أسعد أبو خليل / لبنان
لا يكاد يمرّ يوم إلّا وتحفل الأزمة السوريّة بمزيد من التعقيد وتشهد الأرض السوريّة المزيد من التدخّلات والمتدخّلين. لكن التدخّل الروسي العسكري المباشر رفع من وتيرة الحرب الإعلاميّة غرباً وشرقاً. حناجر الممانعة بُحّت بالهتاف والشوق فيما كاد إعلام النظام السعودي والقطري ان يُعلن أنه مُعارض بالمبدأ للتدخّل الأجنبي في الأزمة السوريّة. لكن لماذا لا يتم الحديث في الإعلام العربي عن روسيا من دون ضخ الكليشيهات المعهودة عن «القيصر» و«الدب» و«الكوميسار»؟
لم يبدأ التدخّل العسكري الروسي في روسيا قبل أيّام فقط، ولم يخرق سكون الحياد الدولي المفترض إزاء الحرب السوريّة التدخّل الروسي هذا. إذا كان بديهيّاً القول إن الصراع السوري خرج بعد بدء الحرب من أيدي أبنائه، فإنه قد يجوز القول إن الصراع هذا قد يكون قد خرج من يد الأبناء قبل نشوب الحرب. إن رفع شعار «عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة» للدول ترفعه الولايات المتحدة، وذلك من أجل الاستئثار بالتدخّل في كل الدول حول العالم ومن دون مُنافسة من أحد. لا تزال الولايات المتحدة تلتزم نصّاً وروحاً بعقيدة «استراتيجيّة الأمن القومي» المُعدّة في صيف 2002، والتي تحدّد موقف أميركا ضد أي دور مُنافس لهيمنتها العالميّة. وتعمل الولايات المتحدة في نحو 800 قاعدة عسكريّة (غير سريّة) حول العالم، كما أن قوّاتها الخاصّة منتشرة في 135 دولة، أي نحو 70٪ من دول العالم، كما ان القوّات الخاصّة الأميركيّة تعمل على مدار الساعة (أي تقوم بمهمّات سريّة) في 80 إلى 90 دولة (بحسب موقع « صالون»). لكن الحكومة الأميركيّة هالها التدخّل الروسي واعترضت بشدّة على إرسال طائرات روسية إلى الحرب السوريّة. الولايات المتحدة لا تقبل خرق سيادة الدول، إذا كان الخرق لا يجري على أيدي حلفائها. أما كتّاب آل سعود في المنطقة العربيّة، فاعتراضهم كان مختلفاً، هم كلّهم، من عوني الكعكي إلى جمال خاشقجي، يعيبون على أميركا انكفاءها وتمنّعها. هم يريدون منها زيادة تدخّلها وقصفها وغزوها وتدميرها. وبعض هؤلاء الكتّاب يسخر من أوباما ظنّاً منه أن البيت الأبيض يرصد كلامه، ويوافي أوباما بملخص عن مقالات إعلام النفط والغاز. والذين يطالبون الغرب بمزيد من التدخّل العسكري في سوريا يعيبون على روسيا تدخّلها. والذين يعيبون على الغرب تدخّله في سوريا، يطالبون بمزيد من التدخّل الروسي. المنافسة أو السعي للتدخل الخارجي على أشدّه بين الطرفيْن.
أما إعلام الممانعة فأصيب بحالة من هذيان النشوة. كان هناك هتافات بالنصر قبل رمي الشحنة الأولى من الصواريخ والقنابل الروسيّة. التهليل بلغ ذروته بعد ان حلّقت طائرات السوخوي وتوالت الأشعار في مديحها.
وتُذكّر المدائح الممانعة بالتدخّل الروسي الحالي بالموقف اليساري اللبناني والفلسطيني من وصول يوري اندروبوف إلى موقع القيادة السوفياتيّة في عام 1982، حيث بشّرت القيادة عناصر التنظيمات بأن الفرج قريب وان الضربة القاضية وشيكة ضد أميركا وإسرائيل معاً، وأن الحرب الباردة باتت تشارف على النهاية لصالح الاشتراكيّة. لكن التعويل على التدخّل الروسي من قبل معكسر الممانعة والتعويل على التدخّل الغربي من قبل معسكر التحالف السعودي ــ الإسرائيلي يلغي ما يُسمّى في علم الاجتماع بدور «الوكالة الذاتيّة»، في إشارة إلى قدرة التغيير من قبل الفرد الفاعل، وعدم تذويب الفرد في الجماعة. التعويل على التدخّلات من الجانبيْن تقصي عمليّة تقرير المصائر الوطنيّة، وتقرّ بعجز الفرقاء المحليّين على تغيير المعادلات، من انتخابات الرئيس في لبنان إلى مصير الحرب السوريّة. لم تعد أحزاب وحركات القوميّة العربيّة وبعض اليسار أو حركات وأنظمة النفط والغاز تتحدّث عن الاستقلال والتحرّر الوطني، الذي لقي تراجعاً كبيراً منذ سنوات الاستقلال، وبعد صعود الحقبات السعوديّة المتوالية.
ليس التدخّل في شؤون الدول من المحظورات، بالعرف اليساري. إن التدخّل في شؤون الدول واجب قومي وأممي. هل هناك أرفع من «لواء لنكولن» الذي ضمّ يساريّين أميركيّين تطوّعوا لنصرة الجمهوريّين في الحرب الإسبانيّة، أو المناصرة العربيّة لثورة الجزائر، او تقاطر شباب وشابات من كل دول العالم لتلقّي التدريب في المخيّمات الفلسطينيّة في سنوات الحرب اللبنانيّة؟ لكن المناصرة والتدخّل يختلف بين دولة وأخرى وبين حالة وأخرى. الحكومة الأميركيّة تتدخّل من أجل هدف السيطرة العالميّة (وكتاب نيل فرغسون الجديد عن هنري كيسنجر يظهر مدى التقارب بين شعارات مرحلة الحرب الباردة وبين شعارات المرحلة الحاليّة، وكان هناك في حقبة الحرب الباردة هذا الهوس بقدرات القوّات الأميركيّة الخاصّة وبضرورة تدريب جيوش محليّة لخدمة الأهداف الأميركيّة)، فيما تتدخّل الحكومة الروسيّة من أجل تحقيق أهداف روسيّة (أمنيّة وسياسيّة) محضة.
لم يُنجد الاتحاد السوفياتي العرب كما كانت دول الغرب تنجد دولة العدوّ الإسرائيلي، ولم يكن الاتحاد السوفياتي يعطي للعرب ما تعطيه أميركا لإسرائيل من خزائنها: كان الاتحاد السوفياتي يحفظ «التوازن» الذي يمنع زوال الكيان الصهيوني ولو أدّى ذلك إلى زوال أراضٍ عربيّة. ولم يكن الاتحاد السوفياتي يوماً موافقاً على شعار تحرير فلسطين وإزالة الصهيونيّة عن ارض فلسطين، فيما كانت دول الغرب، وأميركا خصوصاً بعد 1967، ملتزمة بضمان تفوّق العدوّ على كل الدول العربيّة – لو اجتمعت ضد إسرائيل. لكن الأنظمة العربيّة التي تحالفت مع الاتحاد السوفياتي لم تعطِه ما كان يطلبه، وكانت تتريّث قبل عقد اتفاقيّات الصداقة والتعاون معه خشية اغضاب الحكومة الأميركيّة. كان الاتحاد السوفياتي – لا روسيا بوتين – يستحق ان يُسمح له بإقامة قواعد عسكريّة فيه لو كان ذلك في صالح المعركة لتحرير الأراضي العربيّة. لكن الاتحاد السوفياتي لم يكن متحمّساً كما ان الأنظمة العربيّة (فيما كان يُسمّى بالأنظمة التقدميّة) لم تكن متحمّسة هي أيضاً (انتظر العراق حتى آخر السبعينيات وسوريا حتى الثمانينيات ليوقّعا على اتفاقيّات التعاون). وكانت المشاركة السوفياتيّة في حرب الاستنزاف المصريّة هي الاستثناء، ولم تأذن لها القيادة السوفايتيّة إلا بعد تهديد عبد الناصر بالتنحّي. لكن الموقف السوفياتي من القضيّة الفلسطينيّة كان دوماً أدنى من تمنيّات جمهور الشيوعيّين الذين تأثّروا بالاحتضان السوفياتي لدولة إسرائيل، ما أخرّ تبنّي الشيوعيّين العرب (أو بعضهم، على الأقل) للكفاح المُسلّح ضد العدوّ الإسرائيلي وبمبادرة من الشيوعيّين الفلسطينيّين.
لكن التعويل على التدخّل الروسي الحالي يغيّب حقائق عنيدة عن هذا التدخّل: لا تزال الحكومة الروسيّة، وبوتين شخصيّاً، متحالفاً أمنيّاً وعسكريّاً مع العدوّ الإسرائيلي. ولقد سارعت الحكومة الروسيّة لطمأنة الحكومة الإسرائيليّة بعد إعلان تنشيط التدخّل العسكري الروسي في سوريا، وتم إعلان تشكيل لجنة عسكريّة مُشتركة بين الحكومتيْن للتنسيق والتعاون. وبناء على ما ورد عن اللقاء بين نتنياهو وبوتين، فإن دولة العدوّ احتفظت بـ«حقّها» في قصف سوريا ولبنان لمنع مدّ حزب الله بالسلاح الثقيل، وبموافقة روسيّة ضمنيّة. والكلام عن ان روسيا توقّفت عن مدّ إيران بالسلاح الثقيل بناء على قرار مجلس الأمن في صيف 2010 والقاضي بحظر توريد السلاح إلى إيران غير دقيق، إذ ان الحكومة الروسيّة كانت قد ألغت بالتدريج (ونتيجة جهد إسرائيلي حثيث) عقداً للتسلّح بقيمة 800 مليون دولار بعد ان كانت قد وقّعته في عام 2007 (ألغيَ العقد رسميّاً في عام 2011). والعلاقة بين روسيا وإسرائيل خاصّة جدّاً إلى درجة أن هناك خط اتصال مباشر (مشفّر) بين زعماء الدولتيْن، كما ان روسيا هي مصدر إسرائيل الرئيس للنفط. وقد مارست إسرائيل (وبفضل اللوبي الروسي فيها) حق النقض على المشتريات العربيّة من السلاح الروسي. لكن التدخّل الروسي فاجأ أميركا قبل ان يفاجئ غيرها. وقد يكون، بناء على ما ورد في الإعلام، هذا التدخّل نتيجة مسعى إيراني رسمي. والتدخّل لا يمكن له ان يحسم الحرب في صالح النظام بالكامل، وأقصى ما يكمن ان يفعله هو أن يحسّن من الموقع الميداني (وبالتالي، التفاوضي) للنظام السوري. ولقد سارعت الحكومة الأميركيّة إلى رفع مستوى الدعم العسكري لـ«الثوّار» السوريّين، فألقت بخمسين طنّاً من المساعدات العسكريّة للمنطقة الشماليّة كما أنها أذنت للنظام السعودي بمدّ الميليشيات السوريّة بصواريخ «التاو».
قد يساهم التدخّل الروسي بتكرار سيناريو التمنّي لهنري كيسنجر بالنسبة للحرب الإيرانيّة ــ العراقيّة، عندما تمنّى ان يخسر الفريقان الحرب إلى ما لا نهاية. وقد تمتدّ حرب الوساطة العالميّة والإقليميّة إلى سنوات طويلة خصوصاً، وأن ذلك ينهك أعداء العدوّ الإسرائيلي المتبقّين.
أما مقاصد التدخّل الروسي فهي تدخل في نطاق حسابات داخليّة وحسابات تتعلّق بالتحدّي الروسي لدول الغرب. فقد ذهبت أميركا بعيداً في الاستئثار بالقرارات الدوليّة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأثناء سنوات يلستن، التي تمتّعت به واشنطن مخموراً لأنه كان يوافق على كل ما تطلبه منه الحكومة الأميركيّة. وكان بوتين يريد الاستمرار في التعاون مع اميركا لكن ليس بوتيرة وطريقة الإذعان نفسها التي مثّلها يسلتن (وقد تعاون مدفيديف مع الحكومة الأميركيّة كثيراً، كما ذكّرت هيلاري كلينتون هذا الأسبوع). أصرّت الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة على التعامل مع روسيا من موقع المُنتصر، وعلى فرضيّة ان روسيا باتت مثلها مثل دول العالم الثالث. فأحاطتها بالأسوار الأمنيّة ولم تتوقّف عن توسيع حلف شمال الأطلسي (الذي كانت مهمّته مقارعة الشيوعيّة والحفاظ على المصالح الإمبرياليّة الأميركيّة في أوروبا وما بعد أوروبا) بالرغم من الاعتراضات الروسيّة. كما انها دعمت الأعداء التقليديّين والجدد للحكومة الروسيّة، من جورجيا إلى أوكرانيا (فقط عندما تكون في الفلك الأميركي)، لا بل دعمت انقلاباً سياسيّاً في أوكرانيا ثم دعمت حرب بالوساطة على الحدود الروسيّة ضد حكومة ونفوذ بوتين. وقرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي أجاز استخدام القوّة (من قبل مَن؟) لحماية مدنيّي ليبيا في غمرة حملة دعائيّة تبيّن حجم أكاذيبها في ما بعد (تحدّث الإعلام الغربي عن قتل مئات الآلاف من قبل النظام الذي كان حتى العشيّة حليفاً للدول الغربيّة) وضع حدوداً جديدة للتعامل الروسي والصيني مع قرارات مجل الأمن. علمت الحكومتان متأخرتيْن أن الإدارة الأميركيّة تأخذ كل قرار من مجلس الأمن على أنه رخصة للغزوات والحروب الأميركيّة بعناوين مختلفة. طبعاً، تُلام الحكومات التي صدّقت النوايا الأميركيّة. أخذت الحكومة الأميركيّة وحلفاؤها الغربيّون والعرب قرار مجلس الأمن عن ليبيا على انه دعوة لشنّ حرب وحشيّة على ليبيا قُتل فيها ربّما عدد الذين قتلهم القذّافي نفسه في حربه ضد الانتفاضة، لكن الغرب يتحمّل مسؤوليّة الحروب الداخليّة التي تلت.
تعلّم بوتين الدرس جيّداً ان الحكومة الأميركيّة لن تتورّع عن التدخّل في شؤون حدوده نفسها، فيما هي تعترض على تدخّل أي حكومة غير موالية لها في شؤون الدفاع عن امنها القومي. ولا تكتشف الحكومة الأميركيّة عدم ديمقراطيّة الأنظمة إلّا عندما تقف في وجهها: هي أجازت الديكتاتوريّة غير المُقنّعة التي أنشأها يلستن لأنه كان مطيعاً. والرجل، أي بوتين، الذي كان يتلقّى المدائح الغربيّة أصبح عدوّاً… قرين ستالين وبريجنيف. كانت الحرب في جورجيا عام 2008 هي التي دفعت الحكومة الروسيّة لتغيير عقيدتها العسكريّة: كانت الخسائر الروسيّة كبيرة بالرغم من التستّر على الأرقام من قبل حكومة موسكو. ذهبت روسيا في ما بعد مذهب دول الغرب حول التركيز على القوّات الخاصّة والتدخّل السريع وحماية سلاح الطيران. اعترف الخبراء الأميركيّون العسكريّون في الحرب الأخيرة في أوكرانيا أن روسيا حقّقت تقدّماً في إعادة هيكلة وتنشيط تدريب قوّاتها. لعلّ التدخّل العسكري في سوريا هو مزيج من الاستعراض القومي لأغراض السياسة الداخليّة ومِن تكثيف تدريب القوّات الروسيّة وطيرانها لحروب مقبلة أكثر أهميّة وحيويّة لها، وبعث رسالة إلى الإمبراطوريّة الأميركيّة حول حدود غيّها وتوسّعها.
لكن التدريب الغربي والروسي العسكري بات يجري في سمواتنا وفوق أراضينا وعلى جثث شعوبنا. جاء في تقدير أن طيّاري سلاح الجوّ الأميركي هم في معظمهم، منذ حرب الخليج في عام 1991 (والتي استمرّت بوتيرة ما حتى غزو العراق في عام 2003)، من خرّيجي التدريب في الأجواء العربيّة والإسلاميّة. تحوّل العالم العربي إلى حقل اختبار للسلاح الشرقي والغربي معاً. وأنظمة الخليج هي الأخرى باتت تعتبر أن الغزو والتدمير والاحتلال مناسبة لاختبار السلاح المُتراكم الباهظ الثمن.
ليس التدخّل الروسي مناسبة للاحتفال أو للتهليل. هذه ارض عربيّة، وهي أجواء عربيّة تلك التي تجري فيها الحروب والتدخّلات… والجثث التي تتراكم هي عربيّة ومسلمة. سيُقال إن الضحايا هم من الإرهابيّين والمخرّبين والمتطرّفين: لكن لماذا يكون قتلهم على يد قوّات لا تحمل مصالح العرب والمسلمين في قلوبها؟ ومتى كانت القنابل والصواريخ الذكيّة، والغبيّة على حدّ سواء، قادرة على الحرص على حياة المدنيّين والمدنيّات؟ ومتى كان التمييز بين المدنيّين والمقاتلين وهذه «الحرب على الإرهاب»: ألم تعد ذريعة للتدخّل الخارجي من كل حدب وصوب؟ وما هو أفق التدخّل الروسي وحدوده؟ وهل النصر في سوريا (بالمعيار الروسي أو الأميركي) في صالح الشعب السوري؟ ولقد شاهدنا كيف حاربت روسيا في الشيشان، ومشهد غروزني المُدمّرة لا يذكّر إلّا بصور دريسدن المُدمّرة (عن قصد من قبل «الحلفاء») في الحرب العالميّة الثانية.
إن العالم العربي يمرّ في مرحلة تنعدم فيها السيادة الوطنيّة في كل دولها. لا، يمكن الجزم ان الدول العربيّة كان لها من بصيص السيادة في مرحلة الاستعمار – على بشاعته وفظاظته التي تتعرّض إلى تجميل من قبل أقلام النفط والغاز – ما لا تملكه اليوم. تسيطر الحكومة الأميركيّة على كل الدول العربيّة من دون استثناء، فيما هي تتنازع السيطرة في العراق ولبنان وسوريا مع أعدائها. باتت هناك محاولة أوليّة لمنافسة متواضعة لأميركا، لكن دعوة بوتين هي لـ«محاربة الإرهاب»ـ والتي دعا الغرب والجيش السوري الحرّ إلى الانضمام إليها. وكيف ينضوي مَن يُتهم بالإرهاب في الغرب في حملة غربيّة وروسيّة ضد «الإرهاب»؟ وماذا لو اتفقت روسيا وأميركا على محاربة «الإرهاب ضد إسرائيل» في مرحلة لاحقة؟
كما ان التدخّل الروسي سيزيد بدوره من التدخّل الوحشي الغربي والخليجي. وكلّما زاد منسوب التدخّل الروسي ستقابله زيادة في منسوب التدخّل المضاد، ما يعد الشعب السوري بحلقات من الحروب المُستمرّة المُفكّكة للكيان السوري. والتسويات بين الدول الكبرى المتصارعة، حتى في سنوات الحرب الباردة، تأتي على حساب الشعوب العربيّة. الاتحاد السوفياتي (الذي كان تدخّله في بلادنا محموداً لو أتى في حينه، لكنه لم يأتِ ولم يرد الحزب الشيوعي السوفياتي يوماً زعزعة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين) كان يبيع حلفاءه العرب مقابل صفقات مع دول الغرب. وهو ترك شيوعيّي أفغانستان لمصائرهم الدمويّة بعد مغادرة جيشه، كما ترك الشيوعيّين العراقيّين يُذبحون في أواخر السبعينيات حفاظاً على العلاقة مع صدّام. والولايات المتحدة تعلم انها تتمتّع بأفضليّة في الإنفاق لإنهاك الخصم: وكلّما أنفقت روسيا على مغامراتها العسكريّة في سوريا كلّما ستنفق أميركا (من جيوب أنظمة الخليج طبعاً) أكثر.
يصبح بوتين بطلاً أسطوريّاً في مخيّلة إعلام الممانعة، وتُعوّل عليه كل الآمال العربيّة والإيرانيّة المناهضة لمشروع التحالف الإسرائيلي ــ السعودي. لكن المخيّلة تلك تعجز عن تصوّر الحالة التي ينتصر فيها بوتين لأحلام الممانعة والشعارات التي تُقحم حول التدخّل الروسي. ولو ان بوتين بجيشه قدر على رفع شأن النظام السوري وقهر كل خصومه، هل سيكون في ذلك نصر للمانعة ام تحويل شعارات تتعلّق برفض التسوية إلى قهر الشعوب عبر الاستعانة بجيش خارجي؟ ويتساوى في ذلك الفريقان المتصارعان في الشرق الأوسط، لكن لكلٍّ جيشٌ أجنبيّ يعوّل عليه لينقذه من الجيش الآخر. ألا يخطر في البال أن اي تسوية من فوق رؤوس المتصارعين لن تأخذ في عين الاعتبار الكثير من آمال وطموحات الفريقيْن؟ وماذا سيأخذ حزب الله من تسليط نظام فوق رؤوس شعوبه بقوّة تدخّلات خارجيّة؟
لن تنتهي الحروب العربيّة في وقت قريب، لا بل هي ستتمدّد على الأرجح. تستمثر الحكومة الأميركيّة في هذه الحروب لأنها وسيلة للثورة المضادة لإبعاد خطر التغيير الحقيقي الذي وعدت به الانتفاضات العربيّة (ماذا حدث لها، بالمناسبة؟) عند انطلاقتها. والحروب هذه عندما ستنتهي ستطرح على اجندة السياسة العربيّة أمراً ملّحاً: المطالبة بالاستقلال مرّة ثانية بعد ان سلّمت كل الأنظمة العربيّة من دون استثناء مقدّرات بلادها إلى دول خارجيّة فقط كي تبقى في السلطة. وقد تكون معركة الاستقلال الثاني عنفيّة أكثر من معركة الاستقلال الأوّل. كيف أصبحت البلاد التي لم يكن يطلع فيها حزب لا ينادي بالتحرّر بلاد المطالبة بالتدخّلات الأجنبيّة. لعلّ معركة الاستقلال الثاني تكون أقلّ صوَريّة على الأقل.
عانت روسيا من عقوبات غربيّة قاسية ردّاً على الأحداث في أوكرانيا. والانتفاضة الأوكرانيّة هناك أنتجت انتخابيّاً حكومة موالية لروسيا، فما كان إلّا ان قامت حكومات الغرب بانقلاب لصالحها تصطحبه حرب عسكريّة للحفاظ على النظام الجديد. إن الردّ الروسي على الغرب لن يكتمل في سوريا، لا بل ان روسيا قد تسعى إلى المصالحة مع الغرب من خلال سوريا فيما يتعامل إعلام الممانعة مع بوتين على أنه قومي عربي عريق، أو ان تدخّله يمثّل عودة إلى نظام البعث في «أصالته». بقي ان يصبح التدخّل الروسي تلك «الرسالة الخالدة».
الاخبار اللبنانية