السيمر / الجمعة 22 . 07 . 2016
صالح الطائي
مما لا خلاف عليه أن جميع الأديان السماوية والحضارات الإنسانية، حرَّمت المثلية الجنسية أو الشذوذ، حيث ذهبت الديانة اليهودية إلى أن المثلية رجس، كما جاء في الكتاب المقدس: “وَإِذَا اضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ ذَكَرٍ اضْطِجَاعَ امْرَأَةٍ، فَقَدْ فَعَلاَ كِلاَهُمَا رِجْسًا. إِنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ. دَمُهُمَا عَلَيْهِمَا”(1) وفي السفر نفسه حددت عقوبتها بالقتل رجما(2).
ووصفتها الديانة المسيحية بالفاحشة والخطيئة، جاء ذلك في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، في قوله: “وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتغلوا بشهواتهم بعضهم لبعض، فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالتهم المحق…. مملوءين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث… مبغضين الله”. وهي الأخرى ذهبت إلى أن عقوبة المثلي الجنس: أن يطرد من رحمة الله، جاء في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، أن الذين يمارسون المثلية الجنسية لا يرثون ولا يدخلون ملكوت الله أي الجنة: “إن الظالمين لا يرثون ملكوت الله. لا تضلوا، لا زناة ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون، ولا مأبونون، ولا مضاجعوا ذكور… لا يرثون ملكوت الله”(3) وإلى قرون قريبة وتحديدا منذ القرن الثالث عشر، فرضت الكنيسة الكاثوليكية على المثليين ثلاث مراحل من العقاب: الإخصاء عند ارتكاب الفعل لأول مرة. الحرمان الكنسي في المرة الثانية. الحرق في المرة الثالثة.
أما الإسلام، فتحدث أولا عن بداية ظهورها، معلنا أن ذلك حدث في قوم لوط(ع) كما في الآيات: {وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}(4). واستهجن هذا الفعل، كما في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (*) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}(5) بمعنى أن الحديث كان عن المثلية الذكورية، وأطلق على المثلية الذكورية عدة صفات، جاءت في آيات مختلفة، منها على سبيل المثال:
اسم الخبائث، كما في قوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}(6) والمعروف أن الخبائث: ضد الطيب من الرزق والولد والناس، ويطلق الخبيث على الحـرام، كالزنا، والمال الحرام، والدم الحرام، كما يطلق على الرديء المستكره طعمـه أو ريحـه،
كالثوم والبصل. والخبائث في معانيها الكبرى محرمة على المؤمن، تبعا قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}(7). قال محمد رشيد رضا: “والخبيث كل ما حرمه الله تعالى فهو خبيث ضار في البدن والدين”(8).
ومنها اسم الفاحشة: كما في قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(9) حيث سماها الفاحشة، وسمى مرتكبها: الجاهل. وعند ربط هذه الآية بآية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(10) يتأكد لك تحريم الإسلام للواط قطعيا.
أما عن عقوبتها فقد حرمها الإسلام تحريما غليظا، وتشدد في عقابها، وهناك الكثير من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، منها أنه سبحانه جعل العقوبة التي أوقعها على قوم لوط (ع) تحذيرا للمسلمين، كما في قوله تعالى:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (*) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}(11).
وقوله تعالى:{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}(12) من هنا، قال القرطبي في تفسيره: “واجمع العلماء على تحريم اللواط، وإن الله تعالى، عاقب قوم لوط، وعذبهم لأنهم كانوا على معاص وذنوب، ومنه الفعلة المشينة والعملة القبيحة، ألا وهي اللواط، فأخذهم الله بذلك، ولأنه كان منهم الفاعل والراضي بذلك، فعوقبوا الجميع لسكوت الجماهير عليه، وهي حكمة الله وسنته في خلقه، وبقي أمر العقوبة على الفاعلين مستمرا”(13). وقال النووي: “فإن اللواط وهو إتيان الذكور في أدبارهم محرم، وهو من الكبائر”(14)
ومن الغريب أن الفقهاء اختلفوا في نوع عقوبة مرتكبها مع أنهم يستندون إلى الأحاديث نفسها، ومنها أحاديث ابن عباس، منها، قوله: قال رسول الله(ص): “من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به”(15) ومنها أيضا، قال : قال رسول (ص): “ملعون من عمل بعمل قوم لوط”(16) ومنها كذلك (ص): “لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا، أو امرأة في دبرها”(17) وأيضا قوله: قال رسول الله(ص): “لعن الله من عَمِل عَمَلَ قوم لوط، لعن الله من عَمِل عَمَلَ قوم لوط، لعن الله من عَمِل عَمَلَ قوم لوط”(18). ومن الأغرب أن تجد للفقيه الواحد أكثر من حكم فالإمام مالك له قولان:
الأول: يرجم الفاعل والمفعول به; أحصن أو لم يحصن. إن كان محتلما.
الثاني: يرجم إن كان محصنا ، ويحبس ويؤدب إن كان غير محصن(19). لهذا السبب وأسباب أخرى، اختلف أصحاب الإمام مالك في طريقة قتله، فقال بعضهم: ينظر إلى أعلى دار فيرمى منها منكساً، كما في قول ابن عباس: “يرمى من أعلى جدار في القرية، ويتبع بالحجارة”.
وقال ابن قيم: “من العلماء من قال: حده حد الزنا، وقد قيل دون ذلك، والصحيح أن يقتلا سواء كانا محصنين أو غير محصنين” لقول ابن عباس: “مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ”. وقال بعضهم: “يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا”. وقد ثبت عن خالد بن الوليد، أنه وجد في بعض نواحي العرب، رجلا يُنكح، كما تنكح المرأة، فكتب إلى أبي بكر فاستشار أبو بكر الصحابة فكان علي بن أبي طالب، أشدهم قولا فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة، وقد علمتم ما فعل الله بها، أرى أن يحرق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد، فحرقه.
وقال ابن القصار المالكي: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر: يرمى من شاهق، وقال علي: يهدم عليه حائط، وقال ابن عباس: يقتلان بالحجارة(20)
وحكم الشافعية بقتل الشاذ رجما، قال الشوكاني: “وأخرج البيهقي عن علي (رض) أنه رجم لوطيا. قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصناً كان أو غير محصن”(21).
ومثل غيرهم، اتفق فقهاء الشيعة على أن حد اللواط على الفاعل والمفعول به: القتل، فيما لو دخل القضيبُ أو شيء منه في الدُبُر، وكان كل من الفاعل والمفعول به عاقلاً بالغاً مختاراً، ولا فرق بين أن يكون كلاً منهما مُحْصَناً أو غير مُحْصَن، أو مسلماً أو غير مسلم. أما عن كيفية تنفيذ الحكم فقد ذهب المشهور إلى أن الحاكم مخيَّرٌ بين أن يضربه بالسيف، أو يحرقه بالنار، أو يلقيه من شاهق مكتوف اليدين والرجلين، أو يهدم عليه جداراً، وله أيضاً أن يجمع عليه عقوبة الحرق والقتل ، أو الهدم والإلقاء من شاهق. لكن إذا تاب قبل أن تقوم عليه البينة، سقط عنه الحد فاعلاً كان أو مفعولاً، و إذا تاب بعدها لم يسقط عنه الحد. أما إذا أقرَّ باللواط ثم تاب، كان الخيار في العفو و عدمه للإمام.
نتيجة هذا التباين، نجد هناك من يعزيه إلى أن النبي(ص) لم يقضي في اللواط، لأنه لم تمر عليه حالة لواط، فضلا عن أن اللواط لم يكن معروفا في الجاهلية! ومن هؤلاء ابن قيم الجوزية الذي قال: “ولم يثبت عنه (ص) أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه (ص)، ولكن ثبت أنه قال: “اقتلوا الفاعل والمفعول به”(22) وهذا رأي شديد الغرابة، من جهتين، الأولى: يذكرني بما نقله السيوطي عن أحد الخلفاء الأمويين؛ وهو الوليد بن عبد الملك، في قوله الذي نفى فيه أن يكون قد سمع عن اللواط أبدا، إذ نسب إليه القول: “لولا أن الله ذكر آل لوط في القرآن، ما ظننت أن أحدا يفعل هذا”(23)
والثانية: أن اللواط إن لم يكن قد وقع في عصر البعثة، فإنه لم يكن مجهولا بالمرة في المجتمع الجاهلي، بل إن الحياة العربية قبل الإسلام، عرفت أشكالا متنوعة من حياة اللذة المحرمة؛ ابتداء من نكاح الخدن، حيث كانت المرأة تتخذ خدنا(صاحبا)،وتبقى له يمارسان الرذيلة سرا. وكانوا يأتون المرأة في خبائها فينكحونها برضاها، دون عقد نكاح، فإذا حملت عينت واحدا من الذين مروا بها وألحقت المولود به. وصولا إلى نكاح الاستبضاع. حيث يرسل أحدهم امرأته إلى آخر مشهور بفحولته لينكحها فتحمل منه، تحسينا للنسل بزعمهم. رسوا عند تبادل الزوجات؛ الذي لم يعرفه الغرب إلا مؤخرا، وهو ما يعرف بنكاح البدل، حيث يتبادل الرجلان الزوجات فيما بينهما.
وختاما بزواج المقت، وهو أن يتزوج الابن امرأة أبيه. فضلا عن ذلك كانت ضروب اللواط والسحاق والتخنث معروفة في المجتمع الجاهلي، يمارسونها بلا حرج. وقد تحدث الدكتور جواد علي عن الشذوذ في العصر الجاهلي، فقال: “والشذوذ الجنسي معروف عند الجاهليين أيضا كما هو عند جميع الأمم منذ القدم، وليس من المعقول استثناء الجاهليين من ذلك، بدليل ورود النهي عنه، والتحذير منه في القرآن الكريم وفي الحديث. ومن الشذوذ الجنسي، الشذوذ المعروف، وهو ذهاب الرجل مع الرجل ومزاولته عمل الجنس معه، أو اتصال المرأة بالمرأة اتصالًا جنسيا، أو إتيان الرجل المرأة من دبر، كما كان الحال عند أهل مكة، فقد ذكر أن منهم من كان يأتي النساء من أدبارهن، وقد منع ذلك في الإسلام”(24).
وبذا لا يصح قول ابن قيم دليلا على عدم وجود الشذوذ في المجتمع الجاهلي، أو عدم معرفة المسلمين له في عصر البعثة. نعم قد ولا أقول من المؤكد؛ أن الشذوذ اختفى في عصر البعثة، أو لم يعثر على نص يذكره، ولكن من المؤكد أنه عاد إلى الظهور مع ما ظهر من الموروث الجاهلي بين المسلمين بعد عصر البعثة مباشرة، أما نفي وجوده من ذلك المجتمع فمحال قطعا! بل هناك في بطون كتب التاريخ نقولا كثيرة تتحدث عن اشتهار بعض قبائل العرب بشذوذ آخر يتم مع الحيوان غالبا، فهل يعقل أن يرتكب المجتمع مثل هذا الشذوذ مع الحيوان ولا يرتكبه مع الإنسان؟ وهنا لا أنكر أن بعض حديثهم عن هذا الشذوذ قد يكون وليد العداوة بينهم، ولكن لابد وأن غالبه كان صحيحا، إذ قيل والعهدة على القائل: إن (بني كليب) اتهموا بإتيان الضأن، و(بنو الأعرج) و(سُلَيم) و(أشجع) اتهموا بإتيان الماعز. و(بنو دارم) أتهموا بإتيان الأتن أي صغار الحمير، و(بنو فزارة) اتهموا بإتيان الإبل، فالعادة أن القبائل في الجاهلية كانت إذا ما تخاصمت، رمت بعضها بعضا بالتهم التي تنتقص منهم.
فضلا عن ذلك، كان الجاحظ؛ في حديثه عن زواج الإنس بالجن قد أشار إلى وجود هذا الشذوذ بينهم، بقوله: “ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناسا كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نرَ ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء القح منها شيء من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا”(25).
بل إن تكرار الإسلام التحذير منه، يشير من طرف خفي إلى وجود هذه الممارسة، لدرجة أن رسول الله(ص) كان يخاف عليهم الوقوع في هذا الشذوذ، جاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله (ص) قال: “إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط”(26). وهناك الكثير من أقوال العلماء في التحذير، مثل قول الحسن بن ذكوان: “لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى”. وقول النجيب بن السري: “لا يبيت الرجل في بيت مع أمرد”. وقول سعيد بن المسيب : “إذا رأيتم الرجل يلح بالنظر إلى غلام فاتهموه”.
وقال عطاء: “كان سفيان الثوري لا يدع أمرداً يجالسه”. وقول النجيب: “وكانوا يكرهون أن يحدق الرجل النظر إلى الغلام الجميل الوجه”. وقول أبو سهل: “سيكون في الأمة قوم، يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل”.
مثل الديانات كلها، غالبا ما كان للحضارات المادية عبر التاريخ موقفا معترضا على هذا الفعل ومنكرا له، بل حتى أكثر الناس سفكا للدماء كانت لهم مثل هذه المواقف فهتلر كأنموذج للحضارة المعاصرة، بالرغم مما عرف عنه من قسوة وعنف، جمع المثليين مع الغجر واليهود والمعاقين وشهود يهوه في مخيمات، وأعدمهم، مما حدا بألمانيا المعاصرة أن تعتذر عام 2002 للمثليين عن تلك (الجريمة)!
أما أمريكا فمنذ بداية تأسيسها، حرمت كل ممارسة جنسية (غير طبيعية) حتى أنها قامت خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م) بطرد معظم المثليين من الجيش ومن أعمالهم ووظائفهم. ولكنها انقلبت على هذا التقليد بعد الحرب، فتم عام 1950 إنشاء أول منظمة حقوقية مثلية. وحصل المثليون على دعم الكنيسة حينما قام القس (تروي باري) عام 1968 بتأسيس أول كنيسة ترعى المثليين في أمريكا.
وبالرغم من اتفاق الأديان والحضارات والعلم على أن هذا العمل شاذ بمعنى الكلمة… وبالرغم من أن الغرب المتحرر لا زال إلى هذه الساعة يطلق على (المثليين) اسم (الشواذ جنسيا) … وبالرغم من أن المثلية الجنسية كانت إلى وقت قريب جدا تعتبر علميا وطبيا من الأمراض النفسية؛ بعد أن درسها العلماء بمعزل عن الرؤية الدينية، كمرض وليست كخطيئة أو جريمة دينية. هذا في الأقل لغاية قيام المثليين بمظاهراتهم للضغط على جمعية الطب النفسي الأمريكية، حتى اضطروها أن تحذف المثلية من الأمراض النفسية. والذي تلاه قيام منظمة الصحة العالمية في عام 1992 بشطب المثلية الجنسية من لائحة الأمراض النفسية، وهو اليوم الذي عده المثليون يوم التحرير من عبودية القوانين، فأعلنوه يوما عالميا لمحاربة رهاب المثلية! مما حول المثليين إلى قوة انتخابية لا يستهان بها، مما حدا بالرئيس باراك أوباما إلى الاعتراف بالزواج المثلي عام 2012. وهو الانفتاح الذي أدى إلى أن تقر ست من الدول الأوربية شرعية زواج الشاذين جنسياً كحق مشروع، وهي: النرويج، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، كندا، فضلا عن ولاية ماساتشوستس الأمريكية. بالرغم من كل ذلك تغيرت الموازين، وتبدلت المصطلحات تبعا لهذا التطور الغريب، فاستعيض في تسعينيات القرن الماضي عن مصطلح (الشواذ) بمصطلح (إل جي بي تي) أو (LGBT) أو GLBT)) وهو اختصار لكلمات (Lesbian، Gay، Bisexual ،Transgender) علما أن هناك مساع كبيرة نجحت في إدخال أفراد الهجرة القسرية إلى هذا المصطلح، ليتحول إلى مصطلح (إنساني) تتقبله الناس دون امتعاض. وهذا كله كان من نتاج الثورة الجنسية التي انطلقت تحت تخطيط ممنهج في ستينيات القرن الماضي.
ونحن لا نعترض على ما تختاره الأمم من نظم وقوانين تتماشى مع طبيعة حياتهم ومع مواريثهم، فالعالم الغربي يملك تاريخا عريقا في الإباحية يمتد إلى سنين طوال، فابن فضلان سفير الخليفة العباسي في القرن الميلادي التاسع إلى أوربا، وتحديدا إلى دولة البلغار، سبق وإن استغرب من رؤية النساء والرجال يسبحون سوية في البحر عراة من غير ملابس تسترهم، دون أن يشعروا بالخجل من كشف عوراتهم(27) وهذا الموروث التاريخي هو الذي جعلهم يغيرون المصطلحات لتخدمهم فيتحول الفعل الشنيع إلى كلمة تهفو إليها النفوس، كما في قول الكاتب والناقد كريستوفر هيتشنز: “حسنا، المثلية الجنسية ليست شكلًا من أشكال الجنس، بل إنها شكل من أشكال الحب”. ولكننا نرفض أن يقسرونا على قبول مواريثهم وتطبيقها في مجتمعاتنا!
إن هذا الرفض سيبدو خجلا مرتبكا مترددا أمام المغناطيسية التي يسلطها ذلك الموروث والواقع الذي تكلمنا عنه؛ على مجتمعاتنا المعاصرة، فما يحدث في بعض بلداننا العربية والإسلامية اليوم، تحت ضغط ما يعرف بمنظمات حقوق الإنسان المدعومة من الغرب، يؤكد أنها بدأت بمجموعها تتحول إلى بلدان (شاذة)، لأنها عجزت عن رد المؤامرات التي تحاك ضدها، بعد أن انشغل قادتها بترفهم ونعيمهم، ولاسيما وأن هناك اليوم دولا إسلامية تتبنى الترويج للقضية!
فتركيا مثلا تعتبر زعيمة الموقف المتساهل، فهي بالرغم من كونها تحكم من قبل الإخوان المسلمين، إلا أن سعيها المحموم لنيل عضوية الإتحاد الأوربي، دفعها إلى التنازل عن كثير من ثوابتها العقدية. نعم قد تكون القوانين التركية التي سنها كمال أتاتورك في سعيه لتطهير تركيا من موروثها الديني، وأملا بترسيخ روح العلمانية أحد الأمور التي يسرت للمثلية سرعة الانتشار، فلطالما كانت نشاطات وحركات المثليين منذ تأسيس تركيا الحديثة في عام 1923 تعتبر فعلا قانونيا لا غبار عليه، وكان للشاذين (المضطهدين) حق طلب اللجوء إلى تركيا هربا من الاضطهاد بموجب اتفاقية جنيف منذ عام 1951، لكن حمى نيل عضوية الاتحاد الأوربي، دفع الحكام الأتراك منذ عام 1988 إلى السماح للمتحولين جنسياً بتغيير تعريف جنسهم في الوثائق القانونية الحكومية ليصبح وجودهم معا شرعيا. وتحولت تركيا بموجب هذه القوانين إلى ملاذ آمن للمثليين الجنسيين المسلمين، وهو ما شجع بعض المسلمين على ارتكاب هذا الفعل؛ الذي بدأ ينمو ويتوسع بشكل مخيف. ففي أحد بلداننا العربية المعروفة بطابعها الإسلامي ونظام حكمها شبه المستقر؛ وهي المملكة المغربية وحدها توجد اليوم عدة جمعيات للشواذ والمثليين منها في الأقل ثلاث جمعيات باتت معروفة عالميا هي: (كيف كيف) و(أصوات) و(أقليات) وأن بعض أعضاء هذه الجمعيات، ومنهم المثلية المغربية صاحبة شعار (حبوا ما شئتم أين ما شئتم) المدعوة (هاجر متوكل)، والتي تبلغ الثالثة والعشرين من العمر وتقيم برفقة شريكتها (هدى) في تركيا، بلغت بهم الجرأة ليكتبوا مذكراتهم وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي بغية الحصول على دعم دولي أكبر للمطالبة بحقوق المثليين المغاربة والعرب! وبعضهم الآخر ومنهم (عبد الله الطايع) المقيم في فرنسا؛ لم يكتفوا بالجهر بمثليتهم فحسب بل وجعلوا الحديث عنها موضوعا ثقافيا أساسيا، حيث كانت المثلية محور مؤلفات (الطايع) مثل: (كآبة عربية)، (مغربي أنا)، (أحمر الطربوش)، بحجة أنه يدعو إلى احترام اختيارات الفرد في الحياة.
إن تفشي هذه الظاهرة في المملكة المغربية المحافظة والمتدينة يؤكد يقينا أن القوانين السارية في بلداننا الإسلامية اليوم أعجز من أن تتصدى لانتشار هذه الظاهرة الموروثة، فالمعروف أن في القانون الجنائي المغربي وتحديدا في المادة رقم 489 نص على: (أن كل مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقب عليها بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات) وان هذه الجمعيات الثلاث والجمعيات الأخرى تطالب بحذف هذه المادة وقد نظمت عدة استفتاءات حصل بعضها على دعم دولي.
وأنا لا أدين المغاربة بموضوعي هذا، فأنا أجدهم أكثر جرأة وشجاعة من كثير من العرب، ولاسيما الدول العربية ذات المنهج الإسلامي المتشدد، كما هي دول الخليج؛ التي وصلت فيها أعداد المثليين والشاذين إلى أرقام خيالية، ولكنهم لا يملكون الجرأة والشجاعة ليعلنوا عن أنفسهم حفاظا على سمعة نظمهم الدينية لكي لا تهتز صورتها أمام الشعوب الإسلامية الفقيرة؛ التي اشتروا ولاءها بأموالهم! وإلا يكفيك أن تذهب إلى www.google.com/trends)) وستجد أعدادا هائلة من أبناء دول الخليج فضلا عن دول إسلامية أخرى، يستخدمون الكلمات الخاصة بالشذوذ وحده للبحث عما يرغبون بمشاهدته، حيث تبين من خلال متابعتي وبحثي أن السعودية ومصر والإمارات والفلبين وتركيا وباكستان من أكثر دول العالم استخداما لكلمات محددة تدل على بعض أنواع الشذوذ، وهي: DONKEY SEX)) و ((GAY SEX و (ASS SEX)
ومن المؤكد أن هذا التبدل في الموقف العربي الإسلامي من الشذوذ، وتقبله، ووجود من يدافع عنه وعن مريديه ليس وليد الساعة، فهناك في تاريخنا الكثير من الشواهد على رسوخ هذه العادة في عقول كثير من الخلفاء المسلمين وقادتهم والمترفين من أتباعهم، هي التي أعطت انطباعا للآخرين من أبناء الأمة عن التسامح مع الشذوذ أو السماح به عرفا وشرعا، بعد أن روج له الشعراء الماجنون، مثل قول ابن أبي البغل:
وإلا فالصغار ألذ طعماً .. وأحلى إن أردت بهم فعالاً
وحتى قبل ابن أبي البغل كان سلوك الشذوذ قد بنى قاعدة متينة في مجتمع المسلمين منذ أن أسهمت الفتوح (الإسلامية) في إدخال ألوف الغلمان اليافعين الجذابين من أبناء البلدان ذات البشرة البيضاء، المفتوحة قسرا إلى دولة الإسلام في زمن الأمويين، الذين اشتهر بعض خلفائهم بالشذوذ، مثل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي قال عنه الذهبي: “لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط”(28) وقال عنه السيوطي: “وكان فاسقا، شريبا للخمر، منتهكا حرمات الله، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة”(29) وقد وصل الانحطاط بهذا الخليفة أنه راود أخاه سليمان عن نفسه، قال السيوطي: “ولما قتل، وقطع رأسه، وجيء به يزيد الناقص، نصبه على رمح، فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد، فقال: بعدا له، أشهد أنه كان شروبا للخمر، ما جنا، فاسقا، ولقد راودني عن نفسي”(30)
أما في زمن الخلفاء العباسيين، فقد وصل الشذوذ إلى مستواه الأعلى وتحول إلى ظاهرة، فالعباسيين وإن كانوا في أول دولتهم يظهرون الالتزام حيث كان السفاح يجلس للشرب وبينه وبين ندمائه مسافة عشرة أمتار(31) إلا أن المهدي سرعان ما غير، وجلس معهم، وتلا الهادي فكان يتناول الخمر في مجلس ندمائه ويلعب معهم(32) وبعدها تصاعدت حمى الشذوذ بين الخلفاء لدرجة أن الخليفة الأمين “طلب الخصيان، وابتاعهم، وغالى بهم، وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره… ورفض النساء الحرائر والإماء”(33) وقال السيوطي: “لما ملك الأمين ابتاع الخصيان، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته ورفض النساء والجواري.. ووجه إلى البلدان في طلب الملهين”(34) أما المعتصم فكان له غلام يقال له عجيب لم ير الناس مثله، وكان شغوفا به”(35) والواثق، كان يحب غلاما خادما، أهدي له من مصر”(36) والمتوكل كان منهمكا في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سرية، ووطئ الجميع، وامتلك عشيقاً اسمه شاهك(37). وهكذا كان باقي الخلفاء، ومثلهم ذوي السلطة والجاه من الأعاجم الذين تسلطوا على مقادير الأمة باسم الدين من ترك وفرس وغيرهم. وهذا يعني أن جميع هؤلاء بما فيهم (أمراء المؤمنين) العرب والأعاجم؛ الذين حكموا العالم الإسلامي، كانوا شواذا بامتياز، ولذا لا غرابة أن تتفشى ظاهرة الشذوذ في المجتمع بشكل ظاهرة عريضة. بمعنى أن الحكومات التي قادت العالم الإسلامي باسم الدين لعبت دورا كبيرا في إفساد المجتمع المسلم، وهم يتحملون الوزر الأكبر، فالناس طوع ما يتعلمون، وهذا ما أكدته نظريات التعلم الحديثة التي اعتبرت التعلم بالنمذجة أحد أهم طرائق التعلي
الهوامش
(1) سفر اللاويين،20:13 .
(2) المصدر نفسه: 18.
(3) الكتاب المقدس.
(4) الأعراف: 80ـ 81.
(5) الشعراء: 65ـ66.
(6) الأنبياء:74.
(7) الأعراف:157.
(8) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج9/ص197.
(9) النمل:54ـ55.
(10) الأعراف:33.
(11) الحجر:74.
(12) الأعراف: 84.
(13) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة الأعراف.
(14) النووي، المجموع شرح المهذب.
(15) رواه الترمذي (1456) وأبو داود (4462) وابن ماجه (2561).
(16) الألباني، صحيح الجامع الصغير وزياداته، برقم 5891.
(17) المصدر نفسه.
(18) أحمد بن حنبل، المسند، (2915).
(19) ينظر: شرح زاد المستقنع، الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي.
(20) المقدمة في الأصول، باب القول في الحدود هل تؤخذ من جهة القياس.
(21) محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، نيل الأوطار.
(22) محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد
(23) تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي.
(24) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.
(25) عمرو بن بحر بن محبوب، الحيوان.
(26) رواه الترمذي وابن ماجة.
(27) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد ابن فضلان، رحلة ابن فضلان.
(28) محمد بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن عثمان الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، وجلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء للسيوطي
(29) السيوطي، المصدر نفسه.
(30) المصدر نفسه.
(31) المصدر نفسه.
(32) المصدر نفسه.
(33) الطبري، تاريخ الأمم والملوك.
(34) السيوطي، تاريخ الخلفاء.
035) المصدر نفسه
(36) المصدر نفسه.
(37) المصدر نفسه.