الرئيسية / مقالات / أسباب ضعف علاقة العرب بالقبور عامة

أسباب ضعف علاقة العرب بالقبور عامة

السيمر / الثلاثاء 13 . 11 . 2018

صالح الطائي

فرضت طبيعة الحياة العربية القاسية على العرب أن لا يهتموا كثيرا ببناء القبور لموتاهم مهما علت منزلتهم وعظم قدرهم، فبالرغم من وقوع شبه جزيرة العرب إلى جوار الخليج الفارسي، وبحر عُمان، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسّط، غير أن مناخها قاس، وهواءها جاف، ومياهها نادرة، باستثناء الأقسام الجنوبية، ورياحها موسمية تعرف بالسموم. وقد تركت الظروف المناخية تأثيرها على أوضاع الناس الفردية والاجتماعية، وكذلك على الحيوانات كما هي الجمال، والنباتات كالقتاد والأراك وغيرها من النباتات الشوكية.
فقط منطقتها الجنوبية التي تضم اليمن كانت تكثر فيها المياه، وتهطل فيها الأمطار بانتظام؛ ولهذا السبب كانت منطقة زراعية مزدهرة، قطنتها أعداد غفيرة من السكان. الذين اتخذوها موطنا دائما للسكنى، فنشأت فيها القرى والمدن. ثم أن اجتماع الناس في تلك القرى والمدن أدى إلى ظهور دول مهمة مثل:
1ـ الدولة المعينية: حكمت هذه الدولة من عام 1400 الى 850 قبل الميلاد، وانقرضت بظهور الدولة السبئية.
2ـ دولة حضرموت: استمرت هذه الدولة منذ عام 1020 قبل الميلاد الى عام 65 بعد الميلاد، وزالت مع تسلط سبأ.
3ـ الدولة السبئية: استمر سلطانها منذ عام 850 الى 115 قبل الميلاد، وانقرضت عند قيام دولة حمير وسبأ وريدان.
4ـ دولة قتبان: حكمت من عام 865 الى 540 قبل الميلاد وانقرضت على اثر استيلاء دولة سبأ عليها.
5ـ دولة سبأ وريدان وحضرموت واطراف اليمن، وكان يسمى ملوكها “تُبّع”، واستمر حكمها من عام 115 قبل الميلاد إلى عام 523 بعد الميلاد، وكانت عاصمتها ظفار .
هذه الدول أسهمت في تطور الفكر في هذه المنطقة، وفي تغيير السلوكيات عنها في باقي الجزيرة، تطور الفكر من جانبه أسهم في تطور الذائقة الفردية والجمعية لدى سكانها، ولذا بدأ الاهتمام بالبنيان ومنه بناء القصور؛ التي وصف المؤرخ اليوناني “هيرودوتس” (القرن الخامس قبل الميلاد) قصورها ولاسيما قصور سبأ بأنها: قصور نضرة ذات أبواب مسجدية مرصّعة بأنواع الجواهر، وفيها أواني من الفضة والذهب وأسرّة مصنوعة من معادن ثمينة. وسبأ هذه نزل فيها قوله تعالى: {مكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
والتي نزل في سدها الذي انهار بعد أن كان عماد حياتها، قوله تعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . وقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَة وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} .
وتحدث مؤرخون آخرون منهم الرحالة الروماني الشهير “سترابون” عن مساكن عامرة وقصور فاخرة مثل قصر غُمدان في صنعاء؛ الذي كان يتألّف من عشرين طبقة بعشرين.
ومن العرب، تحدث المسعودي (ت: 346هـ)، وابن رُستة (من علماء القرن الثالث للهجرة) عن حياة الرخاء والازدهار التي كان ينعم بها أهالي هذه البلاد، وما انتشر فيها من العمران قبل ظهور الإسلام. حيث كانت ربوع عدن، وصنعاء، ومأرب، وحضرموت، على درجة عالية من الرقي،بحيث كانت تضاهي الحضارة الفينيقية والبابلية. ومن المظاهر البارزة لحضارة اليمن الكبرى سد مأرب التاريخي العظيم، الذي كان من عوامل ازدهار الزراعة.
أدى هذا التطور إلى خلق طبقة من التجار الكبار، الذين امتدت تجارتهم بين الشرق والغرب، حيث كانوا يجلبون المواد من الهند عبر البحر الهندي، وينقلونها إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب ومكة، التي كان أهلها ينقلون ما يشترونه من تجار اليمن إلى بلاد الشام. وربما يكون حال الاستقرار في هذه المنطقة هو الدافع وراء اهتمامهم بالمقابر والقبور على خلاف باقي أقسام الجزيرة العربية، حيث كانت قبورهم تمتاز بالبناء والزخرفة مقابل إهمال تام للمقابر في باقي الجزيرة.
لكن المعروف أن الكثير من القبائل اليمنية نزحت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، حيث سارت قبيلتا الأوس والخزرج إلى يثرب (المدينة المنورة)، بينما توجهت خزاعة الى مكة وما جاورها، وتوجهت تنوخ من قبيلة الأزد إلى الحيرة بالعراق، وتوجه آل جفنة إلى الشام، وذهبت قبائل بجيلة وخثعم وجماعات أخرى إلى منطقة السراة، وقطنوا هناك، فهل نقلت هذه القبائل تجربتها إلى المناطق الجديدة التي اتخذتها مواطن، ولاسيما أن تنوخ الأزدية أسسوا في موطنهم الجديد دولة اللخميين، وأن آل جفنة الغساسنة، أسسوا بالشام لهم دولة في المنطقة المسماة شرق الأردن؟
الملاحظ أن القبائل اليمنية التي كانت متحضرة نوعا ما لم تتجه إلى القسم الشمالي من الجزيرة العربية، الذي كان يفتقد لأية صبغة حضارية ومدنية، وإنما كان الناس فيه من البدو الرحّل، ولم تكن لمدنه أهمية تذكر عدا مدينة مكة نظرا لمركزها الديني، بل إن أهل الحجاز بقوا على بداوتهم لجدب أرضها وجفاف تربتها وبعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضرة، لتوسطها في الصحراء ولوعورة المسالك إليها، وبالتالي ترك اليمنيون أثرهم على المناطق التي حلوا فيها، ولم يكن لهم أي أثر يذكر على باقي الجزيرة التي احتفظت بعاداتها وطريقة حياتها وعيشها البدوي القائم على الرعي والترحال، ومساكن عبارة عن خيام من شعر الماعز ووبر الإبل. ولذا ترى أهلها يزدرون الزراعة والصناعة والتجارة وغيرهما من وجوه الحرف، ويحسبونها مما يحط من قدر الإنسان. وعليه تجد في البدوي أثرا واضحا من حياة بيئته، يتجلى في تكوينه الجسمي والعقلي وطريقة تفكيره ومعتقداته. فضلا عن ذلك كان لتحرر البدوي من قيود الحكومة والنظام والقوانين، أثرا في جعله يرفض الانصياع لأي سلطة، حتى لو كانت سلطة دينية، وربما لهذا السبب وصفهم النص القرآني بأنهم (أشد كفرا ونفاقا) كما في قوله تعالى: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا……}، وفق هذا النسق التصاعدي كانت سلوكياتهم تتواءم مع طبيعتهم وجغرافيتهم، ولذا لم يكن الإنسان العربي الجاهلي يحمل مشاعر ودية للناس الآخرين خارج إطار قبيلته، ولم تكن هذه العلاقة تتعدى أفراد الأسرة والعشيرة. وحتى هذه المشاعر كانت تزول في اللحظة التي يموت فيها الإنسان، من هنا كانوا يرون أنه لا داعٍ للاهتمام بقبر الميت، أو مجرد تذكره، ولاسيما وأن الموت كان يقع لأسباب تافهة، تدفعهم إلى الصراع والتناحر، كأن يكون تنافسا على أرض رعي أو مورد ماء، أو بسبب سرقة أو سباق خيل أو أي خلاف بسيط آخر، لأن عوائد التوحش وأسبابه كانت مستحكمة فيهم
فطبيعتهم كانت قائمة على انتهاب ما في ايدي الناس ورزقهم وأسباب معيشتهم كانت تزدهر في ظلال رماحهم، وكل ما لدى الآخرين كان مباحا لهم، بل كلما امتدت اعينهم الى مال أو متاعٍ أو ماعون انتهبوه . فيغيرون ويأخذون جمال الآخر ويسبون نساءه وأولاده، فتتربص بهم القبيلة الأخرى فتفعل بهم ما فعلوا حالما تأتيها الفرصة السانحة.
لهذه الأسباب ولأسباب أخرى، كانت علاقة العربي بالقبر وبالمقبور شبه معدومة، فالمقبور متى ما وضع تحت التراب، يدرس قبره، وتذروا الرياح أثره، فلا يعد له وجود، وقد يقبرونه وينتقلون عنه إلى مكان آخر، فيصبح خارج اهتماماتهم بل حتى خارج ذكرياتهم.
وحينما جاء الإسلام، أعاد الروح إلى هذه العلاقة، ولاسيما في طوره المدني، حيث عمل على تغيير الرؤية الموروثة التي تنطوي على إجحاف كبير للمتوفى، وحينما توفي عثمان بن مظعون، وهو أول من توفي في المدينة المنورة من المهاجرين، اتخذ رسول الله(ص) بقعة من الأرض لتكون مقبرة، ودفنه فيها، ووضع النبي(ص) عند رأسه حجارة تدل على مكان القبر، وقال: “هذا فرطنا”. والبقيع في اللغة: الموضع الذي فيه أُرم الشجر من ضروب شتى، وبه سمي بقيع الغرقد. والغرقد: كبار العوسج وهو نبات شكي، فلذا سُمّي مكان المقبرة ببقيع الغرقد، لأن هذا النوع من الشجر كان كثيراً فيه، ولكنه قطع لفسح مواضع وأماكن للدفن. وعن سبب اختيار هذه البقة، قال الدكتور محمد البكري أحد المشاركين في تأليف كتاب “بقيع الغرقد”: “إن النبي، خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثا عن مكان يدفن فيه أصحابه، حتى جاء البقيع، وقال: أمرتُ بهذا الموضع، وكان شجر الغرقد كثيرا، فسميت به”.
وبدأ المسلمون يدفنون موتاهم بالبقيع، حتى قيل: إن أكثر من ألفي صحابي دفنوا فيه، لكن ذلك كله، وكل ما فعله الإسلام، لم يمح من ذاكرة العربي تلك العلاقة الهجينة بينه وبين القبر، ولذا تجدهم في تاريخ لاحق، ليس بعيدا عن صدر الإسلام، قد نجحوا في فرض رؤاهم الموروثة على التجديد، وغلبوها على فكره، فتحول القبر الذي كان شبه مقدس عند الحضر والمسلمين الملتزمين، إلى أثر من آثار الجاهلية لا وزن له ولا قدسية، ولاسيما بعد أن كثرت حروب الفتوح، وكثر الموت معها طرديا، حيث أدت بعض المعارك إلى هلاك آلاف الجنود المسلمين سواء بفعل الأعداء أو بفعل الطبيعة القاسية، حيث كانت البقية الباقية تنسحب من أرض المعركة تاركة القتلى على حالهم، وأدى تكرار هذه الحالة إلى ولادة شعور، أو بالأحرى أيقض شعور اللامبالاة في نفوسهم، فعاد القبر مجرد حفرة يوارى فيها الأموات دون أن يلتفتوا إليها!.
ولكن بالرغم من هذا التبدل، نجحت بعض المناطق وبعض الجماعات الإسلامية دون سواها في الحفاظ على ما استلهموه من الإسلام عن وجوب دفن الميت، ووضع العلامات على القبور واحترامها مستندين إلى ما جاء في الأثر من أن النبي(ص) أمر المسلمين بخلع أحذيتهم حينما يدخلون إلى المقابر، كما في حديث بشير بن معبد المعروف بابن الخصاصية، في قوله: “بينما أنا أماشي رسول الله (ص)، مر بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا ثلاثا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا، وحانت من رسول الله نظرة، فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله خلعهما فرمى بهما”. وكما في نهيه(ص) عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه، احتراما للأموات أن يوطأ بالنعال فوق رؤوسهم. وفضلا عن ذلك نهى عن التغوط بين القبور. وأمر باحترام الميت في قبرة بمثل احترام منزلة في داره، فحرمة الإنسان بعد موته باقية ، كحرمته وهو حي ، فلا يجوز الاعتداء عليه ولا إهانته ولا العبث بجسده، وقد نقل عن النبي(ص) قوله: “كسر عظم الميت ككسره حيا”. وقد جاء هذا الخلاف بين الفرق الإسلامية بسبب المسائل الكلامية التي بدأت تثار في العصر الأموي تحديدا، والتي أدت إلى ولادة مسائل فقهية متعارضة إلى أقصى الحدود؛ بين من يؤمن بحرمة القبور واحترامها وزيارتها، وبين من يعتبر ذلك شركا وكفرا.
من هنا تجدني أميل كثيرا إلى رأي المستشرق المثير للجدل “جولدتسيهر”، الوارد في كتابه “العقيدة والشريعة في الإسلام” ص70، الذي يقول فيه: “كان من نتائج الأحوال السياسية والفعل المحرك الشديد للاحتكاكات الخارجية أن أنصار الإسلام الأوائل اضطروا بحكم عدم ميلهم إلى التدقيقات العقيدية إلى أن يتخذوا منذ بادئ الأمر موقفا في المسائل التي لم يعطنا القرآن عنها جوابا محددا مؤكدا والملاحظة أن النظام السياسي الداخلي قد أثار خلافا جدليا عقيديا وكان الانقلاب الأموي أول الفرص التي سنحت في الإسلام لإثارة مسائل كلامية”.
وبالتالي يبدو من مخرجات بحثنا البسيط هذا أن الأمة الإسلامية، تعيش اليوم على فتات ما وصلها من أخبار الأقدمين وآرائهم المتناقضة وأحكامهم الغريبة عن بعضها وفقههم المغرق بالخصوصيات والفردانية، والبعيد كثيرا عن روح الإسلام، وتمنع نفسها من الخوض في الأسباب والمسببات أو البحث عن الحقيقة بين ركام تلك الأحكام، فاستسهلت بعض الفرق وصم أتباع الفرق الأخرى بالكفر والشرك لمجرد أنهم يحترمون القبور، حتى دون أن يتعبوا أنفسهم في البحث عن تسويغٍ لهذا التكفير الغريب.

اترك تعليقاً