د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
لا شك أن أغلب الدول العربية باتت اليوم مهمومة بمشاكلها الداخلية، وتحدياتها الخارجية، وأزماتها البنيوية، وحاجاتها الخاصة، وصراعاتها البينية، وبعضها يتهددها خطر التفكك والتحول إلى دولٍ فاشلة وحكوماتٍ ساقطةٍ، لا أنظمة تحكمها، ولا قانون يسودها، ولا أمن يطمئنها، ولا سلام يجمعها، ولا اقتصاد يقيمها، ولا جيش يحفظ أمنها وسلامتها، ولا احترام ولا تقدير لها بين الدول، إذ لم تعد مستقرة ولا مفيدة، بل باتت خطرة ومنبعاً للشر، ومصدراً للفوضى والاضطراب، وما ذلك إلا لغياب حكمة القادة والحكومات، الذين ضاقت عيونهم عن المصالح العامة، وتفتحت على المنافع الشخصية، والمكاسب الفئوية والخاصة، فما عادت تهمها شعوبها ولا سكان أوطانها، ولو بقي منهم القليل، وهاجر أو هرب قبل السحق والموت الكثير.
هذه الحكومات أو أغلبها مشغولةٌ بذاتها عن انتفاضة القدس وتحدياتها، وقد لا تعنيها القدس بقدر عواصمها واستقرار الأوضاع لهم فيها، فبعضهم لا يرى فيمن تحتل القدس عدواً، ولا يشعر تجاهها بالخطر، ولا يتوقع منها الغدر، ويرى أنها أقرب إلى أن تكون صديقاً أو حليفاً، وناصراً ومعيناً، ومستشاراً وخبيراً، في مواجهة التحديات التي يواجهون، والأزمات التي يلاقون، إذ كلاهما يسميها إرهاباً، ويتعامل معها على أنها كذلك، قتلاً واعتقالاً، واتهاماً وتشويهاً، وتضييقاً وحرماناً، وعلى هذا قد يلتقون أو ينسقون، ويتعاونون ويتبادلون المعلومات والمخططات، لتكون ضرباتهم شاملة، واستئصالهم عميقاً.
لكن الشعوب العربية ومعها الإسلامية، رغم الجرح الغائر في جسدها، والدم الناعب بغزارةٍ من جراحها، والألم الذي يسكن قلوبها ويعيش في حنايا صدورها، والحسرة التي تملأها، والشتات الذي تعيشه، والتيه الذي تعاني منه وتقاسي، والهجرة التي باعدت بين أبنائها، وشتت أهلها، إلا أنها تهفو للقدس، وتتطلع للأقصى، وترنو عيونها إليها وإلى المقيمين فيها وفي أكنافها، والمرابطين والمرابطات في مسجدها، والمدافعين عن عروبتها وإسلاميتها، والمضحين في سبيلها بأرواحهم وكل ما يملكون، لتبقى القدس لنا عاصمة، والأقصى لنا مسجداً.
لا يأس يسكن قلوب أمتنا، ولا قنوط يهيمن على شعوبنا، وهي ليست مفلسة ولا محبطة، بل إن الأمل لديها اليوم أكبر وأعظم، وأكثر صدقاً وأشد تجذراً، وهي تندفع نحو النصر، وتسير باتجاه العزة التي هي لها، وهي ترى الشباب اليافع، والفتيات النضرات، يتسابقون بسكاكينهم، ويهرولون بفؤوسهم، ويندفعون بقوةٍ نحو العدو ليغرسوا في صدره خنجراً، أو يسكنوا أعناقهم سكيناً لا تخرج، وهم يعلمون أنهم لن يعودوا إلى بيوتهم إلا على الأكتاف محمولين، شهداء يلاقون ربهم، لكنهم سعداء بخاتمتهم، وراضين عن جهدهم، ومستبشرين بغد أمتهم ومستقبل شعبهم.
في المغرب كانت جحافلٌ سيارةٌ، وشعوبٌ هادرةٌ تهتف للقدس وتغني، وتزحف إليها وتمضي، وتجوب شوارع مدنها الكبيرة، رايتها واحدة، وشعارها مشترك، ووجهتها نحو القدس معروفة، تردد بصوتٍ واحدٍ مجلجل، “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”، و”الانتفاضة مستمرة حتى تعود الأرض حرة”، و”لا لتهويد القدس”، و”كلنا ضد الاحتلال”، وغيرها من الشعارات التي تجمع، والكلمات التي توحد، مما نعرف عن المغرب وأهلها، التي لهم في القدس مكانٍ وبابٌ، ودربٌ وطريق، وإليها قد رحل الجدود وفيها قد سكنوا، وكانوا لها عمَّاراً وعنها مدافعين، فاليوم إليها يتطلعون ومن أجلها يخرجون.
وفي غير مكانٍ من عالما العربي، تخرج كل يومٍ مسيراتٌ تضامنية، وتنتظم احتفالاتٌ مؤيدةٌ ومناصرة، بعضها يخرج على استحياءٍ وبأعدادٍ قليلة، مما تسمح به الحكومات أو تساعد عليها الظروف الصعبة، وبعضها تخرج حاشدةٌ لاهبةٌ كبيرة، لها أولٌ وليس لها آخر، عيونها على القدس مصوبة، وقلبها على الشعب الصامد في فلسطين يتطلع، تهتف للقدس شعاراتٍ حفظتها، وتردد كلماتٍ آمنت بها، وكلها أمل أن تكون انتفاضة السكاكين كانتفاضة الحجر، تعيد الألق والأمل إلى القضية الفلسطينية، فتوحد أبنائها، وتجمع كلمة فصائلها، وتساعد في رفع الضيم والأذى، والشدة والعنت عن الشعب المعنى المحاصر، والمضطهد بسوء إدارة سلطته وفصائله، الذين لا يرون بعيون شعبهم، ولا يحسون بمعاناته، ولا يعرفون ألمه، ولا يهمهم شفاءه، بقدر ما يعنيهم بقاءهم في مناصبهم ومراكزهم.
وحيث العرب والمسلمون في الشتات، في المهاجر الجديدة والقديمة، يخرجون بحريةٍ أكبر، ويتضامنون بصدقٍ أكثر، رغم المعاناة التي قاسوها، والألم الذي ذاقوه، والأهوال التي عاشوها في البحار وفوق لجة الأمواج، إلا أن عظم ما واجهوا لا ينسيهم القدس، ولا يمنع تعلقهم بها، وحرصهم عليها، وتضامنهم مع أهلها، فكانت جماهيرٌ عربيةٌ على موعدٍ جامعٍ في شوارع هولندا وبلجيكا، وبريطانيا وفرنسا، وألمانيا والنمسا، وغيرها من الدول العربية التي تحتضن اليوم آلاف العرب الوافدين إليها، الذين لم يسكنوا بعد في دورها، ولم يلتئم شملهم بين جنباتها، إلا أن القدس عندما نادتهم لبوا النداء، وعندما استصرختهم أجابوا صرختها، وهبوا لنجدتها، وأخذوا معهم أطفالهم وصغارهم، واعتمرت نساؤهم الكوفية الفلسطينية، وزين بها رجالهم صدورهم، وذيلوها بالقدس عاصمةً، وبالأقصى أمانةً، وكانت قلوبهم قبل حناجرهم للقدس تهتف، ومن أجلها بكت عيونٌ وذرفت حزناً عليها دموعٌ.
الشعوب العربية والإسلامية حيةٌ صادقةٌ، مؤمنةٌ واثقةٌ، قويةٌ عفيةٌ، أبيةٌ عزيزةٌ، بصيرةٌ مدركةٌ، وما زال الأمل يسكن قلوبها ويعمر صدورها، ولا يوجد ما يهدد هذا الأمل، ويزعزع في صدروهم هذا اليقين، مهما أصاب الأمة من وهنٍ وضعفٍ، ومر عليها مرضٌ وسقمٌ، فإنها تبقى مؤمنة بحقها، ومتمسكةً بدينها، وحريصةً على ثوابتها وقيمها، والقدس بالنسبة لها قيمةٌ وآيةٌ من كتاب الله تتلى ولا تبلى، وتقرأ على مدى الزمن وتبقى، فلا يضعفها جور حاكم، ولا بطش محتل، ولا تآمر جاهلٍ أو حاقد.