السيمر / الأربعاء 09 . 12 . 2015
عامر محسن / سوريا
حين حدث الإشتباك الروسي ــــ التركي في سماء سوريا، أواخر الشهر الماضي، خرجت الكثير من التحليلات التي تبالغ في تقدير المواجهة المقبلة، فتتنبأ بردّ روسي عسكري، وتعتبر الحرب خياراً جدياً، وتحسم بأنّه، في الحد الأدنى، ستُقطع العلاقات الاقتصادية ويتوقف سيل الغاز بين البلدين. هذه التقديرات لها رواجٌ خاص في صفوف «المتفرجين»، أي الدول الثانوية والشعوب الضعيفة التي تتأثر بهذه الأحداث ولا تؤثّر، ويبني المنظرون والحركات السياسية فيها الآمال، حصراً، على هبوب الرياح الدولية في صالحهم ــــ لسببٍ ما ــــ أو على أن يصطدم صديقهم بعدوّهم، لأنهم لا يملكون خطةً ومشروعاً وقوة ذاتية.
ولأنهم ليسوا ملزمين بالحسابات والتقديرات التي تكبّل عمل الدول «الحقيقية»، ولن يتحمّلوا كلفة هذه الخيارات وتأثيرها المباشر، فهم يستسهلون أن يطلبوا من بلدٍ، مثلاً، قطع العلاقات مع أهم وأكبر جيرانه (من أجلهم)، ويصدّقون أن أنقرة انخرطت في حربهم، وأن قطر ستعوّض لها غاز روسيا، أو يتصوّرون أن أفعال تركيا تنتج عن «حميّة إسلامية» (والبلد، قبل أي شيء آخر، هو ركنٌ أساسي في استراتيجية الـ «ناتو» منذ الخمسينيات، وهذا الدور الوظيفي ثابت على مرّ العهود والانقلابات والانتخابات؛ ولهذا السبب لا يهمّ كثيراً، في السياسة تجاه سوريا والعراق واسرائيل وروسيا، لو أن الإسلاميين هم في الحكم أم غيرهم).
في الواقع، فإنّ تصريحات مسؤولي الطاقة في تركيا وروسيا كانت تدلّ، منذ الساعات الأولى للأزمة، على أنّ امداد الغاز لن يتوقّف، وأن هذه الحادثة ستكون اثباتاً جديدة لفكرة أنّ الاتفاقات الحيوية (كتلك التي تتعلق بالطاقة) لا يجب أن تخضع لتقلّبات السياسة وأزماتها. تركيا لديها اقتصاد «غازي»، وهي تعتمد على هذا المورد بشكلٍ تصاعدي لا يمكن عكسه بيسر، وقد تضاعف استهلاكها أكثر من مرتين بين 2004 و2014، حتى صارت مستهلكاً أوروبياً رئيسياً للغاز الطبيعي، يسبق فرنسا واسبانيا في الاستهلاك (أن تعوّض قطر الإمدادات الروسية، التي تزود تركيا بأكثر من نصف حاجتها، هو مزحة، فلا تركيا لديها المنشآت التي تسمح باستيراد هذه الكميات من الغاز المسال، وهي تحتاج لسنوات من أجل بنائها، ولا قطر قادرة على تسخير أكثر من ربع انتاجها، وأكثره مرتبط بعقود بعيدة الأمد، لتلبية الطلب التركي). في الوقت نفسه، فإن روسيا لا تريد أن تخسر أحد أكبر زبائنها، وهي لا تملك بعد شبكات تصدير بديلة في السوق الآسيوية وسيكلّف فسخ العقود (وهي سارية لعشر سنوات مقبلة) غرامات هائلة على الشركات الروسية. وروسيا، أصلاً، تريد أن تبني لنفسها صورة «المورّد الموثوق»، وهي لا تستعجل قطع الغاز عن أوروبا كلما لاحت أزمة، كما توحي الصحافة الغربية.
غير أنّ العقوبات الروسية قد طالت أكثر الجوانب الأخرى في العلاقة، وتحديداً تلك التي يستفيد منها الاقتصاد التركي. هناك أضرارٌ مباشرة، أهمها في قطاع السياحة والتشغيل، حيث سيخسر عشرات آلاف الأتراك وظائفهم في روسيا، ويضطرون مع عائلاتهم الى ترك البلد. وهناك أضرارٌ بعيدة المدى قد تكون أكبر وأشدّ وقعاً. كان من المفترض أن توقّع موسكو وأنقرة هذا الشهر اتفاقية نهائية لبناء خط غازٍ روسي يجعل من تركيا معبراً رئيسياً لتصدير غاز روسيا الى اوروبا (على غرار خطوط الأنابيب في شرق اوروبا وتلك التي تصل روسيا بألمانيا تحت بحر البلطيق)، فجاء إعلانٌ روسي بوقف المفاوضات حول المشروع. هذه رسالة مباشرة بأن طموح تركيا في أن تصير عقدة مواصلات للطاقة، أقله من الجانب الروسي، قد تمّ تجميده وتأجيله.
بعد يومين من تصريحات أليكسي ميلر، رئيس «غازبروم»، بأن المشروع يقع في نطاق العقوبات الروسية ضد تركيا، خرج الرئيس التركي ليقول بأن تركيا ــــ وليس روسيا ــــ هي من أوقف المفاوضات وأن كلام ميلر هو «كذب». لم تعلن أنقرة بعد عن اجراءات مضادّة في حقّ روسيا، ولكن هذا الإنحدار في الخطاب بين البلدين وفي آفاق العلاقات بينهما هو، تحديداً، أبرز آثار الأزمة، وقد تكون له آثار لسنوات مقبلة. انزاحت الآمال «الأوراسية» من المشهد، وهي مدرسة تقول بأن روسيا دولةٌ «آسيوية» في جوهرها ونطاقها الحيوي، وعليها أن تبحث عن التقارب مع جيرانها الآسيويين، وليس مع اوروبا الغربية (وهي نظرية لها ايضاً مريدون في تركيا، في السياسة والثقافة والأكاديميا، ممن يدعون الى مد الروابط مع روسيا بدلاً من الاتّحاد الأوروبي)، وبدأ الجمهور، في البلدين، باستذكار تراث الحروب بينهما، ومعارك القرم وحصار بليفنا (آخر معركة في البلقان قدّم فيها العثمانيون أداءً متفوّقاً، وقد تمكن عثمان نوري باشا من الصمود في وجه حشد جيوشٍ من بلغاريا وروسيا ورومانيا، ومنع الجيش الروسي من التقدّم السريع صوب اسطنبول وانهاء السلطنة قبل سقوطها الفعلي بنصف قرن).
انتبه الروس الى أن توسّع امبراطوريتهم، تاريخياً، كان عبر دمج خانات تركية آسيوية وحروب توسعية ضد العثمانيين في أوروبا، وأن كبار الفنانين الروس الكلاسيكيين قد تركوا لوحات في تخليد هذه المعارك. هكذا هو التاريخ وأوجهه التي لا تنتهي. هو، من ناحية، كلّ ما نملك كي نحصّل معرفةً عن عالمنا، ومن ناحية أخرى، فهو يسمح لك بالخروج بالخلاصات التي تريدها وتناسب واقعك: يمكنك أن ترسم سرديّة لتاريخٍ صراعي وتنافسٍ محتوم لا ينتهي بين تركيا وروسيا، أو تاريخ من التبادل والتكامل. تركيا تتبدّى، أكثر من أي وقت آخر منذ نهاية الحرب الباردة، كـ «بوابة شرقية» للـ «ناتو» في هذه المنطقة، وضد روسيا تحديداً، مع أنّها قد تكون أكثر من يستحقّ وفاء الجمهورية التركية وودّها حين قام لينين، في أكلح الظروف، بإنقاذ الجمهورية الناشئة خلال حرب الاستقلال، وللحديث بقية.
الأخبار اللبنانية