السيمر / الثلاثاء 31 . 10 . 2017
صالح الطائي
معروف عالميا وعلميا أن مؤسس علم الوراثة الحديث هو العالم النمساوي كريكور مندل (1822-1884) إلا أن واقع الحال يؤكد أن مندل نجح في تقنين قوانين الوراثة التي كانت موجودة ومعروفة أصلا، ولكنها غير مقننة، وهناك الكثير من الأدلة على ذلك، منها بل من أهمها وأكثرها مصداقية مجموعة أحاديث نبوية، أثبتت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرشد المسلمين إلى مخاطر التناقل الوراثي عن طريق الزواج، وأثره على الأبناء في أكثر من مناسبة، فضلا عن اهتمامه بالكفاءة وحسن الاختيار، ومن ذلك قوله: “تخيروا لنطفكم، فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن”. وقوله: “إياكم وخضراء الدمن. قيل: وماذا يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء”. ومنه قوله: “تزوجوا في الحجر الصالح؛ فإن العرق دساس”. ومثله: “أنظر في أي نصاب تضع ولدك، فإن العرق دساس”.
إن الحديث عن أثر الوراثة في زواج الأقارب، أخذ حيزا مهما ضمن الأحاديث النبوية، والأثر الوراثي وإنْ لم يبد واضحا في القرآن الكريم إلا أن المفسرين أشاروا إلى أن في القرآن آيات تحدثت عن الوراثة ضمنيا، منها قوله تعالى في سورة عبس: {من نطفة خلقه فقدره} التي قال القرطبي في تفسيره لها: ” فقدره أي فسواه. وقيل: فقدره أطوارا، أي من حال إلى حال; نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه”. وقال ابن كثير: “أي قدر أجله ورزقه وعمله، وشقي أو سعيد”. وقال البغوي: ” أطوارا: نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه، قال الكلبي: قدر خلقه، رأسه وعينيه ويديه ورجليه”.، ومن أهم تلك الأقوال قول ابن عاشور: ” التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم، كقوله تعالى: وخلق كل شيء فقدره تقديرا، أي: جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئا للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف، وتمكينه من النظر بعقله ، والأعمال التي يريد إتيانها، وذلك حاصل مع خلقه مدرجا مفرعا”. ومع أن الأقوال مختلفة ظاهرا أو بعيدة عن جوهر موضوعنا، إلا أنها تدل في خلاصتها على أن (التقدير) يعني التخطيط والتحديد, ويُفهم منه أن الصفات الوراثية تتحدد بعد خلق النطفة.
فضلا عن ذلك لا أجد المبرر الأخلاقي وحده قد تفرد في تحريم بعض طوائف النساء على بعض الرجال، أو أنه كان السبب الأوحد في نزول إحدى أهم آيات أحكام الزواج في الإسلام، حتى وإن لم يُشر المفسرون إلى ذلك، فظاهر الآية يدل على أن الأثر الوراثي كان هو الآخر سببا لهذا التحريم، وأنا هنا أتحدث عن قوله تعالى في سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. ففضلا عن أقوال المفسرين والعلماء فيها لا يمكن إغفال أثر مثل هذه الزيجات وراثيا ولذا حرمها الله تعالى.
أما فيما يخص السنة النوية فإن تواتر الأحاديث الخاصة بتوارث المتزوجين خلقيا يدل على أهمية وضرورة الانتباه لهذه الجنبة المهمة، ولاسيما وأن مثل هذا الزواج فاش بكثرة في مجتمعنا عبر التاريخ، بل يكاد يكون أكثر أنواع الزيجات التي تعقد في العراق حاليا، لدرجة أن بعض العشائر والعوائل العراقية لا تزوج بناتها لغير أبناء العشيرة، وهذا طبعا من الموروث القديم؛ الذي يأبون التخلي عنه دون داع أو مبرر، وقد حثتهم المرجعيات الدينية على نبذ هذا التقليد، ولكنهم لم ينتهوا!.
وإذا ما كانت علاقة الفرد بالقبيلة، ووجود القبيلة في مناطق نائية بعيدا عن مواقع القبائل الأخرى قد ألجأهم إلى مثل هذه الزيجات من قبل، فإن التحضر والتمدن والاختلاط وضعف الوازع العشائري لم تنجح كلها في حثهم على التخلي عن هذا الموروث البغيض؛ الذي قد يكون فضلا عن أثره الوراثي السيء سببا في تفشي ظاهرة الطلاق؛ التي تقع عادة بسبب المشاكل التي تحدث بين الأقارب أنفسهم من الأسرتين، فتنعكس على الزوجين، وتؤثر في علاقتهما فيما بينهما، فتخلق مشاكل فرعية داخل بيت الزوجية. لكن يبقى الأثر الوراثي أكثر أهمية وخطورة من غيره لأنه قد ينتج أجيالا من المتخلفين عقليا أو المشوهين خلقيا، ولو بعد جيلين أو ثلاثة أجيال، فالمعروف أن موروث الجينوم، أو مجموعة المورثات التي تقنن صفات الإنسان، تنتقل من خلال الزواج والتوالد انتقالا أفقيا يؤدي إلى تشابه أفراد الجيل الواحد كالإخوة، أو انتقالا عموديا يؤدي إلى تشابه أفراد النسل تنازليا من الأجداد إلى الآباء ثم الأبناء. وقد يُنتج مثل هذا التزاوج أشخاصا منحرفين سلوكيا يرثون خُلق أجدادهم لآبائهم أو لأمهاتهم وفي الحديث فضلا عما تقدم: “إياكم وخضراء الدمن” وفيه أيضا: ” اختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين”. وفيه كذلك: “تخيّروا لنطفكم، فإنّ العرق دساس” و”تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم”.
من هنا، اهتم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأثر التناقل الثقافي بين الأجيال وراثيا، فأرشد الأمة إلى أسس الاختيار، وكان أكثر تخصيصا ووضوحا من خلال ضرب الأمثال، وقد جاء في الأثر “أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ (فيه بياض وسواد فقط)، قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق”. وهو ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حديثه مع ولده محمد بن الحنفية، حامل اللواء في حرب الجَمل، حينما امره بالهجوم، فأجهز محمد عليهم، لكن ضربات الأسنة، ورشقات السهام منعته مِن التقدم، فتردد قليلاً، وحينما وصل إليه الإمام، قال له: احمل بين الأسنة، فتقدم محمد قليلاً ثم توقف ثانية، فاقترب منه، وضربه بقائم سيفه على ظهره، وقال له: “أدركك عِرقٌ مِن أُمِّك”.
يعني هذا أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ملما بأثر الوراثة في التناقل الفكري والسلوكي ومن هنا أمرهم بالانفتاح على الجماعات الأخرى، وله في ذلك أقوال كثيرة، منها قوله: “اغتربوا لا تضووا ” أي تزوجوا الغرائب لئلا تجئ أولادكم نحافا ضعافا. وجاء عنه قوله: “غربوا النكاح”، ومنها قوله: “لا تنكحوا القريبة”، وقد جاء عن عمر بن الخطاب(رض) قوله لبني السائب: “قد أضويتم، فانحوا في الترابع” أي تزوجوا الغرائب.