الرئيسية / اصدارات جديدة / فصل من روايتي القادمة ( الزمن الصعب)/ عمار في ورطة

فصل من روايتي القادمة ( الزمن الصعب)/ عمار في ورطة

فيينا / الجمعة 26. 07 . 2024

وكالة السيمر الاخبارية

كفاح الزهاوي

كانت الأزقة الضيقة، والمتعرجة في ضواحي العاصمة الصاخبة، تفتقر إلى مجاري الصرف الصحي، ومنظمة لتصريف المياه. ما إن هطلت الأمطار الغزيرة، والمتواصلة في منطقتنا، حتى أصبحت الشوارع الفرعية المزدحمة مستنقعات موحلة؛ جعلت من السير على الأقدام أمرًا مستحيلًا، وتعذر المرور فيها، ولكن الأمر كان مختلفًا تمامًا مع أستاذ فاضل مدرس الجغرافيا، عندما كنت أدرس في المرحلة الثالثة المتوسطة.

    كان أستاذ فاضل رجلًا نحيلًا كعصا الخيزران، يمشي بخطوات ثقيلة. شعره الأسود الكثيف كان دائمًا مصفف بعناية، ويبرق في الضوء. ملامح وجهه القاسية، برز في وسطه أنف طويل، وعينان سوداوان تنظران بحدة إلى ما حوله. كان يتحدث بصوت خافت، وواثق، ولا يحب الجدال، والنقاش مع طلابه.

   كان هذا المشهد من أغرب ما رأيت في حياتي، عندما دخل الدرس بأناقة تامة دون أن تتسخ ملابسه، حتى حذاؤه كان نظيفًا للغاية، مع أن شارعهم كان غارقّا بالماء والطين. انتابنا دَهشُ من هول ما رأينا، ورحنا نتساءل: فيمَا لو جاء إلى المدرسة محلقًا. فهو لم يملك أجنحة، ومنزله يقع في نهاية الزقاق.

  وبطبيعة الحال، لم تكن هذه العملية سهلة؛ لأن البحيرة كانت ساكنة، واستغرق اختراقها وقتًا طويلاً، وهو لم يكن رياضيًا، بل نحيفًا نوعًا ما، ورقبته بارزة مثل الديك الرومي، ووجهه مملوءًا بالتجاعيد، والأخاديد، حتى بدا للناظر أكبر سنًا بكثير من جيله.

    كان أستاذ فاضل في منتصف الثلاثينيات من عمره، عَزبُ. وصفه الطلاب ب«التلميذ المُوَاظِب»؛ لأنه كان يعتمد فقط على ما يجده في الكتاب المدرسي، ويحفظ المادة كاملة، ولا يبتكر، أو يختصر شيئًا؛ فمفرداته كانت محدودة؛ بسبب افتقاره إلى ثقافة عامة، وذوق قراءة الكتب الأدبية. لم يكن بميسور أستاذ فاضل تبسيط المادة بأسلوب جذاب، وعبارات متناغمة تحفز الطلاب، وتدخلهم في أجواء الدرس. كان يغفل عن التطوير الذاتي والإبداع، في جعل درس الجغرافيا درسًا مفيدًا وممتعًا، وليس موضوعًا جافًا، ورتيبًا ينفر الطلاب منه.

    ونظرًا لعدم وجود مدارس كافية لاستيعاب تدفق الطلاب، قررت الوزارة تنظيم نظام يساعد في حل الأزمة: تضمن هذا النظام، تقسيم ساعات العمل الدراسي إلى مرحلتين. مرحلة صباحية: تبدأ من الثامنة إلى الثانية عشرة، ومرحلة بعد الظهر: تبدأ من الثانية عشرة إلى السادسة عشرة.

    تبادلت المجموعتان الدَّوام الصباحي، وبعد الظهر خلال الأسبوع. كان الدَّوام بعد الظهر مملًا للجميع، بما في ذلك المدرسين، ولا سيما في الساعات المتأخرة.

    كان عمار طالبًا مشاكسًا في شعبتنا، ويميل إلى استفزاز الآخرين بطرائق خبيثة. في أحد الأيام، وبالتحديد يوم الخميس بعد الظهر، صادف فصل الجغرافيا أن يكون الدرس الأخير في ذلك اليوم، وبدا على ملامح استاذ فاضل التعب والإرهاق بعد عمل طويل في الصفوف الأخرى.

    بعد القيام والقعود، التقط استاذ فاضل التباشير، وكتب بخط عريض على السَّبُّورَة “المناخ وتأثيرات غابات الأمازون”. خلال شروعه في تقديم المادة، نشأ عمار يتصرف بطريقة مقرفة، ومثيرة للاشمئزاز. أخذ يفتح كتاب الجغرافيا، ويبحث فيه، ويدقق في كل كلمة وحرف، ويقارن كلمات الكتاب بالكلمات التي تخرج من فم الأستاذ فاضل.

    بمجرد أن انتهى من شرحه، ضحك عمار، وقال له بكل وقاحة:

    ـ أستاذ، لم أجد خطأً واحدًا في درس اليوم، حتى في حروف الجر، قلت علّك تخطأ في كلمة “في” وتقرأها على أنها “على”، لكنك لم تفعل.

    فأجاب أستاذ فاضل والغضب على محياه:

    ـ كيف تريدني أن أشرح الدرس؟ هل أختلق الكلمات من نفسي مثلًا؟ هل تريد مني أن أغير من جغرافية العالم؟

    قال عمار بخبث:

   ـ قلت: بدلًا من تحضير المادة في البيت، نستطيع قراءته في الصف من الكتاب.

    قال أستاذ فاضل:

    ـ دعنا نرى في الدرس التالي، إلى أي مدى يمكنك شرح الموضوع بطريقتك الخاصة يا عبقري؟

    بعد أن حصلت على فرصة لتقديم مادة الدرس، وجدت نفسي أمام جميع الطلاب. شرحت المادة بنفس طريقة الأستاذ فاضل؛ لأنني كنت مقتدرًا أن ألقى المحاضرة عن ظهر قلب. أثنى الأستاذ فاضل عليَّ بسخاء أمام الصفّ كلّه، ربما نكاية بعمار.

    قال عمار ساخرًا:

    ـ خوش استنساخ.

  بعد انتهاء الدرس خرج استاذ فاضل، وعلامات التشنج كانت واضحةً على ملامحه، في حين عمار تملكه شعور الزهو، ولم تغادر تلك الابتسامة المتهكمة من على شفتيه العريضتين.

    قلت له:

    ـ عمار، كيف تتكلم مع مدرسك بهذه الطريقة؟

    قال وهو يرفع يده، ويمدها نحوي:

    ـ دروح أنت هَمْ دراخ مثله.

    وفي الدرس القادم، دخل استاذ فاضل إلى الفصل، وكان مزاجه متعكرًا، ووجهه جامدًا، وخاليًا من أي تعبير لطيف، مع أنّه كان أنيقًا كالعادة ببدلته الرصاصية، وقميصه الأزرق، وحذائه الأسود، وربطة عنقه المخططة بخطوط بيضاء. بعد أن كتب عنوان الدرسِ على السَّبُّورَةِ، طلب استاذ فاضل من عمار أن ينهض من مكانه ويتقدم إلى السبورة، ويشرح درس اليوم، ولكن عمار لم يكن مستعدًا للدرس، أو ربما لم يكن يتوقع ذلك أن يكون فريسةً شهية للأستاذ فاضل.

    قال:

    ـ أستاذ، أنا لم أستعد لدرس اليوم.

    غضب الأستاذ فاضل وقد تغضن وجهه وقال:

    ـ هل إمكاناتك الهابطة تقتصر فقط على الاستهانة بمدرسك يا فاشل؟

    وبعد ان نطق استاذ فاضل كلمة فاشل بنبرة مملوءة بالحقد، دفع بكلتا اليدين عمار معبرًا عن غضبه، إلى زاوية الغرفة القريبة من الباب الذي كان موصدًا، وصرخ به صرخة طويلة مزلزلة، بثَّ في نفسه الرعب، أخذ يوجه إليه اللكمات، والركلات، والشرر يقدح من عينيه، وشرارة الحَنَق تتطاير كانشطار شظايا الصاروخ، تصب على عمار كصعقات الرعد.

    بينما كان عمار يخفي رأسه بين ذراعيه، صرخ بأعلى ما في جوفه من صوت، مخترقًا  حناجر الحاضرين؛ بسبب الألم الذي أحاط بجسده. لم يتوقف أستاذ فاضل عن ضربه؛ فاختل توازن عمار عندما ارتطم رأسه بالحائط، وخرَّ على الأرض. كنت أنظر إلى استاذ فاضل، وكأنه في مبارزة فعلية، ولم يندم على فعلته قيد شعرة، بل قال مؤشرًا بسبابته:

    ـ روح وين مَتريد تشتكي، روح اشتكي. هاي گدامك وزارة التربية، انعل ابو اللي يفزعلك.

    ثم صرخ به:

    ـ روح انجطل في مكانك يا حيوان.

    نهض عمار، وقصد مقعده الذي كان خلف مقعدي. ظل صامتًا حتى انتهى الدرس. الغريب في الأمر أن أستاذ فاضل لم يترك على وجه وجسد عمار أي أثر لكدمات أو جروح، على الرغم من كل هذا الضرب المبرح؛ فالشيء الوحيد الذي كان بارزًا هو: إن وجهه فقط كان شاحبًا ومتوترًا، وهذا ليس من قوة اللكمات؛ وإنما من الفزع، والذعر.

    قلت له بعد انتهاء الدرس ساخرًا:

    ـ أعتقد أن أستاذ فاضل كان يتمرن بشكل جيد خلال أيام الأسبوع، في اختيار اللكمات بعبقرية؛ لأنه كان بارعًا جدًا في توجيه الضربات إليك بطريقة محترفة، بحيث لم يترك وراءه أي دليل، لإدانته، لا زرقة، ولا تورم.

    إذا قارنا هذا الضرب القاسي، على الرغْم من إفراطه، وهو أمر غير مقبول من مربي فاضل؛ لأنه أسلوب وحشي وغير إنساني، إلا أن درجة عنفه لا تضاهي قساوة الأجهزة الأمنية البعثية، وخاصةً في دهاليز قصر النهاية التي هُدِّمَت بعد قيام الجبهة الوطنية في بدايات السبعينيات، وسُميت البناية باسم قصر النهاية؛ بسبب بشاعة التعذيب الجسدي فيه حتى الموت. كان القصر تحت إشراف مجرم العصر ناظم كزار الذي قتله صدام شخصيًا – يقال – “إن صدام القى به في حوض مملوءًا بالتيزاب، حتى ذاب عن بكرة أبيه، بعد محاولة انقلابية فاشلة قادها ناظم كزار”. اقتيد الشيوعيين من قبل أزلام النظام، إلى غياهب هذه الأقبية المظلمة.

    انتاب عمار شعور النفور، والاحتقار من الأستاذ فاضل، بعد أن ضربه بطريقة قاسية أمام زملائه، وفي نفس الوقت، كان أستاذ فاضل يتجاهله، ويتجنب النظر إليه، وكأنما لم يحدث شيء.

    ساور عمار الشكوك حول سلوك أستاذ فاضل تجاهه الذي اعتقد أنه كمين نصبه له، لذلك احتاط عمار الحذر كي لا يفاجئه في غفلة منه ويسأله عن الدرس. كان عمار في أتمّ الاستعداد ـ اقدر اقول ـ إلى أقصى درجة، بحيث كان يبذل جهدًا إضافيًا في تحضير المادة، ويحفظ كل شيء بالحرف.

اترك تعليقاً