عنوان الكتاب وبكسر اللام “المقلِّد” حاكٍ عن طرفين ثانيهما بفتحها وهو “المقلَّد” وبتعبير علوم الشريعة الفقيه المجتهد المتمكن من الإفتاء وإليه يرجع الناس في أمور الدين في حقلي العبادات والمعاملات.
وهناك مشتركات كثيرة بين الفقيه والمستشار القانوني، فكلاهما يرجع الناس إليهما، وكلاهما يدرس ما يرتبط بحياة الناس من قوانين من قريب أو بعيد، وكلاهما يجتهد في نصوص ومتون من وحي الشريعة، فالمجتهد يجتهد في متون السماء والمستشار يجتهد في متون الأرض، ولارتباط الشريعة بالقانون فإن كليات الحقوق والقانون تقبل خريجي الشريعة لمواصلة الدراسات العليا في مجال القانون، وبالعكس.
وحيث لم يكن المستشار القانوني كان الناس يعودون الى الفقيه في كل صغيرة وكبيرة حتى في البيع والشراء وتوثيق العقود، وحيث تطورت الحياة وتنوعت الدراسات وتخصصت، مال الناس الى الفقيه في المسائل الشرعية الفقهية ومالوا الى المستشار القانوني في مشاكلهم الحياتية.
فلا مفر من العودة إلى الفقيه والمحامي، فالأول تحت مسمى التقليد والثاني تحت مسمى الإستشارة القانونية، والقول بعدم الرجوع إلى الفقيه عند الإبتلاءات كالقول بعدم طلب الإستشارة القانونية عند الملمّات، بل إن المحاكم وبخاصة المدنية في كثير من بلدان العالم تضع للمتهم محامياً إن قصرت يده وضاق وسعه عن إيجاد من يدافع عنه، لإدراكها بأهميته في مثل هذه المواقف، فالقاضي بشكل عام لا يتعامل مباشرة مع المدعي أو المدعى عليه وإنما مع من يترافع عنهما لأنَّ المواطن إن كان مدعياً أو مدعىً عليه لا يفقه القوانين ولا يدرك متونها وما تحت السطور، وهذا من شأن المحامي أو المستشار القانوني الذي يجد أفضل السبل لموكله لكسب القضية أو الخروج منها بأقل الخسائر.
فإذا كان الرجوع إلى أرباب القانون في الأمور الحياتية أمراً حتمياً فإن الرجوع إلى أرباب الشرع أمر على قدر كبير من الأهمية لأنَّ فيه سعادة المرء في الحياة الدنيا والآخرة، والعاقل من يطلب سعادة الأولى ويضمن نجاة الأخرى وخلودها.
فالناس ثلاثة إمّا عالم مجتهد أو عالم محتاط أو رجل عام على سبيل نجاة، وهذه الثلاثية قائمة أصولها في كل منحى من مناحي الحياة ويتبادل أدوارها كل واحد منهم، فكما يكون الرجل العام وهو طبيب مقلِّداً (بكسر اللام) تابعاً للفقيه المقلَّد (بفتح اللام) في أمور الدين أو يرجع إلى المستشار القانوني في أمور الحياة، يصبح الفقيه المجتهد المتبوع تابعاً مقلِّداً عندما يمرض وعليه الذهاب إلى الطبيب، فيصبح الأخير التابع متبوعاً والأول المتبوع تابعاً، وعندما يترافع المستشار القانوني المتبوع عن الرجل العام مهندس الحاسوب التابع، يعود المتبوع إلى المهندس إذا توقف حاسوبه عن العمل، وهذه هي سنة الحياة جرت على العباد ولا مهرب منها أو مكابرة.
إذن هناك ملازمة بين الإجتهاد والتقليد، وإطاعة القانون والتعليمات في كل مفصل أو عمل هو تقليد، فإطاعة الرسول وأولى الأمر هو تقليد لهم في العمل والقول والإقرار، وإطاعة تعليمات المؤسسة التي يعمل بها الفرد هو تقليد لما سنّه قانون المؤسسة، والمرء قد يجتهد فيما هو ضليع فيه فلا يحتاج إلى تقليد أحد ولكنه بالتأكيد أحوج إلى الآخر فيما لا اجتهاد فيه ولا خبرة، فكل مرء في الوجود ما خلا المعصوم هو مجتهد ومقلَّد وتابع ومقلِّد في آن واحد، على أن الإجتهاد مقدّم على التقليد، أي أن يسعى الإنسان لإن يصل مرتبة الإجتهاد قدر الإمكان، وبتعبير الفقيه الكرباسي في المسألة (2079): التقليد في ذاته غير محبَّذ، ولكن تشريعه جاء للتخفيف عن المكلَّف إبتعاداً عن العسر والحرج.
عبادات ومعاملات
تسالم الفقهاء على تقسيم المسائل الشرعية إلى العبادات والمعاملات، فالأولى ما تهم المرء وربه، والثانية ما تهم المرء والآخر وما يحيط به من عاقل وغير عاقل وجماد، والجزء الأول من “منار المقلِّدين” يتناول في 2542 مسألة شرعية “باب الفقاهة” من قسم العبادات وضم مباحث ستة.
لقد أضاف الفقيه الكرباسي في “منار المقلِّدين” مسائل فقهية واجتهادات ما يمكن إضافته على ما قدَّمه الأعلام الثلاثة الحكيم محسن (1306- 1390هـ) في كتابه ورسالته العملية “منهاج الصالحين”، واستاذه الخوئي أبو القاسم (1317- 1413هـ) في تعليقه على منهاج الصالحين، وحوَّر ما في المنهاج طبقاً لآرائه الفقية المعاصر السيستاني علي المولود سنة 1349هـ، وذلك دون المساس بأصل الرسالة العملية بشكل عام: (حيث وجدتها أوفى من غيرها وأوضح من مثيلاتها، مع تطبيقها بما توصلت إليه، لتكون جزءاً من منهجي في سير الحياة ومبرئة للذمة إن شاء الله).
وقبل الولوج في مبحث الفقاهة قدَّم المؤلف في “التوطئة” مقدمة عن مسائل عقائدية يرى ضرورة بيانها من قبيل الإيمان والإلحاد والشرك والنبوة والإمامة والتوحيد والعدل والمعاد، كما مهّد لـ: “تاريخ الإجتهاد والتقليد” الحديث عن “العبادات”: أي ما يحتاج إلى نية القربة إلى الله، و”المعاملات”: أي ما يحتاج إلى عقد من طرفين، و”الإيقاعات”: أي ما يقع من طرف واحد كالطلاق، و”الأحكام”: وهي تضم كل ما فيه قضاء وحكم، و”الإنجازات”: وهي من المستحدثات كفقه المواصلات والإتصالات والإنتخابات وما شابه.
ورأى في باب الإجتهاد والتقليد، أن الإجتهاد لدى الفقهاء بصوره الصغرى حصل حتى في حياة النبي محمد (ص)، وعضَّد رأيه ببعض الحوادث والمشاهدات التاريخية.
مصطلحات ومسميّات
وحتى لا يقع القارئ في مخمصة بعض المصطلحات الفقهية الواردة في كتب الفقه، فإن المؤلف أفرد 350 مسألة لبيان معاني المصطلحات ومرادها وفق الحروف الهجائية بدءاً من حرف الهمزة ومصطلح “الآيات”: وهي الأمور الكونية التي تحدث كالكسوف والخسوف والزلازل والصيحة، وفيها تجب إقامة صلاة الخوف، وانتهاءً بحرف الياء ومصطلح “يوم عرفة”: وهو اليوم التاسع من ذي الحجة والذي يتوجب فيه على الحاج الوقوف في عرفة من الظهر وحتى الغروب.
ويطل المؤلف من باحة المصطلحات على الباب الأول من قسم العبادات وهو باب الفقاهة الذي يضم ستة مباحث، حيث يتناول في أولها في 75 مسألة (306- 380) “مبحث التفقُّه”: أي معرفة الأحكام الشرعية.
ويقتضي بعد التفقه بيان مسائل الإجتهاد والتقليد والإحتياط والتطابق كما هو عليه ثانياً: “مبحث التكليف” في 1427 مسألة فقهية (381- 1807)، أبان فيه عن شروط التكليف من: بلوغ، وعقل، وقدرة واستطاعة، وعلم ومعرفة، وحسن العقيدة، وإبراء الذمة، كما أبان عن التكليف والأحكام الخمسة من: واجبات، ومحرَّمات: ومندوبات، ومكروهات، وواجبات، كما تناول في موضوع الجزاء: الثواب والعقاب، كما أبان عن الأحكام والمتغيرات من: الأحكام الثانوية، والإضطرار، والإكراه، والإجبار، والتعارض، والتقية، والضرورة، والنقائض، كما بحث مسألة النيَّة وقصد القربة، لأن بعض المسائل بحاجة إلى قصد النية والقربة إلى الله مثل الوضوء، ومنها لا يحتاج مثل غسل اليد من النجاسة.
ويفصل المؤلف في الثالث من باب الفقاهة “مبحث الإجتهاد” في 269 مسألة فقهية (1808- 2076)، أي في مؤداه الوصول إلى الأحكام الشرعية عبر الأدلة الشرعية والتي أهمها القرآن الكريم والسنَّة الشريفة.
وحيث يلزم الإجتهاد التقليد فإن الرابع من باب الفقاهة في 210 مسائل فقهية (2077- 2286) كان “مبحث التقليد”: أي العمل بمقتضى فتوى المجتهد الجامع لشرائط جواز تقليده.
ويتابع الفقيه الكرباسي في خامس باب الفقاهة في 149 مسألة فقهية (2287- 2435) “مبحث الإحتياط”: أي العمل بالفتاوي التي لا تسبب التنافي مع بقية الفتاوى، ولا تخالف بالنهاية الشرع حسب معرفته.
ويتابع في آخر باب الفقاهة وسادسها في 24 مسألة فقهية (2436- 2459) “مبحث التطابق”: والمراد به تطابق عمل المكلَّف مع ما هو حجة شرعية.
وآخر ما في الجزء الأول من منار المقلدين (الخاتمة في المسائل الأخلاقية) في 73 مسألة فقهية (2460- 2532) أي التطبع بما فيه الفضيلة والإبتعاد عما فيه الرذيلة.
ولاشك أن المسألة الأخيرة هي مراد أحكام الله في عباده وقطب رحاها، فهو الرحيم الذي يريد لعباده الخير في الدارين، فكلما سادت الفضيلة وقيم الخير ساد السلام في الأرض واقترب الناس من نعيم رب الناس في المعمورة وفردوسه.
الرأي الآخر للدراسات- لندن