الرئيسية / مقالات / الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (11) / خليل الرحمن لعنةٌ على العدوان

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (11) / خليل الرحمن لعنةٌ على العدوان

د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين

الخليل هذه المدينة الموغلة في القدم، والموسومة بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وفيها مسجدٌ حرمٌ باسمه، يتعرض لأبشع حملات التهويد والسيطرة، والتقسيم والهيمنة، بل والمصادرة والتملك، تعاني كثيراً من الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، ففيها مستوطنة كريات ملاخي، وهي المستوطنة الأشد تطرفاً لدى الإسرائيليين، ومنها خرج مئير كاهانا، زعيم حركة كاخ العنصرية، والمجرم باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994، وفي أحيائها تنتشر التجمعات اليهودية، وتكثر بيوت المستوطنين المتشددين، الذين يحتلون الشوارع ويغلقونها، ويضيقون على الفلسطينيين ويطردونهم، ويسيرون في شوارعهم حاملين أسلحتهم يستفزون ويتحرشون، وبألسنتهم يشتمون ويسبون بفاحش القول وبذيء الكلام.
اليوم … لا أحد يخيف الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية كمدينة الخليل، وإن كان بات يخشى من الفلسطينيين جميعاً، صغاراً وكباراً وأطفالاً، إلا أنه ينظر إلى مدينة الخليل بخوفٍ شديدٍ وحذرٍ أكبر، ويرى أنها القنبلة التي ستنفجر والبركان الذي سيندلع، وهو إذ يعاني منها قديماً ويشكو، فإنه اليوم أشد معاناةً وأعظم شكوى، فهذه المدينة بقراها وبلداتها ثائرة دوماً، ومنتفضة أبداً، ولا تقبل الإهانة، ولا تسكت على الضيم، ولا تنام على الحيف، وتصر على الرد، وتصمم على الانتقام، ولا تبالي بالجراح، ولا تحزن إن أصابتها الآلام طالما أنها من أجل وطنها، وحمايةً لشعبها.
كثيرةٌ هي العمليات العسكرية النوعية التي قام بها الخلايلة والتي يصعب على العدو نسيانها، فهو لا ينسى شبانه الثلاثة الذين اختطفتهم المقاومة، ولا ينسى قناص الخليل الذين أرعب مستوطنيهم، ومنعهم من عبور الشوارع وارتياد الطرقات، ولا عمليات القنص الناجحة التي طالت جنوداً وضباطاً، وتمكن خلالها المنفذون من الفرار والتواري عن الأنظار، دون أن يتركوا وراءهم دليلاً أو شاهداً يدل عليهم، أو يقود إليهم، أما عملية الدبويا فهي أم المعارك الفلسطينية في مدينة الخليل، التي أوجعت الإسرائيليين وأدمتهم، وأبكت جنودهم وضباطهم كما بكت بحرقةٍ فاجعةٍ نساؤهم، وما زالت حتى اليوم محل فخر الفلسطينيين وموضع ألم وحسرة الإسرائيليين.
أما في يوميات انتفاضة القدس الثانية، فلا يكاد يمر يومٌ دون أن تترك الخليل، المدينة والمحافظة، آثارها الوطنية البارزة على الأحداث الجارية، فهي تأبى أن تكون متفرجة، أو شاهدة على الأحداث، تراقب وتتابع، وتندد وتستنكر، وتبكي وتحزن، بل تصر على أن تكون شريكاً أساسياً، ولاعباً مهماً في هذه المعركة، تضرب حيث تجد الضرب ممكناً، وتتظاهر وتغضب في كل مناسبةٍ توجب عليها أن يكون لها كلمة وموقف، يحفظه لها التاريخ ويدونه الوطن في سجلاته.
تعرف سلطات الاحتلال أن الكثير من الاستشهاديين ومنفذي عمليات الطعن الدهس في كل أرجاء فلسطين المحتلة، يخرجون من مدينة الخليل، التي ينتسبون إليها سكناً، أو ينتمون إليها ثقافةً وتدريباً وتأهيلاً، حيث تصفها المخابرات الإسرائيلية بأنها العقل الأيديولوجي للعمليات العسكرية والاستشهادية التي عمت البلاد في الفترة الأخيرة.
ويقول محللون عسكريون إسرائيليون أن الخليل مدينة معروفة بأنها من معاقل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” منذ عشرات السنين، فضلاً عن القوى الفلسطينية التقليدية وعلى رأسها حركة فتح والجبهة الشعبية، ورغم الجهود الأمنية الهائلة التي تبذلها إسرائيل والعمليات الاستخبارية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية من أجل إحباط العمليات المسلحة، بما في ذلك اعتقال المشتبه بهم، فإن هناك في الخليل دائماً من هو مستعد لقتل اليهود.
وقد بات معروفاً أن العديد من منفذي العمليات العسكرية ضد أهدافٍ إسرائيلية، التي تتم بالأسلحة النارية أو بواسطة السلاح الأبيض، أو من خلال عمليات الدهس والصدم، هم من مدينة الخليل، ما جعلهم في انتفاضة القدس سباقين ومقدامين، ومعطاءين ومضحين، ولا يسبقهم إليها أحد، ولا تبزهم مدينةٌ فلسطينيةٌ أخرى.
في الوقت الذي كانت فيه حاضنة خلايا المقاومة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية في كل المراحل، وما يغيظ سلطات الاحتلال أكثر أن العديد من العمليات التي ينفذها الخلايلة كان فيها تحدي وعناد، سواء تلك التي تتم في قلب المدينة وفي محيط الحرم الإبراهيمي، حيث الحراسات المشددة وجنود الجيش المنتشرين في كل مكان، أو عمليات القنص التي تتم في وضح النهار، وينسحب خلالها المنفذون بأيدي نظيفة جداً.
كأن الخلايلة ينتقون أهدافهم، ويبحثون عن عدوهم، فلا يقتلون إلا ضابطاً، ولا يهاجمون إلا النخبة، ولا يقاومون إلا الجيش اللجب، ويصمدون أمام كل التحديات، ويعاندون العدو ويفسدون خططه، ويثبتون على الأرض رسوخاً كالجبل، وشموخاً في السماء كالشمس، الأمر الذي جعل الاحتلال يشكو منهم دوماً، ويخشاهم ويسميهم غزة الضفة الغربية، في إشارةٍ إلى معاناته الشديدة في غزة، وعجزه عن مواجهة رجالها ومقاومتها التي أوجعته وآذته، وأجبرته على الرحيل والمغادرة، مرغماً غير مختاراً.
لا يحب جنود جيش الاحتلال الخدمة في مدينة الخليل، ويتمنون ألا يأتي تكليفهم فيها، إذ يرون فيها حتفهم أو أسرهم، فتراهم منها يهربون، وعنها يصرفون الأنظار خوفاً مما قد ينتظرهم فيها، ولا تخلو بلدةٌ من بلدات الخليل، إلا ولها في المقاومة سابقة، ولها مع الإسرائيليين قصة وحكاية، تسجلها كل يوم المدينة العتيقة كالذهب، وبلداتها الرابضة على الأرض كأسد، يطا والظاهرية، ودورا وبيت عوا، وأدنا وصوريف وبيت أولا وسعير وبيت أمر، التي باتت أسماؤها أعلاماً، وعمليات أبنائها ملاحم وبطولاتٍ، ومعارك شرفٍ خالدات.
شهداء فلسطين الخلايلة أكثر من أن يحفظهم كتاب، أو يذكرهم كاتب، فهم على مدى سنوات الاحتلال سيلٌ جارفٌ من المقاومين، ونهرٌ يجري بدم الأحرار، ونبعٌ يتدفق بالمقاتلين الأخيار، والرجال الأبرار، والأمهات والأخوات الحرائر الطاهرات، وفي انتفاضة القدس ما تأخرت الخليل ولا بدلت من سنتها التي عرفت عنها.
مدينة الخليل صاحبة عملية الدبويا الشهيرة، الأشد وجعاً وألماً للإسرائيليين، والباقية آثارها، والخالدون شهداؤها، لا يبيت أبناؤها قبل أن يطعنوا جندياً إسرائيلياً، أو يقتلوا مستوطناً غازياً، أو يخطفوا متسللاً معتدياً، أو يقوموا بأعمالٍ من شأنها إرباك الاحتلال وإلحاق الأذى في صفوفه، فهذه يوميات الخلايلة وبرامجهم التي اعتادوا عليها، وكأنهم يقولون لا بارك الله لنا في يومٍ لا نجاهد فيه ولا نقاتل، أو لا نقاوم فيه ونقارع العدو، ليعلم أن هذه الأرض ليست له، وأنه ليس إلا محتلٌ عابرٌ، سيمضي كما مضى السابقون، وسيرحل كما رحل من قبله بقوة الفلسطينيين وبأس العرب والمسلمين، والتاريخ على هذا شاهدٌ، والزمان لن يخلد للمحتل، ولن يجمد على هذا الحال الذي يظنونه قد دان لهم.