السيمر / الاحد 23 . 12 . 2018
رواء الجصاني
مع طول فترة الاغتراب، يشتد الاستذكار، ويسخن الحنين لمرابع الطفولة والصبا والشباب وما يلحق بذلك من فترات زمنية .. هكذا يتخيل، بل ويعيش صاحبنا المتغرب/ المنفي/ المهاجر لبلاد التشيك منذ اربعين عاما بالتمام والكمال، وما برح مستوطناً فيها مردداً ” أنا في عزٍ هنا غير في قلبي ينـزّ جرحُ الشريدِ” بحسب الجواهري الخالد، عن براغ ذاتها..
ومهما قيل ويقال عن تعريفات للوطن، والأغتراب حتى فيه احيانا، تفيض الذكريات لمن له ذاكرة نشطة – وتلكم منقصة يحسبها صاحبنا- وكم كرر انه يحسد الآخرين ممن لا يبالون، ولا يجمعون الشوارد، ولا حتى الراسخات، ويعيشون دون شؤون الماضي، والمستقبل، كما الحاضر ..
هنا، في هذا القسم الرابع والاخير، حديث أخير لبعض جولات صاحبنا في ربوع بلاد الرافدين، وتحديدا عن مسكيّ ختام، وليس واحدا، كما ستأتي به الفقرات اللاحقة.. أما الاسباب فهي مبيّنة ايضا في التفاصيل:
13/ حديث النجف
بعد ان وثقَ ما وثق – صاحبنا- من زيارات عمل وسياحة ونشاط سياسي وغيرها، في مدن العراق، شمالا وجنوبا ووسطا وغربا وشرقا، ها هو يصل الى مسك الختام، الأول، فيتذكر عن مدينة الاعمام والاخوال، وحولها، ويعني النجف الاشرف، ويظن بأنها في غنىً عن وصف او تعريف !.
وبرغم انه لم يعش مددا طويلة في المدينة – الأشرف كما يوصفها المحبون- الا ان زياراته مع الاهل، أو منفردا، للنجف (وحوالها، ومنها الكوفة والسهلة) راحت كثيرة وفي مراحل زمنية كانت عديدة: طفولة، وفتوة وشبابا، ولكل مرحلة منها مذاقها وذكرياتها، وناسها … وقد كان المستقر الاول، والاهم، لصاحبنا في مدينة الحسب والنسب، هو محلة “باب الطوسي” المجاور لمرقد إمام المتقين، حيث بيت جده لوالدته: العلامة الشيخ عبد الحسين بن عبد علي، الجواهري (حفيد اية الله صاحب الجواهر). اما “الحويش” فهي محلة جدّ صاحبنا لأبيه: الفقيه السيد إبراهيم بن علي، الحسيني، العريضي (الجصاني) وهي لا تبعد كثيرا عن الحضرة العلوية… ولعل من المفيد كما يرى صاحبنا الأشارة الى ان كلاً من اسرتي الاعمام والاخوال قد تصاهرت وتشابكت عروقها مع عوائل نجفية كريمة اخرى عديدة مثل: السادة آل زيني، وأل الرفيعي، وأل كاشف الغطاء.. وغيرها كثير.
لقد كانت متعة زيارات النجف، والأقامة فيها تتنوع بين حبور اللقاءات بين الاهل، وبهجة الطقوس، واجواء التقاليد والاعراف، ومذاقات الضيافات الخاصة والعامة،وسواها عديد… ثم، حين تعذرت على صاحبنا – في السنوات اللاحقة- زيارة النجف الباهرة في الادب والفقه والعلم، والاسماء والشخصيات، بقيت المشاعر والمتابعات والذكريات تعيش معه في العائلة والبيت، وخارجه، داخل البلاد وبعيداً عنها، لا سيما وهو قد حرص – ويحرص- على ديمومة تلكم الحال مع جمهرة الاقارب، فضلا عن الاصدقاء والاحبة النجفيين (ابناء الولاية!) ويتذكر منهم بأعتزاز: الشهيد الباسل نزار ناجي يوسف(ابو ليلى) والفقيد الجليل، محمد حسين الاعرجي، وحسين محمد سعيد وحسين صالح معلة وجبار عبد الرضا سعيد وزهير الجزائري وسناء الطالقاني، وعباس سميسم، وعبد الحسين شعبان وعبد الرزاق الحكيم وعدنان الاعسم وقيس الصراف ومحمد عنوز وهلال كاظم … وويح للذاكرة التي لم تسعف بمزيد من الاسماء !..
14/ والمسكُ في بغداد
وُلـد صاحبنا في الكوت كما مرّ ذكر ذلك. اما حسبه ونسبه، فهما في النجف كما جاءت به السطور السابقات… وقدعمل وساح ونشط في عشرات المدن والبلدات، ولكنه يَحسبُ نفسه بغدادياً أصيلاً، اذ عاش فيها نحو ثلاثـة عقود: طفلا وصبيا وفتى وشابا، وحتى تحتم عليه الرحيل الى براغ: مغتربا/ منفيا/ مهاجرا / مستوطنا، أواخرعام 1978 والى اليوم ..
وهو – اي صاحبنا- حين يزعم بأصالة بغداديته فله بالتأكيد مايرسخ ذلك. بل ويزيد. فيدعي انه لم يقمْ في وسط بغداد وحواليّه فحسب، بل وطاف في ضواحيها القريبة والبعيدة ايضا. فقد كان سكن الاسرة في الاعظمية خلال الخمسينات الماضية، وفي كرادة مريم اواسط الستينات، ثم بعد ذلك في داوودي المنصور. كما قضى الاشهر الاولى من خدمته العسكرية الألزامية في شمالي العاصمة، وفي معسكر التاجي تحديدا، ليعمل بعد ذلك مهندساُ تطبيقيا في مركز مؤسسة التربة واستصلاح الاراضي بابي غريب، ثم تنقل في مشاريعها بارجاء البلاد ومنها في ضواحي بغداد: في اللطيفية (ومعه زملاء احباء يذكر من بينهم: حازم حاوا ونوري شغيث المالكي) وفي مشروع الوحدة الزراعي (مع حسون قاسم زنكنة) دعوا عنكم ان تخرجه كان من معهد الهندسة العالي في الزعفرانية (مباني جامعة الحكمة سابقا)..وهكذا تتعدد المحلات والمناطق دون حصر.
اما نشاطه الطلابي (الديمقراطي) والسياسي (الحزبي) وكذلك الاجتماعي، فتنوع هو الأخر في مختلف ارجاء بغداد (دارة المجد، بحسب الجواهري) بأبعادها الاربعة .. مرة في مدينة الثورة، واخرى في سلمان باك، وثالثة في الكاظمية (مع عبد الأئمة سالم محمد) كما في البياع والدورة، والمنصور (مع ليث الحمداني) والوزيرية، والحرية والطوبجي (مع ابراهيم خلف المشهداني) وأبي نؤاس والبتاوين (مع نجاة مصطفى) وشارع الكفاح والفضل (مع عدنان عبد الكريم) والكرادة الشرقية، والصليخ (مع سمير خلف الدليمي) .. وغيرها وغيرها. وهكذا يتباهى – صاحبنا- ببغداديته، وببغداد التي أضطر للأبتعاد عنها أزيد من اثنين وثلاثين عاما بقليل، ليعودها زائرا اسابيع محدودة عام 2010 ثم عام 2012. وكم سعى – ويطمح – للمزيد من مثل تلكم الزيارات، ولكن : هل كل ما يتمنى المرء يدركه؟ فلنعلّله بـ (ليت وربما وعسى) !.