السيمر / الأربعاء 13 . 01 . 2016
مصطفى منيغ / المغرب
الماضي حاضر يبقى ، ما لم لأمر التحول للمستقبل يتلقى ، تلك سلسلة زمنية للطبيعة بإذن الباري حلقاتها الربط المندمج مع المتغيرات بالحركة الدقيقة ، من بداية لما بعدها دون تأخير رمشة عين من دقيقة ، بتعداد حِسِيّ لا مدخل لأي آلة فيه غير سُنَّة حياة تسري لختامها بالمتناهي من الدقة ، لذا للذاكرة نصيب من صوره إن كان لصاحبها دَخْلٌ بالمباشر أو التأثير عن بعد . انتماءاً لما ذُكر وانطلاقاً من حضوري الفعلي وسط ذاك الماضي العجيب الغريب في “عين بني مطهر” تحديدا، أرى أن الشخصية الجزائرية خليط من تجارب جوهرها الكفاح الحق ، وسطحها لا ينأى عن واقع وقتي يتمايل بما له من سلبيات سياسية كفيلة(كما خُطِّطَ لها من طرف أذناب أبناء “الغال” ، لو نجحت) بإخلاء العقلية السائدة من قناعاتها المستمدة من تربية السلف الصالح الذي أبقى في الجزائر ما تَفْخَرُ به حتى الآن، عدم الانحناء بيسر أو بعُسر لضمان ربع “خبزة” مبللة بمرق قلة الحياء والمذلة ، المستخلص من طهي جيفة الاستغلال، البالعة أي طعام في إسطبل الاستعمار، والمخنوقة بأيادي المنتمين للطابور الخامس، كل ليل بهيم تنعدم فيه رؤية الحقوق، وتُحبَسُ تعسفاً أجواء الحرية ، التي لها مع الجزائريين البواسل، والجزائريات الحرائر ذوات حسن التربية، (في نتاج أجيال المجاهدين المحررين الوطن من ويلات الافرنجة) الفضل ، و ألف حكاية عن ألف رواية عن ألف قصة ، كتلك التي لخصها كاتب المقال مصطفى منيغ في مسلسل ” السنبلة الحمراء ” الذي قدمه نصاً للسيد الصائم حينما كان هذا الأخير مديرا لمحطة وهران التابعة لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الجزائرية سنة 1975، قصد إنتاجها .
عين بني مطهر ، (كان اسمها ” بركنت Berguent ” على اسم مكان بوادي شيدت على ضفته باللغة الأمازيغية) تابعة حاليا لإقليم جرادة ، تبعد عن وجدة عاصمة المغرب الشرقي بحوالي 81 كيلومتر وعن مدينة فجيج بما يقارب 300 كيلومتر ولا يفصلها عن الحدود الجزائرية سوى 36 كيلومتر . عبر ترابها يمر خط أنبوب الغاز من مصدره “حاسي مسعود” صوب أوربا. تختزن من المياه الشيء الكثير. وإذا كان للصحراء باب فسيكون هو عين بني مطهر نفسها وليس سواها .
… في عهد السلطان عبد العزيز المريني أراد المؤرخ الاجتماعي الشهير ابن خلدون زيارة المغرب قادما من مدينة “بسكرة” الجزائرية سكناه سنة 774 هجرية ،وبوصوله مليانة جاء من يخبره أن عبد العزيز التحق بالرفيق الأعلى فاعتلى الحكم ابنه ، ومع ذلك واصل طريقه صوب فاس بمعية علي بن حسون والي السلطان المغربي على “مليانة” بحراسة جنود الوالي، وبوصولهم رأس العين (عين بني مطهر) اعترض طريقهم في مكان من وادي زا (وادي الشارف) جماعة من شيوخ عبد الله بن معقل من بني يغمور بأمر من سلطان “تلمسان” “ابَّا حموا” فنجا من المعركة ابن خلدون وتاه في تلك الأراضي إلى أن وصل “دبدو” ومنها التحق بفاس. السلطان إسماعيل بن على العلوي اتخذها موقعا استراتيجيا ومنطلقا لمحاربة أتراك الجزائر ، لكن قبائل المنطقة خذلته وانهزم ، فعاد إليها بعد حين لينتقم منها شر انتقام .
لا يمكن للمقاومين الجزائريين التأريخ لتلك المراحل وهم يخوضون المعارك الشرسة ضد الغازي الفرنسي في الجنوب الغربي الجزائري بهدف تحرير بلادهم من ويلاته وأهدافه الدنيئة، دون الحديث عن الدور الذي قامت به “عين بني مطهر” المنتقل من المساندة المطلقة إلى المشاركة الكاملة ، حيث أصبحت الخلفية القوية للمجاهدين بقيادة الشيخ بن الطيب البوشيخي البكري المعروف عند الفرنسيين انطلاقا من مواجهته لهم في “الشريعة شمال البيض” في الثاني من شهر ماي سنة 1845 معتمدا على من كان في “عين بني مطهر من قبيلة “المهابة” المنتشرة آنيا في “تيولي” و”النعيمة” المجاورة لمدينة العيون سيدي ملوك ، الشيء الذي عَرّض عين بني مرة لانتقام مرير من طرف الفرنسيين بدءا بهجمة الجنرال ومفن (Wemphen) على الجنوب المغربي سنة 1870 اعتمادا أن “عين بني مطهر تشكل القاعدة الأساس لكل مقاومة جزائرية داخل جل المناطق الداخلية في جزائر تغلي حماسا غير مسبوق بنية طرد الاستعمار الحاقد الملحق الأذى بكرامة أمة جزائرية كريمة شريفة برز فيها الأمير عبد القادر وغيره كثير .
وكما سبق أن ذكرت خلَّف تحويل اسمها من “بركنت” إلى عين بني مطهر قصة ظريفة عشت أطوارها مباشرة خلال إقامتي الطويلة هناك في أواسط ستينيات القرن الماضي ، حيث سكنتُ منزلا مفعما بالطيبوبة والكرم والشرف، صاحبه الشريف ميموني ميون رحمه الله، الكائن بحي يدعى “دوار الزياني” ، كان على رأس السلطة المحلية قائد من “بني يزناسن” يسمى علي ، له من الصرامة والحزم ما جعله مثار قلق بليغ داخل سكان تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب قاطبة، رئيسه عامل (محافظ) لإقليم “وجدة” الشهير بمشاركته في انقلاب “الصخيرات” ضد الملك الراحل الحسن الثاني ويتعلق الأمر بالعامل “الشلواطي” إن لم تخني الذاكرة ، وفي اجتماع مصغر ترأسه القائد المذكور تنفيذا لمراسلة في الموضوع واردة عليه من العمالة (المحافظة) تقرر تغيير الاسم إلى “عين بني مطهر” الشيء الذي لم يرق جماعات من قبائل عريقة لها الوزن الثقيل في حضورها الاجتماعي داخل مساحة ترابية لا بأس بها ،التي رأت ، في اختيار “المطهريين” ليحظوا بهذا التكريم ، مجرد اهانة موجهة لها وتصغيرا لقيمتها التاريخية وتقزيما للدور الذي بذلته حفاظا على استقرار ووحدة التراب المغربي في تلك المنطقة الحدودية الشاسعة الأطراف ، فغضبت غضبة لم تشف غليلها سوى أن يستيقظ السكان والقائد يفتح إسطبله ليجد جلد ثوره المدلل مسلوخا مُعلَّقا في الواجهة مكتوب عليه :” أنت سَمَّيتَ ونحن سَبّعْنا ” ، طبعا كاد القائد أن يُغمى عليه من الصدمة، وبخاصة أن الثور المذبوح أغلى ما كان يملكه افتخارا ومقاما ودرجة في الحكم المحلي ، التحريات التي أجرتها السلطات المعنية لم تسفر على أي نتيجة تُذكر لتسجل القضية من ارتكاب مجهول، لكنها ظلت محفورة في أذهان من عاشوها جملة وتفصيلا ومنهم العبد لله. (للمقال صلة في الجزء الموالي بحول الله) .