السيمر / السبت 22 . 12 . 2018
هاتف بشبوش
أقول انّ القصيدة العمودية الأصلية هي القصيدة الجاهلية وقصيدة المعلقات. فكلها كانت بلا وزن وبلا بحور ولذلك هي أجمل من قصيدة الفراهيدي وأجمل من جميع ما كتبه شعراء العمود على مر التاريخ ولغاية اليوم ولذلك ظلت خالدة نحفظها عن ظهر قلب لأنها كانت تمتلك المساحة الأفضل دون قيد الوزن وقوالبه الرسمية .
ومما دعاني أيضا على أن أكتب عن هذا الموضوع هو إستماعي الى محمود درويش في مقابلة تلفزيونية وإتهامه من قبل الجمهور ولجنة التحكيم بجهله بالأوزان والبحور لكنه تحداهم في ذلك الوقت . فتصور محمود بعظمته اتهم بفقدان قصائده للوزن فمابالك بالشعراء الكومبارس وصغار القوم و كل من هب ودب وادعى أنه شاعر فراهيدي . لكنّ محمود درويش لم يستمر بها فركلها بعيداً وكتب التفعيلة والحرة والنثر . ومن حينها غادرها إحتراما لنفسه من الكذب وإحترام مهنة الأدب الإنسانية والقضية الفلسطينية ، لأن العمودية تتطلب منه الإعتناء الفارغ والدقة في رموز العروض الكتابية لكل شطر وعجز يعني كلمتين مثلاً (كَمْ = /ه) (كَاْنَ = /ه/) (كَتَبَ = ///) وغيرها فما بالك القصائد الطوال. وبالرغم مما يقال من أنّ الشعر صناعة وتتطلب الإشتغال الكثير وهذا ليس عيبا أو منقصة وأتفق مع هذا، لكني بصدد مافعله الفراهيدي هو تعقيد العمودية الجاهلية التي كانت تكتب ارتجالاً ولذلك كانت في غاية المتعة والجمال والإتيان الآني المكتمل وجاء الفراهيدي فجعل الأمر أكثر تعقيدا . أضف الى ذلك من انّ الشعر صنعة وبناء نعم ، ولكن هناك فرق بين أن تبني بالطرق الحديثة في العمران عن طريق شد القوالب الجاهزة والعمل منها بنايات شاهقات في وقت سريع وأقوى متانة وجمال من البناء التقليدي الذي يتم على الطريقة الكلاسيكية من قبل عامل البناء البسيط .
واليوم لايمكن لأي شاعر عراقي عمودي إبتداءً من يحيى السماوي وعبد الستار نور ومحمد آل ياسين الى غيرهم في أن يقول قصيدة فراهيدية ارتجالا وموزونة في ذات الحال ، لكنه بإمكانه أن يأتي بعمودية جاهلية ، وهنا يكمن التعقيد ، لأن العرب معقدون وبقوا هكذا في الوقت الذي يسير فيه العالم نحو الحداثة والبساطة حيث انّ جائزة نوبل للعام الماضي أعطيت لشاعر غنائي ومطربٍ في نفس الوقت( بوب ديلاين) ، لأن العالم إتجه الى البساطة وبات يمقت التعقيد الغير مبرر في صناعة النص . كما وأن باراك أوباما في حفل تنصيبه لرئاسة أمريكا إستعان بشاعرٍ نثري ومثلي وقد القى قصيدة إحتقر بها العرب جميعا ولم يذكرهم من انهم أمة من الأمم . هذاهو حالنا لأننا الأمة الوحيدة التي مازالت حين تسير الى أمام تلتفت الى الوراء كما الغزالة الشاردة من الأسد والتي تقدر سرعتها بأربعة أضعاف سرعة الأسد لكنها بسبب خوفها والتفاتها الى الوراء في كل لحظة ترى الأسد يلحق بها ويفترسها ولذلك نحن مُفترّسين من قبل أضعف الضعفاء دائما وعلى طول الأزمان وفي شتى المجالات حتى في الشعر والغناء اللذين دخلا مدرسة الحداثة منذ عقود وعقود.
ولذلك نعود ونقول من أنّ العمودية الجاهلية، أكثر بلاغة من قصيدة الفراهيدي وتعطي الشاعرالأريحية الهائلة والتي من خلالها لا يجد أي عقبة غير الكلمات المقفاة وهذه بحد ذاتها تخلق أيضاً البوح الكاذب لدى الشاعر في كلا القصيدتين الجاهلية والفراهيدية، لأنه ملزم أن يأتي بكلمات ذات روي واحد كما يفعلها الكثيرون بتسطير الكلمات المقفاة أولاً ثم كتابة النص وبنائه لاحقاً ، فتصور أي قصيدة هذه التي تبدأ ببوحٍ كلماتيٍ كاذب لمجرد أن تأتي بكلمات مقفاه في آخر العجز وينتهي كل شيء. ومهما يكن من أمر فالجاهلية تبقى هي الأكثر متعة ووقعا على القلب والذاكرة .
كما وانني أرى من انّ القصيدة العمودية تخلق الثقافة البوقية السائدة التي إنتشرت بين بعض المثقفين اليوم والتي تكرّس الى الإبقاء على الثقافة البدوية والدينية التي هي سبب دمارنا ، حيث نرى الكثير من الشعراء الذين يدعون الضدية للسلطة الدينية لكنهم في نفس الوقت يمدحون رموز الدين في أشعارهم حتى صار كل من هب ودب يكتب نصا عن الأولياء ليتفاخر من أنه القادر على كتابة هكذا نصوص هزيلة باتت سمجة خالية من أي معنى . أضف الى ذلك من أنهم يمارسون نفس الطقوس التي يقوم بها رجل السلطة السارق والقاتل ، تلك الطقوس المتمثلة باللطم وهشيم القيمة ، حتى يخيل لي من أنّ هذا المثقف هو الآخر سارق ومخادع لو أنيطت له سلطة صغيرة يتحكم بها على الآخرين ، لأنه مازال يقلد الطقوس التي يقوم بها رجل السلطة فهو مؤازر له في كل سرقاته دون أن يدري أو يدري ولم يشأ التمرد خوفاً من خزعبلات الدين ففضل البقاء بجهله على التمرد خلافاً لما قام به ذات يوم المثقف الفرنسي المتمثل بشخصية فيكتور هيجو الفرنسي العظيم قبل مئة وسبعين عام حين تمرّد على الكنيسة ورجالها حتى أصبحت صرخته المدوية ضد الدين وكيف قرأنا عن رمي الأحدب للراهب من أعلى برج كنيسة نوتردام وكيف أصبح رمزا للتخلص من رجال الدين وسلطة الدين والى الأبد ، حتى أصبحت كنيسة نوتردام اليوم مزاراً اللملايين . وكذلك ثار فيكتور هيجو على السائد الممل في القافية والروي الواحد وقال ( سأرمي بالنظم النبيل الى كلاب النثر) فهنا كم كان هيجو منزعجا من القافية بحيث يرميها الى كلاب النثر وليس الى إنسان النثر ، فراح ينتهج الحداثة التي إشتملت كل شيء فليس هناك تبعيض في معنى الحداثة حتى وصلت فرنسا الى ماهي عليه الآن . فلابد من التفكير من انّ الحداثة تشمل كل الجوانب وليس حصرا على الشعر ، فمن غير المعقول أن نبني جسرا على طراز قبل الف عام ونحن في القرن الحادي والعشرين . ومن غير المعقول أن نعود نكتب بالحبر والداة ولدينا أحدث الوسائل لذلك ، وهذا ساري المفعول لجميع الفنون الشعرية والموسيقية والتشكيلية . ومن هنا إنطلق هيجو الى عالم الإبداع الحر الذي أوصله الى الشهرة العالمية المعروفة لشخصه كفيكتور هيجو ولفرنسا بأجمعها وللأدب الفرنسي بشكل عام. ولذلك نرى اليوم الفرق الكبير بين فرنسا الحضارة والمدنية وبين حال العرب المتخلّف والبدوي العنيف والقاتل لأن المثقف العربي نفسه لايستطيع الخروج من معطف البداوة والبوقية فكيف الإنسان البسيط معرفيا وفكرياً ، كما قالها يوما نزار قباني في قصيدته مرحبا ياعراق ( اذا كان المفكرُ بوقاً ..يتساوى عندها الفكرُ والحذاءُ ) . ولذلك نرى اليوم المثقف العراقي يتصرف تصرفا غرائبيا عجيبا يجعله الأكثر تخلفا على مدى قرون وقرون . يتصرف بما يمليه عليه الأغبياء والساذجون في كل طقوسهم التي لاترتقي الى الإنسانية المتحضرة ، والتي تعطيك انطباعا من أن هذا الشخص يرتدي أكثر من قناعٍ وقناع ، بينما نراه يدعي المدنية والتحضر والثقافة و يسب ويحط من شأن العمائم لكنه يسير في دروبهم على قدم وساق في المحافل الأخرى. يمدح الأولياء وشرائعهم وفتاواهم ، يجاريهم في كل طقوسهم دينياً وعشائرياً وتقليدياً لكنه يحرّض ضدهم في الإنتخابات . أليس من المفروض والأولى به أن يكون منهم قلبا وقالبا لكي نعرف من هو وما هي هويته كي ننتهي من تصدع رؤوسنا بتفاهاته. وللأسف أيضا هناك بعض المثقفين لهم طبع مجاراة القرود في تقليد السائد من الأعراف وما أكثرها التي أغرقت العراق وأرست به الى هذا الدمار الهائل في روح الثقافة العراقية ، التي أنجبت على مدار خمسة عشر عاما بعد إجرام البعث ، حكومة تدعي التديّن ومثقف لايعرف ماهي السكة الحقيقية التي يسير عليها كي ينقذ نفسه من السائد التقليدي والثقافة القطيعية التي أبقت على المجتمع العراقي أن يكون بهذا المستوى الرهيب من النكوص والتراجع .
* شاعر وناقد عراقي / دنمارك