السيمر / الأحد 23 . 10 . 2016
د. عبد الحي زلوم / فلسطين
عندما وصل إلى بيروت عام 1855 كان المبشر الأمريكي دانييل بليس لا يزال شاباً في منتصف الثلاثينات من العمر، ومع ذلك نجح بليس وبسرعة في وضع يده على نقطة الضعف في العملية التبشيرية، التي حالت حتى ذلك الحين دون تحقيق نتائج تذكر على صعيد تحويل الأهالي مسلمين ومسيحيين شرقيين إلى المذهب البروتنستنتي وبعد مشاورات مع المبشرين من كبار السن استقر الرأي على الطلب من المجلس الأمريكي للمهمات الخارجية الذي يدير عملية التبشير عن بعد، السماح له بإقامة كلية في بيروت بهدف شحذ المشاعر القومية لدى الشبان العرب مسلمين ومسيحيين. حملت الكلية الجديدة التي اعتمدت العربية لغة التدريس فيها اسم الكلية البروتستنتية السورية. كان رأي بليس كما عرضه أمام المجلس الأمريكي يقوم على المنطق التالي: بما أن البعثات التبشيرية عاجزة عن نشر المذهب البروتستنتي في المنطقة فليس أقل من العمل على فرض العلمانية والقيم الأمريكية هناك. كان بليس يرى بأن العلمانية من خلال القومية كفيلة بإيقاظ العنصرية النائمة، بل وحتى التعصب القبلي بين الجماعات العرقية العديدة والمختلفة التي تعج بها الإمبراطورية العثمانية ، وبهذا يمكن تحقيق الهدف الثاني أي: تفكيك الإمبراطورية العثمانية. أصبحت الكلية البروتستنتية السورية التي غيرت اسمها عام 1920 إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، مهداً فعلياً للقومية العربية حيث كان معظم قادة هذه الحركة من خريجي هذه الجامعة في القرنيين التاسع عشر والعشرين. بعد النتائج الكبيرة التي تحققت كان قرار الجماعات البروتستنتية إنشاء الجامعة الأمريكية في القاهرة التي ستسير على خطى زميلتها في بيروت .. وبالرغم من ارتفاع ميزانية المؤسسات التبشيرية سبعة أضعاف على مدار عشر سنوات(1885-1895) وزيادة عدد المدارس التابعة للجماعات التبشيرية إلى 400 مدرسة يتربى فيها أكثر من20 ألف طالب على مبادئ العلمانية، فإن المد القومي المستهدف لم يحقق سوى تقدم بطئ خلال القرن التاسع عشر. وعن ذلك كتب مايكل أورين في كتابه المعنون : السلطة، العقيدة والخيال، يقول:
” بعد الرفض القاطع الذي أظهره العرب المسلمون للطروحات الدينية للجماعات التبشيرية، تعاملوا مع الأفكار القومية الجديدة بفتور.. فقد كان لديهم الأمة الإسلامية التي تمثلها الدولة العثمانية بالفعل ولم يكونوا بحاجة لجهة جديدة تلزمهم بالولاء.. وبدلاً من الانفصال عن الإمبراطورية ، وجد هؤلاء بأن من الأفضل لهم محاولة الحصول على حقوق إضافية ضمن الدولة وتحقيق الوحدة ليس من خلال فلسفة دخيلة بل بالعودة للإسلام” .
إن العامل القومي لم يكن المحرك الفعلي للثورة العربية، الأمر الذي يتطرق له أورين في كتابه المذكور بالقول:
“بينما نجح البريطانيون في إشعال فتيل الثورة العربية ضد تركيا وحشد العديد من القوميين لهذه القضية، فإن الثورة من الناحية الفعلية جاءت حصيلة الرغبة في إحياء الخلافة العربية المستقلة أكثر منها نتيجة لدوافع قومية ضد الأتراك المؤيدين للغرب.. كان قائد الثورة العربية الكبرى الشريف حسين على قناعة بأن الإسلام وحده القادر على توحيد العرب وليس تحت لواء ثقافي أو عنصري قومي”.
بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية أراد البريطانيون تنصيب الشريف حسين كملك علماني، إلا أنه كان يسعى لأن يكون خليفة عربياً، الأمر الذي أفقده العرش والأرض حيث تمت الإطاحة به ونفيه إلى قبرص.
في كتابه المعنون : سلام ينهي كل السلام، يوضح بروفيسور التاريخ في جامعة بوستن ديفيد فرومكين هذه المسألة، بالقول:
” لقد اخطأ الكثيرون أمثال: كيتشنر، وينغيت، كلايتون، وستورز الاعتقاد بأن الخليفة ليس سوى زعيم روحي. ففي الإسلام تخضع جوانب الحياة المختلفة بما فيها الحكم والسياسة، لأحكام الشريعة. وعليه فإن المسلمين السنة أمثال السلطان العثماني وشريف مكة، يعتقدون بأن الخليفة هو مزيج من: الأمير والحاكم والقائد العسكري، بالإضافة إلى كونه الإمام الذي يقود المسلمين في الصلاة “.
عبد الحميد الثاني
في الثمانينات من القرن الثامن عشر فاق حجم الصادرات الأمريكية للشرق الأوسط الواردات من تلك المنطقة بأكثر من 14 ضعفاً. كانت هناك قناعة أميركية في ذلك الوقت بأن من يتحكم بالشرق الأوسط يتحكم بالعالم أجمع. ولهذا بدأت الولايات المتحدة ببناء 16 سفينة حربية متطورة أصبحت تعرف بـ: الأسطول الأبيض العظيم. تم تخصيص الأسطول الجديد للخدمة في البحر الأبيض المتوسط ليصبح أول قوة بحرية أميركية عالمية مقاتلة، لتحمل لاحقاً اسم الأسطول السادس. تلك كانت أمريكا عندما أصبح السلطان عبد الحميد الثاني سلطان الدولة العثمانية وخليفة للمسلمين.
في 24 أبريل 1877، أي بعد توليه السلطنة بأشهر قليلة، أعلنت روسيا الحرب على السلطان عبد الحميد ولكن ليس قبل أن ضمنت حياد القوى الأوروبية. كانت النتيجة وطبقاً لمعاهدة سان ستيفانو فرض شروط قاسية على الإمبراطورية العثمانية أجبرتها على منح الاستقلال لكل من: رومانيا، صربيا، والجبل الأسود والحكم الذاتي لبلغاريا.
وكان الرؤساء الأمريكيون قد شرعوا ومنذ 1881 في ممارسة الضغوط على السلطان عبد الحميد للسماح بهجرة المزيد من اليهود إلى فلسطين. غير أن الشخصيات الدينية البروتستنتينية المتحمسة لعودة اليهود وصولاً لعودة المسيح، ومعهم السفراء الأمريكيون اليهود في المنطقة مثل أوسكار شتراوس، شقيق ناثان الثري الأمريكي اليهودي الذي أسس بلدة ناتانيا الإسرائيلية حالياً، وكذلك سولومون هيرش لم تنجح في النيل من عزيمة السلطان العثماني وتصميمه على عدم التفريط بالقدس وفلسطين . كان موقف السلطان عبد الحميد، كما أبلغه للوسطاء الأمريكيين، بأن فلسطين ليست ملكاً للسلطان بل هي ملك للمسلمين جميعاً، وبالتالي لا يملك السماح بإحداث أي تغيير في واقعها أو المساس بوحدتها.
كان السلطان عبد الحميد يقدم على عكس كل شيء يريده المبشرون منه، ويجسد كل ما هو مخيب للآمال بالنسبة لهؤلاء وللغرب وبخاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين . فقد رفض السلطان العرض المغري الذي تقدم به ثيودور هيرتزل لتسديد سائر ديون الإمبراطورية، مقابل صك يسمح لليهود باستيطان فلسطين. ومما جاء في رد السلطان عبد الحميد الثاني على عرض هيرتزل بهذا الشأن القول:
” أن أسمح بتقطيع أجزاء من جسدي بمشرط، لهو أقل إيلاما لي من رؤية فلسطين وهي تقتطع من دولة الخلافة وهو ما لن يحدث.. ليحتفظ اليهود بملايينهم وعندما تتمزق الخلافة يوماً ما سيكون باستطاعتهم الحصول على فلسطين بدون مقابل”.
بعد مسح غبار غسيل الدماغ وكذب التاريخ ومقارنة هذا الموقف المبدئي مع أدعياء الوطنية الفلسطينية والقومية العربية الذين تنازلوا عن 78% من فلسطين ليأتي أصنام أوسلو بعد ذلك ليعملوا حراساً لدولة الاحتلال بدون حياء مقابل كروت VIP بمباركة وتحفيز ديناصورات وبقايا أنظمة سايكس بيكو .
عرف السلطان عبد الحميد بالتزامه الديني وبورعه وتطبيقه تعاليم الدين في القصر، بما في ذلك حظر سائر الممارسات التي يحرمها الإسلام بما فيها شرب الخمور. ومن جانبه أنفق السلطان بسخاء على المؤسسات التعليمية العربية، وشكل وحدة حرس خاصة من العرب وعين الكثير منهم في مواقع رئيسية في الدولة بما فيها القصر، بل إن هناك من يؤكد بأن نفوذ الموظفين العرب فاق سلطة المسئولين الأتراك . ومن بين العرب الذين برزوا في خدمة السلطان وقتها عزت باشا العابد الذي خدم السلطان على مدار 13 عاماً حتى الإطاحة بعبد الحميد عام 1908. كان عزت باشا يعتبر أقوى المسئولين نفوذاً على مستوى الإمبراطورية.
عن هذا الموضوع يقول لورد كينروس في كتابه “القرون العثمانية”:”
“في أعين رعاياه، كان السلطان عبد الحميد هو من أعاد إرساء النظام الإسلامي التقليدي القوي المتحرر من التدخلات والنفوذ الأجنبي، نظام جدير بالفهم والاحترام باعتباره نابعاً من المفاهيم والتقاليد الإسلامية والمحلية. وجد الرعايا في خليفتهم السلطان عبد الحميد سمات جديرة بالاحترام كمسلم تقي ورع ومتقشف. وفي الوقت نفسه وجد الآخرون في السلطان ذلك الحاكم الجدير بالدعم والولاء ليس من قبل وزرائه والمحيطين به والمؤسسات الحاكمة مثل القوات المسلحة فحسب، بل ومن هيئة العلماء، ورجال الدين على كافة مستوياتهم. نجح عبد الحميد في جذب الاهتمام بعيداً عن الغرب باعتباره عالماً غريباً وبعيداً، ومصدراً للأفكار والآراء السياسية المضللة التي حاربها السلطان “.
اعترف القائمون على المعارضة مثل حركة الشبيبة التركية بأن أفكارهم الخاصة بإصلاح المؤسسات الإسلامية وتحديثها مستمدة من الغرب، على عكس عبد الحميد الذي اعتمد في إصلاحاته على القناعة بأن الحضارة العربية هي المصدر الفعلي للحضارة الأوروبية، التي اقتبست من الإسلام ليس نظامها الدستوري فحسب بل أخذت عن المسلمين العديد من العلوم والتكنولوجيا، مثل الجبر والكيمياء والفيزياء، وعدداً من الاختراعات مثل البوصلة والبارود، إضافة للآداب وكتابة التاريخ، بل وكل ما هو مفيد ومثير للإعجاب في الغرب. وعليه ما الشيء الذي احتاجه المسلمون من الأوروبيين وحاولوا بعدها تطويره؟ “.
شكل توحيد العالم الإسلامي تحت راية واحدة، حلم السلطان عبد الحميد الذي جهد في العمل على تحقيقه منذ اليوم الأول له في الحكم… وذلك من خلال توسيع اتصالاته مع الطوائف الإسلامية المختلفة داخل الدولة وخارجها. وكانت قد اتضحت أكثر ما يكون ومن البداية بتعيينه الشركسي الجنرال خير الدين في منصب الوزير الأعظم (رئيس الوزراء هذه الأيام) وذلك في خروج على التقليد المتبع وهو وضع شخصية تركية على رأس الحكومة. ولم يخف السلطان الأسباب التي دفعته لمثل هذا التصرف؛ إذ شرحها في الفرمان الخاص بتعيين رئيس الحكومة، والذي جاء فيه القول بأن… من حقه كخليفة الاستفادة من خبرات أكفأ العناصر المسلمة في أي مكان من أرض الإسلام. ما فعله السلطان كان إيصال رسالة واضحة للمسلمين في كل مكان من أن خليفتهم سيختار تعيين كبار المسئولين من الأعراق كافة بدون إعطاء الأفضلية للأتراك بالضرورة.
وهذا السفير البريطاني في اسطنبول يقول في رسالة له كتبها قبل سنة واحدة فقط من الإطاحة بالسلطان عبد الحميد بأن:
” سياسة عبد الحميد الإسلامية هي التي مكنت السلطان من طرح نفسه كخليفة وزعيم روحي أمام 300 مليون مسلم، … كانت النتيجة أن السلطان استحق، وبدرجة غير مسبوقة، نيل الطاعة العمياء من رعاياه واستمالتهم للقبول بنظامه السلطوي وبدرجة لم تسجل ربما على مدار التاريخ”.
اصبح واضحاً للغرب ان عبد الحميد مصممٌ على ارجاع الهوية الاسلامية العربية للدولة لتنتقل من ” الرجل المريض الى الدولة القوية ” فقاموا بحركتهم الاستباقية لعزله بقيادة ” شبكة يهودية ماسونية ” حسب تعبير السفير البريطاني في اسطنبول الى وزارته في لندن .
يتبع…
مستشار ومؤلف وباحث
رأي اليوم