هاتف بشبوش
الكاتب والناشط السياسي اليساري يوسف أبو الفوز ، عرفته عنيدا ومثابرا في قضيته الكبرى ، قضية الوطن والعقيدة الفكرية التي جعلها حبيبة أبدية لاتفارقه حتى النبض الأخير في نياط القلب . روائي يكتب بالواقعية والخيال وينقل كل ماهو حي شاهده أو مارسه الى إفضاء في سماء القص والروي ، ولذلك نراه ممتعا وسلسا ، وواضحا لايخشى شئ ، حتى في الخصوصيات التي تسكن وراء الكواليس والتي تخص بطل روايته هذه ( كوابيس هلسنكي) موضوعة بحثنا هذا. أبو الفوز يوسف جدير وبارع في نقل الصورة الى القارئ بشكل ممتع لايتعب العقل ولا البصيرة المشدودة والتواقة لمعرفة مافي بواطن روايته . الرواية من القطع المتوسط وتألفت على مايقارب من الثلاثمئة صفحة ، وقد صدرت عام 2011 عن دار المدى للثقافة والنشر . الروائي يوسف غني عن التعريف ، وقد اصدر العديد من الكتب الادبية والقصصية ، منها رواية ” تحت سماء القطب ” عام 2010 عن دار موكرياني في اربيل ، واصدر العديد من الكتب القصصية عن تجربة الكفاح المسلح / الأنصار الشيوعيين ، حيث عايش التجربة وكان مشاركا فيها لسنوات طويلة ، له العديد من المقالات والكتابات الصحفية في اكثر من موقع الكتروني وفي العديد من الصحف الورقية وبالأخص في طريق الشعب والمدى، في الكويت حين اضطر لمغادرة وطنه اثر العسف والإرهاب البعثي عام 1979 كان يكتب عمودا سياسيا ساخرا بإسم ( دردشة) ، ولازال حتى اليوم كاتبا كبيرا ننهل منه الكثير والممتع الذي لاينضب .
رواية (كوابيس هلسنكي) من يقرؤها ولأنها تدور على لسان ضمير المتكلّم ، يتصور أنها من أدب السيرة الذاتية لكنها بعيدة كل البعد عن ذلك ، سوى بعض القفشات هنا وهناك تتعلق بالكاتب نفسه . الرواية تنقلنا في البدء الى عالم الصغر والطفولة النزق والشباب هناك في العراق حيث نتلمس ملامح من مسقط رأس الكاتب ، ونبذة عن حياة الأخ الأكبر لبطل الرواية والمناضل اليساري الذي سجنوه اكثر من مرة . بطل الرواية منذ البدء يريد أن يعرف عن السر الذي يحمله أخيه الأكبر، مما نظل مشدودين ملهوفين لمعرفة هذا السر في قلب أخيه . هو نوع من القص الجميل ، القص والسرد ايضا يراد له ن يكون بالمستوى الجمالي الأمثل وكلما جاء الروائي بشئ جديد وفكرة جديدة تحتسب له كنقطة إضافية في مجال الصنع الفني والإبداع في حبك الصورة والحوارية وكيفية بناءها كي يستلذ بها القارئ والأّ أصبحت كحكاية تحكيها لنا العجائز ونحن في أبواب النعاس ليلا . في الصفحة الأولى والإهداء : (الى ابي وامي اللذان علماني معنى التسامح) فهو منذ البداية أراد إعلامنا أنه يؤسس الى فكرة التعايش السلمي بين كافة الأديان كما نرى لاحقا في محور الرواية الأساسي الذي من أجله كتبت هذه الرواية الممتعة . الرواية فيها شطرين من السرد ، الشطر الأول هو سرد واقعي كلاسيكي ممتع مع بعض الخيال والذي كان أغلبه في موطن الطفولة والصبا ، ثم الشطر الثاني من الرواية هو سرد بوليسي جميل على غرار الشهيرة أجاثا كريستي والمستر ( بوارو) ، وافلام التحقيق والجرائم .
رواية (كوابيس هلسنكي) تتحدث عن علاقة الأخ الأكبر لبطل الرواية مع زميلته الطالبة في كلية الهندسة التي يموت حبيبها بحادث مروري ، وكان كثير التردد عليها في بيتها ، وهو لايفهم هذا السر المكنون . حتى تبين فيما بعد أنّ هذه الطالبة في ورطة كبيرة في ظل نظام ذكوري لايرحم المرأة . منظومة إجتماعية منحازة بشكل كامل الى الرجل ضاربة عرض الحائط مايصيب المرأة من أهوال في قيمها وحياتها المهددة على الدوام بالفضيحة والإذلال . تبين فيما بعد أن هذه الطالبة قد ( منحت نفسها) قبل التخرج من الكلية لحبيبها ورفيقها في النضال وزميلها في الدراسة قبل أن يفارق الحياة بحادث مروري مفاجئ ، فماذا تعمل الآن هذه الفتاة وسط هذا القدر المروّع ، لاتفعل شئ غيرأنها أسرّت الأخ الأكبر لبطل الرواية بذلك للتنفيس عن نفسها ولإيجاد حلا ناجعا لهذه الورطة التي لم تخطر ببال أحد . يظل يبحث عن السر الذي يتخفى وراءه أخيه دون أن نعرف ، ونحن لم نزل نتذوق السرد نتشوق لمعرفة ماوراء الكواليس وهذه الطبيعة البشرية هي غالبا ما تحب أن تبحث في مكنونات الأشياء المبهمة ولايرتاح لها البال حتى تتأكد مما هو كامن هناك خلف الستار . نعرف بعد ذلك انّ الأخ الأكبر قد تزوج الفتاة بشكل سري وعلى الورق فقط تمهيدا لتطليقها بعد فترة ، ولحفظ حياتها من جرائم الشرف ، فما أعظم هذا الرجل وما أعظم أفعاله ، هي هذه الإنسانية الحقة في هذا الزمن الردئ ، الذي لايرحم .
بطل الرواية من النوع الذي لايجيد الحديث عن الحب كما يقول صديقه (الكاتب) لكنه يجيد فعله لما له من الطاقة الجنسية الإضافية . ولهذا نرى بطل الرواية بين الحين والآخر يفرك خيارته ( يستمني) في أقرب تواليت في الشوارع العامة ، أو أحيانا يصر على مضاجعة زوجته في المطبخ وهي منهمكة في إعداد الطعام ، أو في وقات لايمكن للنساء أن يتعاطين ذلك ولكنها تجاريه لكونه الشخص المريض بداء الطاقة الأضافية ، وحينما يفرغ طاقته يذهب الى الحمام وهناك يبدأ بالبكاء ، حيث يتغلغل الحزن اليه سريعا ، فيُطلق عليه أبو دمعة . فكان بطل الرواية خائفا من هذا المرض ، لكن صديقه الطبيب الفنلندي الطيب كان يطمئنه بأن ّ هذه الحالة طبيعية وهي ماتسمى بالطاقة الإضافية ( الجنسية) . بينما الأوربيون على سبيل المثال في الدنمارك ، أحيانا الفتية والفتيات يتضاجعون في مقصف ليلي , وفي اليوم الثاني حين يريد السلام عليها وتذكيرها بليلة البارحة ومافعلوه من حب ، تقول له أنا آسفة لم أتذكر ، كنت ثملة جدا ليلة أمس ، لكنني أشكرك لأنك جعلتّ ليلتي إغراءاً وجنساً وخدراً ولا أعظم من ذلك ، فخذ مني قبلة على صنيعك هذا لي ، فأين هذا من الطاقة الإضافية وكيفية تفريغها في روايتنا هذه موضوعىة البحث . لكن الروائي ينقل لنا ايضا في تعبير آخر أنّ هذه الطاقة الأضافية تعطي طاقة ذهنية ، معرفية تنطلق كوابحها في حل لغز الكثير من الأمور ، وهناك دراسات اجريت على الكثير من المبدعين الكبار على غرار ( توماس أديسون) أو ( أنشتاين) أو أدباء كبار ، تبين أنّ لهم من القدرات الجنسية الهائلة والتي أستغلت بوظيفتها الصحيحة فأعطت هذا الإبداع العبقري المتميز . يعرّج الروائي يوسف على كيفية رقود بطل الرواية في المستشفى ولقاءه بفتاة مندائية ممرضة يحكي لناعن حبها مع رجل مسلم والتي انتهت بالفشل بسبب من فارق الإنتماء الديني ، لأن إستمراهم بهذا الحب يعني الهروب من الأهل وهذا غير ممكن ، إذ يؤدي بالنهاية الى نتائج لاتحمد عقباها ، بالضبط مايحصل في العشائرية التي غالبا ما تؤدي الى نشوب العداوات بين الطرفين وهذا مارأيناه في رائعة شكسبير ( روميو وجوليت) والتي مثلت في أكثر من فيلم وفي مختلف وجهات النظر وآخرها الممثل ليوناردو دي كابريو ، الذي أبدع ايما إبداع في تمثيل احدث فيلم لهذه الرائعة التراجيدية الشكسبيرية التي لم تخفت على مر العصور . المستشفى الذي دخله بطل الرواية هو ضمن فترة السجن التي كان يقضيها بطل الرواية أنذاك لأسباب سياسية في بلده عراق الطغاة , ولذلك كان يفكر بالهرب كي ينال مايريده من الحرية ، على غرار مافعله الكثير من الأبطال الشيوعيين في سجن الحلة على سبيل المثال , وهناك تصدح في رأسه تلك الكلمات الثورية التي قالها مؤسس الحزب الشيوعي العراقي الخالد (يوسف سلمان يوسف) وتزيد من إصراره في التحدي ونيل الحرية مهما كان الثمن :(السجن ليس لنا نحن الأباة ، السجن للمجرمين الطغاة) . يتماثل له فلم الحرية تلك الكلمة الحلوة وأسبوع الفلم السوفيتي أنذاك وماتعرضه السينما من أفلام رائعة ، أو فلم الفراشة(papillon ) الذي جسد الهروب في أروع صوره ومن منا لم يره أكثر من مرة ، وكيف كان( ستيف ماكوين) الممثل الذي غادرنا وهو في عمر الخمسين أثر مرض عضال في عام 1979 ، وكيف كان مصرا في تحديه للطبيعة وشراستها وعلو المنحدر الذي رمى نفسه منه الى لجة البحر الهائج ، وحينما ينجو يصرخ مدويا ( أنا هنا أيها السفلة ) تلك العبارة التي كانت بصقة كبيرة على النظام الحاكم أنذاك ورجالات سجن الباستيل في فرنسا . وأنا نفسي كاتب المقال هذا ، رأيتُ في فرنسا في زورتي لها ، أسماء الذين قضوا في هذا السجن مكتوبة بماء الذهب على برج عالٍ ، وفي المكان نفسه ، حيث كان سجن الباستيل سابقا .
الداينمو الأساسي المحرك للرواية هو الكوابيس ، التي تكشف لبطل الرواية بأنّ هناك مخططاً خطيراَ من قبل الإرهابيين المتأسلمين للقيام بأعمال إرهابية في فنلندة . معظم هذه الكوابيس هي في هلسنكي عاصمة فنلندة حيث يسكن بطلنا هناك في المنفى بعد إن غادر طفولته وتركها هناك في المدينة الصغيرة النائية من بلاده . بطل الرواية يشك في كل شئ عن طريق الكوابيس التي تأتيه ليلا وتقتحم هدوءه وخدره وهو فوق سرير الزوجية ، لكنه بعد شكه تتحقق له الكثيرمن الأمور ، الكوابيس هي أيضا أحلام (هم وعدوا بأنّ الأحلام ستصبح حقيقة ، فهل تناسوا أنّ الكوابيس أحلام ايضا …….. الكاتب الآيرلندي أوسكار وايلد) .
ينقلنا الروائي الى تتاليات فنلندة ومايحصل فيها من الجالية المسلمة وبعض المتطرفين فيها وما يعملوه هناك من تخريب للناس الفنلنديين الذين إحتضنوهم وأعطوهم المأوى والمأكل وكل شئ يخص راحة البال والطمأنينة الإنسانية ، وكأنهم يبصقون في الصحون التي أكلوا منها . بطل الرواية كان يشك في ذلك المدعو شيخ الجالية في فنلندة والذي يقوم بإجراء طقوس قراءة الجناز على الميت ، يشك به أنه كان رجل أمن هناك في العراق واليوم جاء هنا بهذا اللباس المزيف لأخفاء حقيقته المجرمة ، كم هم دجالون هؤلاء الحمقى الذين يدعون الدين والدين منهم براء ، وكم بإسمهم ارتكبت ابشع الجرائم وكم بردائهم أنتحلتْ أكبر الشخصيات المؤمنة الورعة التي يتبين فيما بعد أنهم من عتاة المجرمين ، ليس لشئ الاّ لكون المقدس لايستطيع المرء المساس به أو يلقي عليه باللائمة ، هكذا هي شعوبنا المستمرة على هذا النهج المتخلف حتى اليوم مما ادى الى وصولنا الى هذا المآل المدمر في كل شئ .
يتحفنا الروائي ببعض النصوص القرآنية التي من شأنها أن تدحض عمل هؤلاء القتلة بإسم الدين ( من قتل نفسا بغير ذنب أو فسادا في الأرض كانما قتل الناس جميعا) . ثم التخيل الذي يدعوه الى أن يستحضر روح النبي هنا في الأرض ( أتخيل النبي محمد لوبعث اليوم بيننا وسار في شوارع المدن الإسلامية يرى ويتأمل مايجري واذ يسمع وينظر بعينيه سيصرخ هذا ليس إسلامي الذي دعوت اليه).
انا أتفق مع الكاتب من أنّ الآيات هذه موجودة ، لكن المصيبة الكبرى هي أن هذه الآيات قد نسخت وجاءت عوضا عنها مايشير الى التعرض للكفار وقتلهم بأبشع الطرق ، ولذك هؤلاء الإرهابيون يعملون على كلتا النصوص من الناسخ والمنسوخ في تمرير جميع أعمالهم الإجرامية بما يتفق والقرآن الكريم . هؤلاء يعملون على خداع الناس بأساليب ماكرة لم يألفها التأريخ الحديث ولا القديم ، ولكن لن يدومّ لهم الحال ،إذ كما قال محرر العبيد (إبراهام لنكولن) في زمن إستغلال الديانة المسيحية لقتل آلآف العبيد الأفارقة أنذاك ( يمكن أن تخدعّ كل الناس بعض الوقت وبعض الناس كل الوقت ، لكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت).
يستمر الروائي يوسف في السرد الذي يأتيه على هيئة كوابيس ، فتنتقل بنا الكاميرا الى أوضاع فنلندة ، ومايفعله المتأسلمون من فتاوى ضد الفنلنديين وشرعنة قتلهم لكونهم كفار , فيخيل اليه ومن خلال كوابيسه المتعددة الآتي أدناه :
(هل هو هذا الملتحي ذو المسبحة الطويلة واصابعه مثقلة بالخواتم ، السائر وعيناه في الأرض ، يبدو كأنه عائد من مكتب الشؤون الإجتماعية بعد ان قبض حصته من المعونة الإجتماعية ويسير في طريقه الى المسجد القريب ليؤدي صلاة الظهر وليشتري من هناك كيلوات من اللحم الحلال ، فاليوم يوم وفرة النقود ).
كوابيس الروائي أيضا تتحدث عن المخدرات التي هي أساس تمويل الحركات الإرهابية كما كان يحصل في أفغانستان وشرعنة زراعتها لغرض المال وقتل الناس الأبرياء بها تحت طائلة الكفر، فيرى دكتور الرياضيات في فنلندة وهو عربي متأسلم متطرف ، يقود الحركات الإجرامية هناك ، وهو يتحدث الى السيدة ذات المسدس في سيارةٍ تقلهم سوية 🙁 قال دكتور الرياضيات دون ان يلتفت : وصلكم كمقدمة ربع المبلغ . وحالما نتسلم نصف البضاعة ستصلكم دفعة جديدة ) .
بطل الرواية له صديقه المفضل وهو كاتب وروائي ايضا كما أشرنا أعلاه ، فحتما تكون هناك جلسات للنقاش في شتى المواضيع وخصوصا في السياسة وتأريخ الشعوب وهذا هو ديدن العراقي أينما حل في أي بقعة من هذا الكون . يروي له صديقه الكاتب عن تأريخ إجرام الأديان في أوربا : ( الحضارة الأوربية مرت بمراحل دموية لاتقل بشاعة عما نعرفه من صفحات تاريخنا في الشرق حيث تساقطت في العديد من العواصم الاوربية رؤوس الملوك والامراء مثل رؤوس الفجل ). ثم يتحدث عن الكثير من الذين اعدموا لأسباب طائفية دينية ومنها اعدام (الليدي جين غري) التي رفضت وتحت التعذيب ان تتحول من البروتستناتية الى المذهب الكاثوليكي . ثم لوحة الرسام كارافاجيو وماتعطيه عن الواقع المذهبي والديني الأليم انذاك .
ثم( انّ اقتتال الحمر والبيض في فنلندا حوّل الحياة في البلاد الى كابوس ثقيل لاتزال ندوب جروحه بارزة في حياة البلاد تحكيها اصابع الزمن بين الحين والآخر ).
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجزء الثــــــــــــــــــــاني