الرئيسية / ثقافة وادب / مصطفى جمال الدين منارة شعر وتأريخ أمة

مصطفى جمال الدين منارة شعر وتأريخ أمة

السيمر / فيينا / الاثنين 18 . 03 . 2019

عبد الجبار نوري

الدكتور مصطفى جمال الدين العلامة الشاعر والمفكر الفقيه أشتهرعربياً ودولياً وأصبح نجماً عراقياً بعد أشتراكه في المهرجان الكبير بمؤتمر الأدباء العرب الذي عُقد في بغداد عام 1969 بقصيدته المثيرة الرائعة :

لملم جراحك وأعصف أيها الثأرُ/ما بعد عار حزيران عارُ .

وخل عنك هدير الحق في أذنٍ /ما عاد فيها سوى النابال هدارُ

وخض لهيب وغى لابدّ جاحمها /يوما فأن بريق السلم غرارُ

والقدسُ عارٌ طعمنا منهُ دجلتنا / مُراً ومجتْ في النيلِ أثمارُ

 لقد كونتُ نبذةً عنه مستقاة من سيرته التي كتبها بنفسه في مقدمة الديوان ص9-41 دار المؤرخ العربي بيروت 1995 ، ولد الشاعر في قرية (المؤمنين ) من ريف سوق الشيوخ سوق النخيل سوق الماء والوجه الحسن في 5-11-1927 ، تخرج من كلية الفقه في النجف 1962 ، وحصل على شهادة الماجستير وسجل على رسالة الدكتوراه في كلية دار العلوم في القاهرة ولكنه لم يكملها فعاد إلى جامعة بغداد كلية الآداب ليحصل على شهادة الدكتوراه ، ترك العراق مضطراً في العام 1981 هربا من غربته الداخلية متنقلا لغربته الخارجية بين لندن والكويت حتى أستقر في دمشق التي توفى فيها ودفن في مقبرة الغرباء في الشام جنب الشاعر الكبير الجواهري ، من مؤلفاته المشهورة كتابه ( الأيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة ) وناهيك عن ديوانه (الديوان )المتميز والمشهور الذي يحوي على أجمل قصائده في وصف الطبيعة وحنين الوطن وآلام ووجع الغربة ، رسالة القياس للماجستير ، البحث النحوي عند الأصوليين/أطروحة دكتوراه ، محنة الأهوار والصمت العربي / كتاب ، فكانت خلجاتها وأحاسيسها الأنسانية عاملا مهما في أبرازأسم مصطفى جمال الدين ذو الفكر المنفتح في مجتمع النجف المغلق ، وأسهم بقوّة في محاولات التجديد ، لقد تمحورت جهوده مع عدد من الدعاة لنهج التجديد منذ عام 1958 بزرع نواة التغيير في المناهج الفقهية الدينية ( الحوزوية) كانت لهُ آراء مقبولة وجيدة في شعر التفعيلة والحداثة في الشعر العربي ، كقوله في مقدمة الديوان ص69 { الحداثة والتجديد لا يمكن أن تبنى على فراغ ، فمقدار ما يكون التحديث مطلوبا فأن مراعاة ثوابت الشعر العربي في اللغة والأسلوب والموسيقى مطلوبة أيضاً ، ولا يمكن لمجرد عربي أن يتجاهل ذلك ، وألا فهو يكتب لعرب لم يوجدوا بعد } .

وقال في التجديد :

هذه المناهج أطمارٌ مهلهلة / مرّتْ على زمانها الأحداث والعصرُ.

وسوف يأتي زمانٌ لاترون بها/ ألا خيوطاً لهمس الريح تنتشرُ

لذا يمكن وضع جمال الدين في المدرسة التجديدية حين تجمعهُ بشاعر العرب الأكبر “محمد مهدي الجواهري ” ومعهما عمر أبو ريشه ، وبدوي الجبل ، وعبدالله البردوني ، وأحمد الوائلي ، تلك المدرسة عُرفت بالأصلاح الواسع والتجديد على الشعر القديم والنهل من معينه والتي أفرغت روح العصر في القصيدة السياسية ، السيد جمال الدين جمع الأصالة والجدة والأفكار التجديدية في بودقة واحدة فهو علامة وشاعر وفقيه خدم الفكر والأدب والعلم ، في جدلياته الفقهية مع الجهات الدينية لتطوير المناهج ، وكذلك موقفهُ الصلب من النظام في العراق موضحا ذلك في شعره في مزج بين الصورالشعرية والوطنية في ظروف عام 1991 أذبان الأنتفاضة الشعبانية فهو وظّف الكثير من شعره  وساهم بما هو خير للعراق وشعب العراق ، فهو واحد من العظماء الذين تنبض قلوبهم بحب العراق بعيدا عن المصالح النفعية لأغراض المناصب والمصالح ، فهو لم يستعمل شعره في الكسب ولم يمدح حاكما عراقيا أوعربيا على الأطلاق ، فهو يفتخر بهذه الصفة في مقدمة ديوانه .

عند توسعي في دراسة حياة مصطفى جمال الدين وجدتُ شهادة للشاعر ” فالح الحجية في كتابه الأدب والفن : أن مصطفى جمال الدين عملاق الشعر النجفي الحديث ، وفي أحد مقولاته أنهُ لم يتكسب بالشعر قوله والكلام لمصطفى جمال الدين { عاشرتُ حكام وملوك العراق ورؤساءه المتنفذين منه —- فلم أمدح أحدا منهم} ،  فالسيد جمال الدين شغف بالشعرألى جانب دراسته الحوزوية دفعته للتعرف على منجزات شعراء أقرانه المعاصرين في العراق أمثال الجواهري والبياتي ونازك الملائكة ، أنه لم ينتمي إلى أي حزب سياسي ولو أنه حوزوي النشأة ونجفي الفقه ألا أن أفكاره ورؤاه عابرة على الطائفية والأثنية والمناطقية .

وعند مطالعتي لمدوناته وأشعاره توضّح لي بأن السيد من جيل جمعية منتدى النشر ومجمعها الثقافي التي تأسست 1354 هج-1935 م ورواد مؤسسها الشيخ محمد رضا المظفر والسيد محمد تقي الحكيم والسيد موسى بحر العلوم وهؤلاء هم دعاة التجديد الذين سعوا بجهود مضنية لأختراق حواجز الفقه النجفي ، ويمكن القول بأن فضل التجديد يعود للجيلين : جيل المظفر وجيل السيد جمال الدين ، وقال عنه المفكر حسن العلوي : أن مصطفى جمال الدين فقيه أكاديمي وشاعر ومصلح تجديدي وظّف جهوده في تأسيس كلية الفقه في النجف وكلية أصول الدين في بغداد .

لقد وظّف ولاءه المطلق للعراق فقط وهو يقول :

وطيبُ نسيمك الساجي /عتابٌ تهدهدهُ على أملٍ وعودُ

أحبك بل أحبُ خشوع نفسي / ببابك حين أحلمُ بيعودُ

وأعشق فيك آهة كل قلبٍ /لهُ بين الثرى غزلٌ فقيدُ

تتميز أشعارهُ بنبضٍ من الحياة وأحزان الغربة وتورف بكل ما هو جميل ويقول في قصيدة  لهُ في الغربة وعذابات المنافي

جارت عليّ بحكمها الأيامُ / وأنا أليك تقودني الأحلامُ  

وأراك يا وطني الحبيب معاتبي /وأنا أعاتبُ دائماً وأُلامُ  

ذنبي فراقك يا عراق / فأنهُ أثمٌ تهونُ بجنبه الآثامُ  

وقال في أخرى : سلاما على العراق وأهلا /بالمنافي أن ضاع منا العراق

وفي قصيدة رائعة لهُ عن بغداد تفنن في وصفها ببراعة لغوية ربما تقارب مع البحتري الشاعر العباسي في الوصف والحنين لذا أطلق عليه النقاد في العراق ( مصطفى جمال الدين بحتري عصره) قد يكون البحتري أكثر الشعراء حظوة عند مصطفى جمال الدين  ظهرت بعض ( المقاربات ) في الخصائص الشعرية عند الأثنين حيث الوضوح الشعري والأبتعاد عن التعقيد المبتذل ،مع صفاء اللغة المستخدمة وشفافيتها والأبتعاد عن الفلسفة والمنطق ، الأهتمام بالأيقاع الشعري المصحوب بالموسيقى الهادئة وعدم المبالغة في توظيف المحسنات اللفظية والمعنوية ، هذا ما وجدته عند قراءتي لديوان الشاعرين ، ولنتمتع  ببعض من قصيدة شاعرنا جمال الدين عن بغداد عام 1965

 بغداد ما أشتبكت عليك الأعصرُ / ألا ذوت — ووريق عمرك أخضرُ

مرت عليك الدنيا وصبحك مشمسٌ/ودجتْ عليكِ ووجه ليلك مقمرُ

أخفي هوا لك في الضلوع وأظهر/ وألامُ في كمدٍ عليك وأعذرُ

 كأن الشاعر قد أراد لقصيدته بغداد أن تكون في تناصيتين أثنتين لا واحدة : تناصية المفارقة وتناصية التغيير في الزمكنة .

ولنرى وصف العيد عند جمال الدين والبحتري حيث الحبكة الدرامية والأرهاصات التراجيدية والتركيبة الهيكلية في الأيقاع والموسيقى وآهات الذات الآدمية المستلبة حين يعبر كل منهما بالألم والحسرة عن ما  يشعر به الأطفال الفقراءوهم يجدون أنفسهم محرومون مما يتمتع به الأطفال عادة من أثواب جديدة ولعب :

العيدُ أقبل تسعد الأطفال ما حملت يداه/لعبٌ وأثوابٌ وأنغاماً تضجُ بها الشفاه  

وفتاك يبحثُ بين أسراب الطفولة عن نداه /فيعود في أهدابه دمعٌ وفي شفتيه آه  

ولهُ في الغزل قصائد في منتهى الروعة بل يزيدها رومانسية وشفافية وهو الشيء المعتاد لدى الشعراء، وأستغرب ألصاق بعضهم   عبارة (الغزل الأيماني )بشعره الغزلي ، للحقيقة للسيد ذائقتهُ بعيدة عن حذلقات الوعاظ أيماناً منهُ بالموقف والمبدأ فهو يمزج أوتار الشعور صوب اللاشعور فتكون الأبيات التي يحتاجها العاشقون وبلهفة شديدة لكي تكون بلسما  لجراحاتهم  يقول في قصيدة له :

هذه يا حبيبتي صورتي الأخرى / أطلّ الخريفُ منها حزينا

غاض نبع الصبا فجفت مروجاً /وأنطفأ سحرهُ فشابت غصونا

ويقول في أخرى : أنت الذي قلت جنان الهوى /ريحانهن القبل العارمة

وقلتُ ما الحبُ سوى دوحة /أغصانها السواعد الناعمة

أوراقها تلك الشعور / تفيأتها الأنفس الهائمة

وهذه النهود أثمارها / والزهر تلك الأوجه الباسمة

والحبُ يا سيدتي نقمة / زائلة ونعمة دائمة

وقال في أخرى : سيدتي ما ذا أرى /عريش كرمٍ أم مقلْ

أم زورقان سابحان /في غديرٍ من عسلْ

أم جمرتان تسرجان / الليل والبدرُ أملْ

وزع الشاعر عواطفه وآهاته في حب الحبيبة وحب الوطن وحب الأمة ، كما في قصيدته الرائعة ” الشمس الجريحة ”

  ذكرتك والأفق الخضيب تهالكت / على صدره الشمس الجريحة ترجف

تُعفرُ خداً في الثرى من تذللٍ /وتمسح خدا بالدم الحر ينزف  

يصول عليها هاجم الليل أصفراً /ويرجع عنها وهونشوانٌ أسوفُ  

كأن خفوق السحب فوق جبينه /ملونة—أعلام نضرٍ ترفرفُ

ذكرتك والشمس الجريحة أسلمت / على الأفق روحاً للضحى تتلهفُ

أخرا وليس آخراً  —– أن الجواهري ترك العمامة وترك الفقه وأتخذ الشعر ، أما مصطفى جمال الدين فقد جمع الأثنين ، فهو قد أوجد نوعا من التفاهم والمصالحة الودية  بين العمامة وبين الشعر، وفي يوم الأربعاء المصادف 23- 10- 1996 فارق السيد الحياة تاركا أرثا ثرا وثريا من الشعر والفقه والأدب حفرت بصماتها في سفر أرشيف الذاكرة العراقية والعربية فله الخلود الأبدي والعرفان للسيد الجليل الدكتور الأكاديمي “مصطفى جمال الدين “

—————————————-

كاتب وباحث عراقي مغترب

في الخامس عشر من آذار2019

د . مصطفى جمال الدين
د . مصطفى جمال الدين

اترك تعليقاً