فيينا / الأثنين 29. 04 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
د. نضير الخزرجي*
كلما آب المرء إلى فراشه ليضع خده على الوسادة تاركاً لذهنه السباحة في فضاءات ساعاته الماضية تراءت أمام عينيه الذابلتين ما مرَّ عليه من حوادث ومشاهدات، صغيرها وكبيرها، صالحها وطالحها، ولا يخلو إنسان عظيم الشأن أو غيره من حادثة يومية يستعيد مجرياتها في وهدأة الليل، حيث لا حاجز بين المرء ونفسه، يستعيدها ويستذكرها، فالكثير يمر منها مرور الكرام، والقليل من يعتبر ويستعبر بها لقادم الأيام.
وبمجموع الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس تتجمع في كنانة المرء الكثير من سهام الحوادث، يستخدمها قليلنا في وأد كبش الفتن وحوالك الأيام، وكثيرنا يبقيها صدأة يأكل آلتها الزمان دون عبرة او اعتبار، وما أكثر الحوادث والوقائع التي تمر على المرء مر السحاب.
وكما تتجمع قطرات الماء في منقعر الإناء، تتجمع وقائع الأيام في تجويف ذاكرة الإنسان، تأكل خشبتها النملة البيضاء (الإرضة) فتصبح الواقعة أثراً بعد عين، أو تنسج حريرها دودة القز فتصبح الواقعة شاخصة في ضمير المرء.
وبمرور الزمن تلبس الواقعة أو الحدث لبوس الحكاية المحكية إذا حررها لفظاً أو كتباً، ونفخها بصور الإعلان، أو تلبس لبوس الحكاية المخفية إذا أماتها في مهدها وأوكأها أريكة النسيان، وما بين الإعلان والنسيان تدور دائرة المرء إن غلَّ كف الإعتبار أو بسط شارة البنان.
والقصة المحكية أو الحكاية المروية، إنما هي نسيج حدث أو واقعة، لشخص أو مجموعة أشخاص، يحكمها الزمن والمكان، ولهذا جاء وصف القرآن لما جرى للنبي موسى عليها السلام من حوادث ووقائع في مصر قبل هجرته إلى مدين ولقائه بالنبي شعيب عليه السلام وزواجه من احدى ابنتيه، بأنها قصص، قال تعالى في ذيل الآية 25 من سورة القصص بعد سرد الحوادث: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، بل وأفرد القرآن الكريم على مجموع ما جرى للأنبياء من حوادث سورة أسماها “القصص”، وقال تعالى في مقتبل سورة يوسف في الآية 3 منها: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ).
وعندما يتكشَّف الحدث أو أريد له أن يظهر إلى سطح الإشهار ليعلم به قوم أو عموم الناس لغرض ما، يأخذ الحدث طابع القصة المنبأ عنها، وبتعبير الآية مئة من سورة هود بعد بيان مجموعة حوادث وقصص: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)، أو الآية 99 من سورة طه: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)، أو الآية 44 من سورة آل عمران في بيان قصة وحكاية السيدة مريم العذراء ووليدها عيسى وكافلها النبي زكريا عليهم السلام: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)، وغيرها من الآيات التي تعطي للحادثة طابع النبأ.
ولطالما أريد من القصة أو الحكاية أو النبأ خلاصة الإعتبار، قال تعالى في ذيل الآية 176 من سورة الأعراف بعد بيان عدد من الحوادث: (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أو قوله تعالى في الآية 49 من سورة هود: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
من كل قطر حكاية
“حكايات من واقع الحياة” هو أحد النتاجات الأدبية المعرفية القصصية التي صدرت في بيروت هذا العام (2024م) عن بيت العلم للنابهين في 376 صفحة من القطع الوزيري، دبّج متون حكاياتها المائة المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي المقيم في العاصمة البريطانية لندن، وقدَّم له الأديب العراقي الشاعر عبد الحسين خلف الدعمي.
ولأن مدينة كربلاء المقدسة بالعراق هي مسقط رأس صاحب الحكايات المولود بها عام 1947م، فإن عدداً كبيراً من الحكايات المائة وقعت جزئيات حوادثها على مسرح المدينة التي تضم جثمان سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليهما السلام، وهي الفترة التي عاش فيها خصب شبابه قبل أن يغادرها مرغماً عام 1971م ثم ليعود اليها زائراً بعد عام 2003م، من هنا فإن الحكايات الكربلائية في واقعها تعكس بشكل كبير الجانب الإجتماعي التي كانت عليه المدينة المقدسة، حيث يمكن من خلال نافذة الحكاية التي يسردها الكرباسي النظر إلى عمق الواقع المجتمعي والخروج بنتائج ومعارف مفيدة في عالم الإجتماع، فضلاً عن المدن الأخرى التي فيها دار ناعور الحوادث والحكايا مثل إيران والشام والمملكة المتحدة ومصر وباكستان وغيرها.
ولأن صاحب الحكايات علم عيلم في حقول المعارف النقلية والعقلية وصاحب موسوعات معرفية عدة ومؤسسات ومشاريع متنوعة ناء بثقلها خلال عقوده الثمانين، فمن الطبيعي أن تكون عيبة ذاكرته وأيامه مليئة بالحوادث والحكايات والقصص وأنباء الزمان والمكان وما عليه حال الأنام الذين احتك بهم أو سمع منهم أو سمع عنهم، فجاءت سلسلة الحكايات المائة، وبتعبير الأديب اللبناني الشاعر عبد الحسن راشد دهيني الذي حرر مقدمة الناشر: (ما يزيد من جمالية هذه الحكايات ومنفعتها أنها مروية من علم من أعلام الفكر والدين والأدب سماحة آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي دام ظله، وكانت حياته مليئة بالمواقف المحزنة والمؤثرة، والمهاجر قسراً من العراق إلى إيران، والمتنقل بين بلدان عدة، والمؤسس لمؤسسات دينية وعلمية وفكرية عدة، وهذه الحكايات قد عايش معظمها أو كان أحد شخصوها، أو من الفاعلين والمؤثرين فيها درساً ووعظاً ونصيحة وحلولاً، كما أنَّها محكية بأسلوب سلس ومبسَّط).
قصة وسيرة
ما يميز الحاكي عن الحكواتي بشكل عام، أن الأول يروي مشاهداته الذاتية وتجاربه الشخصية من خلال تعامله مع الآخرين في السلب والإيجاب، أو السماع منهم أو عنهم من مصادر موثوقة دون انتظار أجر أو مكرمة، فيكون نقله للحكاية نقل دراية ورعاية دون زوائد من عالم الخيال، في حين أن الحكواتي يبتني دوره بشكل عام على نقل الرواية والقصة والحكاية بأسلوب سردي جميل بأجر أو انتظار مكرمة، أي نقل رواية يجمع في غالبه بين الحقيقة والخيال لتشويق المستمع أو القارئ وتحبيب شخوص الحكاية إلى قلب المتلقي أو بالعكس.
بيد أن الأمر يختلف في حكايات الكرباسي، فليس للخيال مكان ولا للتزويق مجال، فليس القصد من ذلك إخصاب مخيلة المتلقي بقدر تسليته بما ينفعه وبخاصة الذين يعملون في حقل العلم والإجتماع وعلى التصاق مباشر بالمجتمع وبتعبير المؤلف: (إنني على مدى حياتي المليئة بالمِحن والحوادث منذ الصغر إلى حد الكبر لديّ عدد من الحكايات الواقعية ربما تجاوزت الألف، وقد وجدت في بعضها شيئاً من الفائدة مما دفعني إلى توثيقها وتحبيرها في كتاب، لعلنا نكون بذلك قد قدَّمنا بعض الحِكَم والأخبار في صيغة ترفيهية لطالب العلم والمعرفة ليقرأها في أوقات فراغه وينشط ليعود إلى خندق طلب العلم، أو يتخذها منهجاً في حياته العملية، كما هو الحال في استراحة المحارب، هذا واخترنا منها مائة حكاية وقصَّة)، وأضاف في بيان الغرض من تحبير حكاياته كما جاء في خاتمة المطاف: (أقيد الذكريات بالكتابة لعلها تكون مفيدة لمن يريد التسلِّي في أوقات الضجر الذي ينتاب كل إنسان في زحمة العمل اليومي المتسلسل ساعة تلو ساعة، وربما يجد من خلالها حكمة أو تجربة أو يتفكر بها وتظهر على وجناته البسمة فتبعده عن متاعب العمل وشقائه وصراعات المجتمع ومشاكله طبقاً لقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلَّم: إنَّ أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم).
ولأن الكرباسي في حكاياته المائة أردف كل حكاية بعبرة وفائدة وقصة مشابهة أو مغايرة، فإن كل حكاية تقابلها حكاية أو أكثر، أي حكاية في بطن حكاية من سنخها أو على منوالها، والكثير من الحكايات المرادفة والمشابهة هي الأخرى من تجاربه الذاتية أو من مسموعاته المباشرة.
من هنا فإن حكايات الكرباسي وما داخلتها من حكايات وقصص وتعقيبات وتوجيهات ونصائح، هي في واقعها تمثل صورة أخرى من صور السير الذاتية يحكي المؤلف أيامه ومشاهداته وتجاربه ومناظراته بأسلوب سردي لصيق بلغة المجتمع، وحسب انطباعات المقدِّم الدعمي: (فكتاب المؤلف هو توثيقي تحليلي تربوي توعوي، فالحكايات التي رواها لم يروها له أحد، وإنما هي من بنات أفكاره، وتشكل بعض سيرته الذاتية التي رواها لنا بأسلوب شيق رشيق حيث القصة “الحكاية” مدعومة بالصور لشخصيات وشواخص كانت قائمة إلى وقت قريب، وأمثال ذلك الكثير مما سجلته الذاكرة الإجتماعية)، مؤكداً أنَّ: (حكايات من واقع الحياة ما هي إلا وثائق تاريخية مستلة من أدب البيئة تمكن القاص من وضع اليد عليها ومعالجتها لتدخل عالم الأدب المقروء).
رؤية متنورة
لاشك إن استحضار الحاكي لمشاهداته وقصصه من مخزون الذاكرة اللامرئية إلى قرطاس الذاكرة المرئية المقروءة، أمرٌ جميل لا هو بالسهل المستهل ولا هو بالصعب المستصعب، إنما أمرٌ بين أمرين، فهو من السرد الذي ينزل على قلب المرء منزل الماء القرور في يوم حرور، وزاد الكرباسي في حكاياته كما أرى ويرى الأديب الدعمي في مقدمته أنه: (ذهب إلى منهج جديد تبناه، اعتمد فيه العرض = السرد، والتعقيب = الرد بقوله “الشيء بالشيء يُذكر”، والهامش = المعلومة المعرفية، قد اشتغل في 100 عنوان مختلف بعضها عن الآخر فإن لم تجد ضالتك في سرد الحكاية تجدها في التعقيب، وإن لم تجد في كليهما يتقدم الهامش عليهما ليزودك بمعلومة معرفية كنت تجهلها سابقا)، إضافة إلى ذلك فإن المؤلف حرص على إلحاق كل قصة بصور شخصية لمن ورد اسمه، أو صورة لمكان الحدث أو المدينة وما شابه ذلك، أي توثيق أدبي معرفي بالسرد والصورة فضلاً عن توثيق السيرة الذاتية لشخوص الحكاية، وبتعبير الأديب الدعمي: (فالكتاب مليءٌ بالمعلومات فهو سياحة فكرية وأدبية ودينية وجغرافية، وقد قسَّم حكاياته جغرافياً حيث أيام كربلاء/ أيام لبنان/أيام لندن/أيام النجف/أيام إيران، وهلم جرّا، وهكذا يستمر بشرح طبيعة الأماكن ووصفها وكأنك تراها على خارطة أو من خلال شريط سينمي، ثم يتجاوز ذلك إلى الشخوص والشواخص فلا يدع شاردة أو واردة تحتاج إلى تعريف إلا وضمَّنها في الهامش لكي يروي ظمأ من يروم المعرفة عن كثب وتيسير).
ولقد جاءت عناوين الحكايا على النحو التالي: الشرع والتقاليد، وليد ذي الجناح، المتاولة والذَّنَب، السُنّة والذَّنَب، الوسواس المحرّم، عند الحاجة تنسى الخلّة، الشُكر على النصيحة، الفقير بالرائحة يشبع، الصداقة المتينة، يعمل بتكليفه، التجسس عبر المجانين، الغنى عبر التسوّل، الشراكة التسوّلية، عودة وچمالة، راح للشام وتعدّل، حسين شمر، ذبالة أو زبالة، الهياكل الأسطورية، ما صار صار، المخ واستخدامه، الجنون يكشف الحقيقة، چثير الحُب، حق النظر، تشكو زوجها، نكاح الكلبين، الصورة مقلوبة، بيئة الظهور والضمور، المستعرب، التخلص من العزوبية، مناجاة العازبين، عذر تارك الصلاة، اليد المبروكة، أمير ولو لِلَحْظَة، الكلام مؤثر، كدٌّ من نوع آخر، من فوائد النمل، أنتم سادة من النطفة، فن كسب الزبائن، الشهرة من لا شيء، وا نفساه، شطارة التجار، مساومة التجّار، تشيّعت مرّتين، تعريف القومية، الإسم المركّب ليس بعربي!، الزعل الغريب، الطلاق المثالي، الأب الذي لا يُقبّل أولاده، الإبن الذي يلعن أباه، آثار عمارة المساجد، الأرض مُسطّحة، البول والسّماور، الصلاة على أرض طاهرة، عقد المتعة، شعوذة في قصر النهاية، النوم والمشي، البُخل القاتل، عُصبة الكلاب، من البخل الى الثروة، التشخيص العملي للغناء، العشق القديم، قصتي مع المكفوف، الشاي الخفيف والثقيل، الرؤيا تسلية، إلعنوه قبل ما يتوب، الحر والاستصحاب، بين التفسير والرجال، العلم ليس غاية، عملية جراحية، التأليف الزائف، عندما يُقرع القنصل، وعاظ السلاطين، الحسد في طلب العلم، الحسد يغيظ صاحبه، نِعْمَ المذهب، السُّكر هروب وليس علاجاً، الأيرلنديون، هدية التسوُّق، الجنس خير شفيع، إسلام شرطي، إسلام مسيحية، حرب اسرائيل تعيق الزواج، أُمّي والتدخين، القطة المرافِقة، المالُ معرَّض للتلف، عذاب الدنيا، الغناء وتوقف السيارة، الخمّار والصفعة، كلُّ شيءٍ للعلم آفة، محو العار بالقتل، من مظاهر العار، المرجعية والإلحاد، من مفارقات الحياة، إذنُ الخروج بالجملة، شهادة تارك التحصيل، الغُربة تجمع، النصيحة الأبوية، المكفوف والرؤية، تشريب لحم الحمار، وتدليس قصّاب.
وأخال أن كل حكاية فيها رؤية متنورة تصلح لأن توثق في عمل فني جميل، فكل حكاية أدب حي تنتظر أنامل السيناريست.
الرأي الآخر للدراسات- لندن
*كاتب وباحث عراقي مقيم في لندن