السيمر / الاثنين 05 . 03 . 2018
د . لبيب قمحاوي*
يتجه المزاج السياسي في اسرائيل بإضطراد نحو أقصى اليمين . فالسقوط والتهالك العربي و الفلسطيني قد نجح في إعطاء أقصى اليمين الاسرائيلي مزيداً من النجاحات المجانية على مدى السنوات الماضية مما جعل منه بطل الإنجاز السياسي في اسرائيل ، وساهم في القضاء على إحتمالية تولي اليسار الحكم بل وَحَّول أي برنامج سياسي حزبي إسرائيلي يدعو الى التفاهم مع الفلسطينيين الى مؤشر على الضعف وبالتالي الرفض بالنسبة للجمهور الاسرائيلي بشكل عام . وعلى هذا الأساس ، فإن أي محاولة فلسطينية للتوصل الى تسوية سلمية الآن سوف تكون بالضرورة تسوية ضمن رؤيا اليمين الاسرائيلي المتطرف الذي لا يعترف أصلاً بأي حقوق طبيعية أو سياسية للفلسطينيين على أرض فلسطين ، مما يعني أن أي تسوية سوف تكون حكماً ضمن الإطار السياسي الاسرائيلي وحسب رؤيته ومصالحه .
وهكذا ساهمت التنازلات المجانية الفلسطينية والعربية في تعزيز الموقف المتصلب لليمين الاسرائيلي وأكدت قناعته بعدم وجوب إعطاء الفلسطينيين أي تنازل حقيقي مهما كان صغيراً لأن القيادة الفلسطينية سوف تقبل بالنتيجة بما يُعرَض عليها من فتات . وقد ترافق هذا الموقف مع مزيد من التصلب الاسرائيلي في معالجة أي شكل من أشكال الرفض أو المقاومة الفلسطينية بإعتبار أن ذلك سوف يشكل سابقة لا يمكن السماح بها . وهكذا ابتدأ المسار المجحف الذي ربط التنازلات الفلسطينية بالتصلب الاسرائيلي وأصبح كلاهما متلازمان معاً ويرافقهما مزيداً من التشدد والقسوة الاسرائيلية في التعامل مع أي شكل من أشكال المعارضة أو المقاومة الفلسطينية . وقد تولدت ، مع الوقت ، قناعة عامة ضمن أوساط غالبية الاسرائيليين بنجاعة هذه السياسة في التعامل مع الفلسطينيين .
إن الحديث عن أي تسويات سياسية في الوقت الحاضر يجب أن يأخذ هذا الواقع المؤلم بعين الإعتبار وأن يعتبر أن ما هو مقبول إسرائيلياً لن يكون في مصلحة الفلسطينيين على الإطلاق و أن الهدف من وراء المسيرة السلمية هو شطب وإلغاء القضية الفلسطينية برمتها وليس حلها سواء بشكل عادل أو غير عادل .
إن كثرة التصريحات العربية و الفلسطينية في الآونة الأخيرة والتي تطالب “بحل الدولتين” وتؤكد على أهميته كتعبير عن الحل المنشود للقضية الفلسطينية هو جريمة وعار على كل من يُطالب به . إذ لا مصلحة للفلسطينيين في حل الدولتين وتُعتبرَ المناداة به خطأً إستراتيجياً فاحشاً إنطلاقاً من واقع الحال الخطيرة والحرجة التي وصلت اليها مرحلة إستعمار فلسطين ، وطبيعة الوضع الفلسطيني والعربي المهلهل مقارنة بالوضع الاسرائيلي الناهض . إن المناداة “بحل الدولتين” بإعتباره حلاً إستراتيجياً ومطلباً وطنياً فلسطينياً وعربياً يعكس الضعف البنيوي والهزال الفكري والعقائدي الذي وصلت إليه القيادة الفلسطينية وبعض الفلسطينيـين من جهة ، وتدهور وإنهيـار الوضع العربي عموماً من جهة أخـرى ، هذا في حين أن قوة اسرائيل العسكرية والاقتصادية ونفوذها السياسي الاقليمي و الدولي في إزدياد ، بالرغم من تزايد الرفض لسياساتها وقوانينها العنصرية بين أوساط الشباب والمثقفين وحتى بعض السياسيين في الغرب .
المطلوب الآن هو إعلان الفلسطينيين عن رفضهم لمبدأ تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين . فالدولة المخصصة للفلسطينيين ، فيما لو تحققت ، سوف تكون شبه دولة، منزوعة السلاح والسيادة الفعلية ، ومنزوعة الدسم بشكل عام ، وعبارة عن أشلاء هنا وهناك مقدرٌ لها أن تعيش إلى الأبد في ظل الدولة الأكبر والأقوى، وهي اسرائيل . منطق الأمور إذاً يفترض أن لا يطالب الفلسطينيون، أو يوافقون على تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين . فذلك لو تم فإنه يعني الموافقة الضمنية الفلسطينية على أن تبقى إسرائيل قائمة إلى الأبد وأن فلسطين – بالتالي – سوف تبقى مقسمة إلى الأبد ، وهذا أمر يصب في مصلحة الإسرائيليين .
التغيير الذي يعصف بالعالم العربي الآن والضعف والهَرَم والجمود الذي أصاب القيادة الفلسطينية ، والجموح الملحوظ في أوساط الادارة الأمريكية الجديدة تجاه توفير دعم بلا حدود لإسرائيل ، هي عوامل تستدعي إعادة النظر فيما يريده الفلسطينيـون وفيما هم مقبلـون عليه ، وكذلك فيما يمكن أن يفعـله الفلسطينيـون وفيما يجب أن لا يفعلوه .
إن سقوط القضية الفلسطينية من سُلـَّم الاهتمام العربي والعالمي لا يعود إلى تنامي قناعة عامة بعدم عدالتها بقدر ما يعود إلى تقدير متزايد من العالم بإفتقارها المتزايد إلى التأثير على الإستقرار الاقليمي والدولي . أما على المستوى العربي فإن الأسباب تعود إلى ثقل العبأ والمسؤولية التي تضعها هذه القضية على أكتاف عالمٍ عربيٍ يزداد ضُعفاً يوماً بعد يوم .
من الواضح أن الفلسطينيين تحت الإحتلال قد أصبحو الآن قاعدة الإرتكاز الرئيسة للقضية الفلسطينية والأساس في مقاومة الإحتلال بشتى الطرق والأساليب ، مما يستدعي ضرورة إعادة توحيد الشعب الفلسطيني القابع تحت الإحتلال كشرط أساسي لإستنهاض تلك المقاومة . ويرتبط هذا الهدف بأهميته وضرورته لتعزيز القدرة على إعادة توحيد القضية الفلسطينية من خلال إلغاء التشرذم الحاصل الآن في واقع الفلسطينيين وفي أهدافهم ووسائلهم وضرورة إعادة القضية الفلسطينية الى وضعها الطبيعي كقضية واحدة مركزية لا تستند فقط الى عدالتها والى أولوية الحق ، ولكن أيضاً وبالإضافة الى كونها أساس الاستقرار الاقليمي والدولي ، حتى لو بقي الفلسطينيون لوحدهم وتخلت عنهم معظم الأنظمة العربية .
إن مفهوم النضال يجب أن يتم تطويره فلسطينياً ليأخذ أشكالاً وأنماطاً جديدة بهدف تجاوز قسوة واقع الحال داخل فلسطين المحتلة والعالم العربي وهو في مُجْمَلِه في غير صالح الفلسطينيين وقضيتهم . المفهوم الجديد للنضال والكفاح يجب أن يخرج عن إطاره التقليدي الذي يحصره بالكفاح المسلح وهو على أهميته ، يجب أن لا يعُتبر المسار النضالي الوحيد . و حتى يتناسب النضال الفلسطيني وواقع موازين القوة بين اسرائيل و الفلسطينيين والعرب ، يتوجب عليه أن يأخذ أشكالاً وأنماطاً جديدة وشاملة تصب في خانة النضال دون أن تسعى الى إرتكاب خطأ الإنتحار في مواجهةٍ مسلحةٍ شاملةٍ يائسة نتائجها شبه محسومة . وهكذا فإن الكر والفّر قد يكون جزأً من إستراتيجية نضالية مقبولة ومُتـَعارف عليها تحمل تقديراً محسوباً للمخاطرة المبنية على الفروقات الكبيره في معادلات القوة مع العدو ، دون أن يعني ذلك الاستسلام لها كأمرٍ واقـعٍ حتمي . وإنطلاقاً من هذا المفهوم فإن النهج الأمني الإسرائيلي كان يسعى دائما وما زال الى الرد على أي عملية فدائية مهما صَغُرَتْ بأقصى ما تملك من موارد حتى تجعل كلفة استراتيجية الكر و الفر عالية ومساوية تقريباً لكلفة المواجهة الشاملة . ولكن ذلك يجب أن لا يردع الفلسطينيين عن الإستمرار في هذا النهج من النضال ولكن بوعي أكبر وتكتم أعظم وضمن استراتيجية نضالية متعددة الأوجة وشاملة لمختلف نواحي الحياة .
أنماط النضال الأخرى قد لاتكون عسكرية أو شبه عسكرية ، وقد تكون سياسية أو قانونية أو ثقافية أو إجتماعية .. الخ . وهذا التنوع في أنماط النضال هو الرد المناسب على حالة الاستعمار الإحلالي التي يمارسها الصهيونيون في فلسطين ضد الشعب والتاريخ والتراث الفلسطيني والأرض الفلسطينية . و الأنماط الجديدة من النضال على تنوعها قد تعُطي في مجموعها وفي المحصلة النهائية نتائج ملموسة حيث أنها تخترق الممنوعات والمحظورات والعُقـَدْ النفسية التي غالباً ما حَكَمَتْ الموقف الفلسطيني دون أي فائدة تُذَكَرْ .
الصمود الفلسطيني على الأرض هو نضال وهو الرد على سياسة إفراغ الأرض من أصحابها ، وإحياء التراث الفلسطيني وتكريسه هو نضال وهو الرد على أكذوبة يهودية الدولة ، والإصرار على الثقافة والتعليم هو نضال وهو الرد على المحاولات الاسرائيلية لتجهيل الشعب الفلسطيني وتحويله إلى عمال مياومة ، والحفاظ على التاريخ الفلسطيني وتوثيقه هو نضال وهو الرد على مزاعم الحركة الصهيونية عن حق اليهود التاريخي في فلسطين ، كما أن هنالك مجالات أخرى للنضال مثل عضوية الكنيسيت الإسرائيلي والتي يجب أن لا يتم تجريمها فلسطينياً بإعتبارها اعتـرافاً بالعدو، بل يجب النظر إليها بإعتبارها وسيلةً للنضال ضد سياسة وقوانيـن الإحتلال العنصرية وبالتالي الإنتقال بها من كونهـا منبراً إحتجاجيـاً فقط ، لتصبح وسيلة لخدمة أهداف ومطالب الفلسطينييـن تحت جبروت الحكم الإسرائيلي ، دون أن يعني ذلك أو يؤدي إلى ذوبان الفلسطينيين في المجتمع الاسرائيلي وفقدانهم لشخصيتهم الفلسطينية وتحولهم الى إسرائيليين . فالمواطنة المتكافئة ليست بديلاً عن التحرير ولكنها محطة على الطريق تهدف الى التمكين التدريجي للفلسطينيين .
إن التوجه نحو فك الارتباط الواقعي بين بعض الأنظمة العربية والقضية الفلسطينية ، وإتجاه تلك الأنظمة لإعطاء الأولوية الاستراتيجية لعلاقاتها مع اسرائيل قد جعل من الحتمي على الفلسطينيين البحث عن أُطُرْ جديدة لجذب المزيد من الدعم الإستراتيجي لهم في سعيهم لإستعادة حقوقهم في فلسطين . وإنقاذ القضية الفلسطينية من تنامي علاقة التعاون الاستراتيجي بين معظم الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ، أصبح الآن من مسؤولية الشعب الفلسطيني بعد أن تبرعت القيادة الفلسطينية بالتنازل التاريخي عن معظم فلسطين لصالح إسرائيل في اتفاقات أوسلو وهو أمرٌ كان دائماً خارج نطاق تفويض وصلاحيات أي قيادة فلسطينية مهما كانت . وسعي الشعب الفلسطيني لتغيير هذا الواقع المرير عربياً وفلسطينياً قد يكون ممكنا إما من خلال تخفيض سقف توقعاتهم ، أو من خلال البحث عن وسائل جديدة لتحقيق أهدافهم وبوسائل تُعْتَبر مقبولة من قبل الآخرين وبشكل يسمح بإستقطاب مزيد من الدعم للقضية الفلسطينية .
إن حل الدولة الواحدة في فلسطين كبديل لحل الدولتين قد يكون الأكثر انسجاماً مع المصالح الفلسطينية في الفترة الحالية وضمن المعطيات السائدة ومعادلة القوة بين العرب والفلسطينيين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى . إن إبراز الوجه العنصري للإحتلال قد تكون هي الوسيلة الأهم للوصول إلى ذلك الهدف . وقد يكون في المطالبة بحقوق المواطنة الناجزة والمساواة الكاملة في الحقوق السياسية للفلسطينيين تحت الإحتلال من خلال حل الدولة الواحدة مدخلاً لتحقيق ذلك . وحل الدولة الواحدة يهدف الى تحويل حالة الاحتلال في نظر العالم الى حالة متفاقمة من التمييز العنصري ضد الفلسطينيين والتي لا يستطيع أحد في العالم القبول بها بما في ذلك أمريكا .
* مفكر وسياسي
05 . 03 . 2018