الرئيسية / ثقافة وادب / قراءة في قصيدة ” لون لا تعرفه الشمس”

قراءة في قصيدة ” لون لا تعرفه الشمس”

فيينا / السبت 10 . 05 . 2025

وكالة السيمر الاخبارية  

محمد علي محيي الدين

نشر الشاعر انمار مردان قصيدة في مجلة (التقارب الثقافي الجزائرية) بعنوان(لون لا تعرفه الشمس مطلقًا) وهذه القصيدة تحمل طابعًا حداثيًا واضحًا، مشبعًا بالصور المركّبة، والتراكيب المتفجرة بالعاطفة والدهشة، وتفيض بأسئلة وجودية، وإشارات رمزية، وعناصر سردية تخلق مزيجًا شعريًا بين الحلم والواقع.

  القصيدة تقوم على خطاب غزلي/ وجداني يوجهه الشاعر إلى أنثى تتجاوز حدود المألوف، امرأة تكاد تكون رمزًا كونيًا، أو ميتافيزيقيًا، فهي ليست مجرد امرأة، بل حالة شعرية متكاملة، بلغة تتعدى القاموس، وتشكل معنى خاصًا لا يبلغه سوى الشاعر.

هذه الأنثى لا توصف بجمالها الجسدي فقط، بل بقدرتها على تشكيل اللغة، وإعادة تركيب العالم من حول الشاعر. يتعامل معها كما يتعامل الصوفي مع المحبوبة: حضورها يخرق المعنى، وغيابها يعيد صياغة الأسئلة الوجودية.

  والقصيدة غنية بصور شعرية مبتكرة، نابعة من خيال خصب وجرأة في التشكيل: تصوير الأنثى كرمز يتجاوز المألوف، واستخدام الصور الغرائبية والتراكيب العاطفية المركبة. وكثافة الأسئلة والانفعالات.

    “لا شيء يغلق المعنى غير أنوثتكِ”: استعارة غريبة وجذابة، حيث تتحول الأنوثة إلى عنصر وجودي يغلق/يُتمّ “المعنى”، أي كأن المعنى ناقص بدونها.

    “نهر يعطش حين يراكِ”: قلب للمنطق، فبدلًا من أن يروي النهر، يعطش، وهو ما يُظهر شدة تأثير هذه الأنثى.

    “أخطبوط من المرايا الجاهزة للكسر”: صورة فنية تعبر عن هشاشة الصورة أو تشظي الذات في حضرة المحبوبة.

    “كيف زرعك شجرة تين وبثك شراعًا”: الجمع بين رموز الطبيعة والرحلة، مما يجعل منها كائنًا ممتدًا بين الأرض والبحر.

    “حين تأكلين قلبي بطريقة جديرة بالطعام”: صورة صادمة ومؤثرة، ترمز للفناء في الحب أو الاستسلام التام أمام المحبوبة.

    والقصيدة تنتمي إلى لغة الحداثة الشعرية، لكنها تتمسك أحيانًا ببعض الجزالة، مما يكسبها توازنًا بين الفصاحة والانسياب العاطفي. فقد تميزت بأسلوب التراكم العاطفي، حيث الجمل تنمو وتتتابع كأنها تنهال من داخل ذات الشاعر دون توقف.

وتواتر الأسئلة عنصر بنيوي مهم، يعيد إنتاج القلق الوجودي والوله العاطفي: “كيف خلقكِ الرب؟،  كيف لونتِ أيامي؟، كيف قرأتِ كل ألوان الطيف؟.

    ويعتمد التكرار لتعميق المعنى، “مرة أخرى” تُستخدم بشكل دقيق لإظهار التحول في وعي الشاعر، والاعتراف بندمه، وقراره بالإنصات من جديد.

   ورغم أن القصيدة لا تعتمد على الوزن أو القافية، فهي تنتمي إلى الشعر الحر، لكنها تعتمد على إيقاع داخلي مبني على التكرار والتماثل والتركيب الصوري.

    وبنائها السردي أكثر وضوحا ، والشاعر يبدأ من نقطة اندهاش، لينتقل إلى التساؤل، ثم إلى محاولة الاستيعاب، فالندم، فإعادة التعهد. ومن اهم نقاط القوة فيها، غنى الصورة الشعرية وفرادتها. والتوليد اللغوي والرمزي الذي يجعل من الأنثى كائنًا استثنائيًا، والبناء الانفعالي المتصاعد الذي يشد القارئ.

ومن الملاحظات التي يمكن الخوض فيها وهو رأي قد يبدو متحاملاً: هو كثافة الصور أحيانًا مما يفقد النص بعض التوازن، إذ تصبح القصيدة حمّالة دلالات كثيرة يصعب العثور عليها بسهولة، فيما تبدو بعض الصور غائمة أو مبهمة، خاصة حين تُحمّل بتراكيب لا تستند إلى معادل حسي أو رمزي واضح. اضافة لغياب التفاوت اللحني الذي يجعل القصيدة منسجمة شعريًا لكن مسطّحة إيقاعيًا، مما قد يحتاج إلى تنويع في الجمل وقوة المفصلات النصية.

ولو أجرينا مقارنة مع نص حديث للشاعر محمود درويش من قصيدة “كزهر اللوز أو أبعد” يقول درويش:    “أنتِ، مثل نبوءةٍ، تتأخّرُ كي أستعدَّ له…

كأنكِ حين تمرّين بي،

تمرّين في الماءِ، والماءُ مرٌّ،

كأنكِ لا تشتهين القصيدة،

كأن القصيدة تشتهيكِ…”

ووجه المقارنة بين النصين يظهر لنا أن الأنثى في كلا النصين تتحوّل إلى “نبوءة” أو “معنى أكبر من جسد”، فالقصيدة لا توصف هي، بل تشتهيها! وكلا الشاعرين يستخدم قلب العلاقات المنطقية: الماء يعطش، أو القصيدة تشتهي، ورغم أن لغة درويش أكثر ضبطًا وإيقاعًا، لكنها تحتفظ بنفس الفضاء الرمزي.

  ختاما لابد من القول أن القصيدة مثال حي على شعرية الحداثة العاطفية، التي تستند إلى الصور المركبة والأسئلة العميقة، واللغة التي تتجاوز معانيها الأولى إلى أفق رمزي وشعوري أبعد. وهي تعكس شاعرًا يمتلك خيالًا حرًا، وإحساسًا مرهفًا، وقدرة على التعبير بأسلوب فني متماسك رغم فيضان العاطفة.

القصيدة

لا شيءَ يغلقُ المعنى غير انوثتكِ

التي تفوحُ  نهرًا يعطشُ حين يراكِ ،

لغةٌ اخرى

وقواميسٌ مجلدةٌ ،

وسماءٌ ممطرةٌ  ،

ومستهلٌ يعبرُ كلَّ الغيومِ ولا يتحدث إلا بكِ .

اخطبوطٌ من المرايا الجاهزةِ للكسرِ

تترجلُ بعض الصورِ

أعني

الصورَ الخائفةِ،

تخافُ من ظلِكِ حين يجرُ الشارعَ بخطوتِكِ .

أنتِ لغةٌ غائبةٌ  لم تظهر إلى الآن

قد تبعثُ يوما ما

او تنطقُ بلهجةٍ جديدةٍ ،

أيتها العابرة كل الاشياءِ الثمينةِ

قولي لي

كيف خلقكِ الرب في وقتِها ؟

وكيف زرعكِ شجرةَ تينٍ

وبثك للأرضِ شراعًا طويلًا ،

يتبادرُ إلى رأسي سؤال عتيق

كيف وضعتِ حقيبتكِ على كتفكِ بهذه الاناقة ؟

وكيف لونتِ أيامي مثل لون شعركِ التمري ؟

وكيف جعلتِ من شاعرٍ يغارُ ويخافُ ويهربُ ويركضُ وينزعجُ بهذه السرعةِ الممكنةِ ؟

وكيف قرأتِ كل ألوان الطيف الشمسي بنظرةٍ واحدةٍ؟

وكيف كل هذا وأنا على قيد الحياة ؟ .

اسئلةٌ تسيلُ مثل سيفٍ

حين يحصدُ رقابًا

وأنا من يحصد رقبتي

حين تقفين امامي مبتسمة ؟ .

مرة أخرى اقول لكِ

كنتُ على خطأ

حين غرستِ عطرَكِ في الهواءِ

ولم أبتلعْهُ ،

مرةً أخرى سأصغي جيدًا لكل تفاصيلِكِ الكثيرة

وأكونُ حريصًا لتدوين ما يفوتني من زفيرِكِ

مرة أخرى سأكونُ أكثرَ وعيًا

لأنشغل عن الزوابعِ كلها

وأنتبهُ لفمِكِ حين تأكلين قلبي بطريقةٍ جديرةٍ بالطعام .

وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات

اترك تعليقاً