سمير الفزاع / سوري
اسبوعان تقريبا من التدخل الروسي العسكري في سورية كانت كافية لتظهير جملة من الوقائع والمفاجئات السياسية والميدانية، وإلى إنقلاب كامل في المشهد السوري الآني، لكن بعضها حمل مؤشرات –إن صحت القراءة- ستقلب المشهد الإقليمي والدولي بالكامل مستقبلاً… وعلى رأس هذه المفاجئات التي تحمل هذا النوع من المؤشرات، الفيلق الرابع. ما مدلولات تسمية الفيلق بالرابع-إقتحام؟ ما هي مهام هذا الفيلق العسكرية-السياسية؟ وما هي علاقته بعناوين كبرى طرحتها القيادة السورية في العقد الأخير، مثل البحار الخمسة؟ هل سيعمل هذا الفيلق خلف الحدود السورية، وأين؟… نماذج لأسئلة سأحاول تقديم إجابات عليها بأفكار لم يتطرق إليها أحد، وقراءة لم يستخدمها أحد.
يتكون الفيلق من فرقتين إلى خمسة فرق، وتعداد الفرقة يتراوح بين 10-40 ألف مقاتل تقريباً، وإذا أخذنا متوسط هذه الأرقام يمكن الحديث عن فيلق قوامه يتراوح بين 60-120 ألف مقاتل. وإذا أضفنا بطاقة التعريف لهذا الفيلق “إقتحام” إلى عديده المأمول في المستقبل القريب (100-120 ألف مقاتل) يصبح التفكير والحديث عن الأبعاد العسكرية-السياسية لهذا الفيلق أمراً مشروعاً؛ بل وضرورياً.
بنظرة سريعة لخلفيات تشكيل هذا الفيلق يمكن أن نلاحظ الكتير من الأمور، مثل القدرة على حشد قوات كبيرة ونوعية، مدربة على مواجهة تكتيك حرب العصابات وأكثر، حتى بعد حرب مستمرة منذ خمس سنوات تقريباً… ويأتي الإعلان عنها عشية التدخل العسكري الروسي ليظهر حجم التنسيق العالي بين أركان الجيشين العربي السوري والروسي… وأن يعلن رئيس الأركان عن هذا التشكيل ويصف تسليحه بالحديث والمتطور… يعني أننا أما قوة ضاربة سيكون لها دور حاسم في كسر مشروع الغزو بأدوات إرهابية من جهة، وسيكون النواة التي يمتد الأثر منها لباقي فرق وألوية الجيش العربي السوري تطويراً وتحديثاً… في عملية إعادة هيكلة واسعة تطال برامج التدريب والتسليح والتخطيط… لتحوله إلى جيش عصري حديث ومرن، قادر على العمل في أصعب الظروف وأعقدها… هذه القوات الضاربة تشبه الى حدّ بعيد قوات التدخل السريع الموجودة في عدد من دول العالم، مثل أمريكا وروسيا وبريطانيا… وهي دول تحتفظ لنفسها بمشاريع إقليمية ودولية كبرى، وقوات التدخل السريع “بإختلاف مسمياتها” أحد أهم أدواتها التنفيذية… ما يأخذنا مباشرة إلى محاولة البحث عن المهام والأهداف المستقبلية لهذه القوة، التي سأحاول العثور عليها من خلال “التنقيب” في بعض مشاريع ورؤى القيادة السورية في العقد المنصرم.
1- الربط بالنار: عندما قامت البحرية الروسية بقصف أهداف لجماعات إرهابية في سورية عبر صواريخ “كليبر” الجوالة من بحر قزوين، ما هو المعنى الجيوسياسي لهذا الإستهداف؟ إنه “ربط بالنار” بين البحرين قزوين والمتوسط، وإذا أضفنا إلى هذه المعادلة إستعادة روسيا للقرم، لتطل للمرة الأولى منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي مباشرة على البحر الأسود. وعند ربط هذا المشهد مع ما يجري في اليمن، وتحديداً في باب المندب، حيث دمرت فرقاطتين سعوديتين من جهة، وخلو الخليج العربي من أي حاملة للطائرات منذ عقود… سندرك بأننا بتنا شهوداً على إنطلاق عملية الربط بين البحار الخمسة التي تحدث عنها الرئيس بشار حافظ الأسد قبل نصف عقد، بالقوة بعد فشل الدبلوماسية.
2- بين ضفتي المتوسط صراع قديم ومستمر، كثيراً ما كانت الغلبة فيه لصالح أوروبا “الضفة الشمالية”، وغالباً ما كانت سورية صلة الوصل التي منها تأتي الجيوش الغازية ومنها أيضاً تمر مهزومة، وكثيراً ما كانت الحروب الفاصلة بين مشاريع الغزو ومقاومته تقع على أرض الشام الممتدة من طور سيناء حتى جبال طوروس. بعد إنتصار سورية المنتظر بوجه أعقد وأحدث مشاريع غزو الضفة الشمالية للمتوسط”الربيع العربي” وحالة العجز والخواء الحضاري الذي تعيشه هذه الضفة، والإكتشافات النفطية والغازية الهائلة في برّ سورية وبحرها، والتدخل الروسي-الصيني المباشر الأول تاريخياً في هذا الصراع بين هاتين الضفتين… يصبح جليّاً بأن هذه الأرض ستكون مجدداً –كما حصل في مراحل تاريخية سابقة- مركز الإشعاع الحضاري، ونقطة الإرتكاز السياسي، والقوة العسكرية الضاربة في الإقليم… ما ينقل مركز القوة وثقل الفعل التاريخي إلى الضفة الأخرى من المتوسط، وتحديداً إلى الدولة المركز-سورية… ربما هذا ما عناه الوزير وليد المعلم عندما قال: لقد شطبنا أوروبا من الخارطة.
3- أحد أهم مفاعيل سايكس-بيكو عزل الداخل عن الساحل العربي، بمعنى فصل شعوب السواحل العربية على المتوسط عن عمقها العربي جغرافياً وسياسياً وحضارياً… ونقل “رعاية” الأماكن المقدسة في هذا “الداخل” –القدس،رام الله،مكة،المدينة،النجف،كربلاء…- من يدها إلى أيد إلى أيد ترتبط مباشرة بقوى “ركبها” الإستعمار في فلسطين المحتلة والحجاز والعراق. وتزايدت أهمية الفصل بين الساحل والداخل مع ظهور الثروات الطائلة في جزيرة العرب والعراق، فأخذت إستراتيجية الفصل بعداً إضافياً جديداً وخطيراً، الفصل بين الثورة والثروة لإدامة الهيمنة والسيطرة. ما يحصل في سورية اليوم يؤسس لكسر هذه المعادلة “الشيطانية” وربما يكون الفيلق الرابع بأبعاده السياسية-العسكرية العنوان العملي العريض لهذه المعركة.
4- كان الرئيس بشار حافظ الأسد واضحاً تماماً عندما تحدث عن الردّ على الغارات الصهيونية المتكررة على سورية، بأننا نردّ على هذا العدو بسحق أدواته في الداخل السوري، وعند الفراغ منها لن يجرؤ العدو على تكرار مثل هذه الخروقات. ويبدو بأن هذا الموقف كان موضع نقاش بين بوتين ونتنياهو في زيارته الأخير لروسيا، ولا شيء غير ذلك يدفع الرئيس بوتين ليقول للإعلام بأن سورية الآن معنية بالحفاظ على وحدة أراضيها وليس بفتح جبهة الجولان. وعند محاولة إستقراء ما لم يقله الرجلان علانية، الأسد وبوتين، نصل إلى المعادلة التالية: الحرب مع أدوات الغزو الإرهابية حرب مع “إسرائيل” على الأرض السورية… والتطور الطبيعي للامور هو محاربة هذه الكيان في الأرض السورية المحتلة. كم كان معبراً أن ينشر معهد واشنطن مقالاً للكاتب جيمس جيفري بعنوان:”التحليق الروسي فوق تركيا: أكثر مما يتراءى للعين”، حيث يرى الكاتب أن خرق الطائرات الروسية للأجواء “التركية” ما هو إلا إشارة روسية للهوية السورية للواء الإسكندرون… ألا يعد بوتين نفسه من أنصار هذه المدرسة بعد أن طبق تعاليمها في أوستيا وأبخازيا والقرم…؟!.
* كلمة أخيرة:
سيقوم الكونجرس الأمريكي بعمل تحقيق موسع مع الرئيس الامريكي اوباما وبعض اعضاء وضباط المخابرات الامريكية CIA، نتيجة فشلهم في تقدير وتوقع التدخل الروسي المفاجيء في سورية دون علم وتوقع امريكا، لان ذلك يؤكد على حقيقة عدم نجاح الاستراتيجية الامريكية بقيادة أوباما، وتآكل نفوذ امريكا في المنطقة. لقد أخطأت تقديرات CIA عندما تصورت أن الحشد العسكري الروسي ربما كان “مناورة” عسكرية مفاجئة أو استعراض مؤقت للقوة، وليست استعداد لشنّ هجمات متواصلة على نطاق واسع على داعش والتنظيمات الارهابية… وكانت صواريخ بحر قزوين القشة التي قسمت ظهر بعير الـCIA، وعندما سؤل الرئيس بوتين حول هذا الموضوع، قال: “هي إحدى أقوى الاستخبارات، لكنها لا تعرف كل شيء ولا يجب عليها أن تعرف كل شيء”. إن ما تقوم به سورية وروسيا وإيران وحزب الله والصين… صدم كل من سواهم. في الحد الأدنى، يصدمهم لأن هذا التحالف تمكن من التخطيط لتغير المشهد، ونفذ خطته بنجاح. يصدمهم لأن هذا الحلف مجتمعاً، ينفذ حرباً حقيقية مع واشنطن وحلفائها ومصالحها في المشرق العربي والبحر الأبيض المتوسط، للمرة الأولى في التاريخ. يصدمهم، لأنهم إكتشفوا بالنار والحديد وطعم الهزيمة المرّ من هي سورية، ومن هو بشار حافظ الأسد.