السيمر / الأربعاء 18 . 01 . 2017
حسين أبو سعود
دقت الساعة الثانية عشرة معلنة انتصاف الليل في مطرح بسلطنة عمان وقد خلت الشوارع من المارة وخفت حركة السيارات، حتى الكلاب التي كانت تنبح فيما بينها اختفت من الطرقات وكنت اطل من الشرفة على البحر فوجدته هادئا غافيا وتجول ناظري في الشوارع المحيطة فرأيت بيوت اللواتيا ذات الطراز الفريد وجانب من سوق مطرح الشعبي والذي يقصده كل من يزور مسقط باعتباره من المعالم السياحية للمدينة.
الشرفة تطل مباشرة على سوق السمك والخضار، هذا السوق الذي يعج بالرواد اثناء النهار ويضج بالصخب تحول الى معلم صامت لا حراك فيه ، وبسبب حالة القلق جراء الارق الذي فاجئني صرت اجئ واذهب ما بين الغرفة والشرفة وفجأة وقع بصري على المرآة فرأيت فيها شخصا غير شخصي وجسما غير جسمي وتذكرت المرحوم علي الوري عالم الاجتماع العراقي المعروف وتذكرت كتابه الموسوم (من وحي الثمانين) وكنت قد قرأته قبل سنوات واردت ان اكتب عنه مقالا بسبب حالات التشابه الكثيرة بيني وبينه الا اني كنت اسوف في كتابة الموضوع واؤجلها لأني لم ابلغ الثمانين بعد وبيني وبينه زمن طويل ولكني في هذه الليلة شعرت بغربتي وكبر سني ووحدتي و وحشتي، فتذكرت الكتاب والكاتب وصرت استذكر ما قرأت واذا بقول الشاعر يحضرني
كل من تلقاه يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
لم اكن اعرف علي الوردي، ولم اقرأ له غير اني كنت اسمع عنه واقرأ بعض المقالات التي تتناول حياته وكتاباته فعلمت بانه كان من التبعية الإيرانية دون ان يعترف بذلك صراحة بل كان يقول بان الناس كانت تلجأ للسفارة الإيرانية هروبا من الخدمة العسكرية الإلزامية في العراق ، علما ان سكان العراق ينقسمون الى ثلاث تبعيات رئيسية وهي التبعية العثمانية والتبعية الإيرانية و التبعية الهندية حسب قانون الجنسية القديم، وقد عانى كل من سجل نفسه من التبعية الإيرانية الشيء الكثير في عهد صدام حسين حيث تم تسفير مئات الألوف منهم .
وفيما يخص الخوف من العدم، انا كنت اردد مع نفسي وللمقربين انه ما فائدة الإنجازات اذا كان مصير الانسان العدم واذكر بان احد الإعلاميين الكبار قال لي ذات مرة : انت تمتلك الكثير من الميزات والقدرات لكن عيبك الوحيد هو انك لا تستطيع ان تسوق نفسك إعلاميا، واذكر باني قلت له :لا بل عندي كل الإمكانات لتسويق نفسي ولكن ما الفائدة في النهاية والعمر بدأ يقترب من الستين، وكذلك كان يقول المرحوم الوردي: ما فائدة ان يظهر اسمك وان يشار اليك بالبنان وان الدود سيأكلك كما سيأكل من لا يشار اليه بالبنان) ص77 وهذا في رأيي اعلان مسبق منه بانه قد استنفذ غايته من الحياة وانه يعيش منتظرا الموت.
قلت اني لم اكن اقرأ للوردي الا ان ما كتبه في ص91 عن الحمار والحمير هو نفس ما كنت أقوله واكثر من باب توارد الخواطر ويتندر الوردي برواية طريفة في هذا الباب ويقول بان شخصا الح عليه أصحاب بيت كان في زيارتهم ان يتناول الطعام عندهم وبعد ان شبع اعادوا الكرة والحوا عليه مرة أخرى بتناول الطعام فاستجاب لهم خجلا وتكرر الحال مرة ومرتين حتى أصيب بالتخمة وعندما خرج الى باب الدار قدم لحماره علفا فأكله الحمار ثم الح عليه بتناول المزيد من العلف على نحو ما الح عليه أصحاب الدار فحرك الحمار رأسه يمينا ويسارا علامة رفضه تناول المزيد من العلف فقال الشخص لحماره : والله انك تفهم اكثر مني ثم يقول: هل سمعتم بحمار تمرض او مات من التخمةلا سيما اذا عرفنا ان المعدة بيت الداء .
وانا شخصيا لا أرى ان الحمار حمار لا يفهم بل هو ذكي ويتصنع بعض الأشياء حتى يتركه الناس ولا يتعبوه وهو الصابر القوي الخشن وكان استاذي يقول يا ليتني كنت حمارا من حمير اليمن اصعد الجبال بالأحمال وانزل واتناول العلف دون ان اتعرض لسؤال او جواب في الدنيا والاخرة.
ان الوردي كان يدعو الله بدعاء لا يقصده فعلا وهو: اللهم ارزقني ايمان العجائز وهذا دعاء يستحيل صدوره من الامام علي عليه السلام صاحب العقل الكبير والتمييز الصحيح، ولا أدرى لماذا يروج بعض رجال الدين لهذه المقولة العوجاء ولعل السبب بأنهم يريدون من البسطاء ان يتركوا التفكير ويكونوا تبعا لهم في كل شيء.
وفي شؤون القلب يقول علي الوردي بان الحبيبة التي كان ينتظرها جاءت ولكن متأخرة وهذا ما حدث معي بالضبط فصرت اتمثل معه بقول الشاعر
أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل يوم لا ينفع الوصل(ص105)
وكان علي الوردي مثلي محتفظا باللون الأسود في شعر الرأس رغم بلوغي الستين وبلوغه الثمانين واذكر بان احد الأصدقاء المصابين بداء الثعلبة التي جعلته شبه اصلع كان يغتاظ مني عندما يرى كثافة شعري حتى حسده وصار الشعر يتساقط ويغزوه الشيب بسرعة.
ان بياض الشعر وان كان يسبغ على الرجل شيئا من المهابة الا انه يبعد عنه النساء بالتأكيد ولو أنى أفضل في هذه المرحلة المتأخرة من العمر المهابة على التقرب من النساء، وعلي الوردي حاله حال الكثيرين يعترف بان المرأة ترد الروح وتنعش النفس اذا كانت شابة وجميلة(ص132).
انا اعرف نفسي باني اسير للمداراة ودغدغة المشاعر اذ لا اريد ان اجابه سخط الناس بسبب الصراحة الزائدة في ابداء الرأي لأني قد فعلت ذلك مرارا فتعرضت لعزلة خانقة في المجتمع وصرت أخشى من قول الحق، والوردي يتكلم عن هذا الامر وكأنه يتكلم عن لساني ويشرح ما في داخلي تماما فالناس لا يقبلون حتى بالمداراة والخروج من فخ البشر امر صعب للغاية(ص132).
وهناك الكثير من الكتاب اخفوا آرائهم الحقيقية مخافة الاصطدام بارباب المصلحة في تخدير الناس حتى قال لي احدهم بانه وضع عقله في صندوق وقفله والقى المفتاح في البحر ، يريد ان يقول بانه ليس له نية ابدا في العودة الى تنوير الناس والافصاح عن مكنونات القلب ، ويقول على الوردي : ان لي مذكرات أخرى اجلت نشرها الى ما بعد موتي والسبب رغبتي في تجنب سخط الناس وهم اذا أرادوا ان ينبشوا قبري بعد ذلك فليفعلوا ما يريدون فان الانسان عند ذهابه الى ربه لا يخشى أحدا سواه، واما انا فلا أفعل ذلك حتى بعد موتي لان اللعنة قد تلحق العيال والوردي لا يخشى حتى هتك الحرمة بنبش القبر كما فعل البعض من العراقيين مع رئيس الوزراء في العهد الملكي المرحوم نوري السعيد.
يقول علي الوردي في ص135 من كتابه : لقد اقتطفوا فقرات معينة من كتاب (وعاظ السلاطين) وفسروها حسب اهواءهم ، لقد هددت حينذاك بالقتل غير مرة وصدرت ضدي سبعة كتب وكرس احد خطباء المنبر ليالي رمضان كلها للتهجم على الكتاب ومؤلفه .
وهذه الحالة عانيت منها كثيرا اعني التفسير حسب الاهواء لبعض مقولاتي ولم اسلم في هذا من زوجتي واولادي والمقربين مني أيضا ولكن سلوتي في الاخفاق بإيصال الفكرة الى الناس والأولاد هو النبي نوح عليه السلام الذي لم يستطع ان يقنع ابنه في الصعود الى السفينة لينجوا من الغرق رغم المحاولات الحثيثة.
يشبهني على الوردي في حبه لمطالعة كتب الملالي التي تستوعب جدلهم الفارغ حول العقائد وكان يلتذ بمثل هذه الكتب ويقول: يخيل لي أنى اشاهد أحد أفلام لوريل وهاردي الهزلية(ص176) ويشبهني في التعجب من اقوال العلماء الجازمة مثل: مما لا شك فيه ومما اتفق عليه العلماء ومما لا يتجادل فيه اثنان ومما لا ريب فيه ومما لا يقبل فيه النقاش والجدل وغيرها وهم بهذا يحكمون على الفكر بالجمود ويستوقفني كلمة(الاجماع) مع ان الفقهاء يقرون بان الاجماع لا يعني الاجماع.
ويشبهني الوردي في نظرته للازدواجية في الشخصية كما في قوله في (ص191) انه قد يحدث أحيانا ان يكون المصاب بهذا المرض ذا ثلاث شخصيات او أكثر ولهذا يصح ان يسمى هذا المرض تعدد الشخصية بدلا من ازدواجية الشخصية، وكم من المثقفين في مجتمعاتنا مصابون بمرض تعدد الشخصية.
ويعاني الوردي مثلي من اظهار خلاف ما في الباطن او كتابة شيء مخالف ومناقض لما هو مقتنع به وعليه فأننا يجب ان نمدح ونزج بين المدح ان أمكن ذما حتى لا نعرف ونؤذى، ويقول الوردي في (ص196): ان الكاتب الذي يكتب المقال يضع في ذهنه ان هذه الكتابة يمكن ان تلحق به الأذى سواء من جهات رسمية او اجتماعية وأقول ان كان الانسان شجاعا في ابداء رأيه فاين ينشره ومن يقبل بنشره في الصحف.
ويشبهني الوردي الذي تعرض مثلي لمحاربة رجال الدين واذكر بان وكيل احد المراجع فرض علي عزلة ورفض استقبالي رغم ازدواجيتي في الطرح بغية التقرب الى رجال الدين، فلا حصل التقرب ولا وصلت الفكرة وقد اتهمني البعض باني اكتب في الغزل وكأن هذا عيب يسقط العدالة عن كاتبه مع ان هناك مراجع وفقهاء كتبوا في الغزل والتشبيب.
أقول علي الوردي كان يشبهني او اني اشبهه في أمور وأفكار كثيرة الا اننا لم نكن نتشابه في عادة التدخين حيث كان يدخن حتى أواخر أيامه ولكنني تركت التدخين منذ مدة ليست بالقصيرة.
أقول مرة أخرى باني ما زلت لم ابلغ الثمانين ونحن في نهايات العام 2016.
فندق المرسى – مطرح 12\12\2016