السيمر / فيينا / الاحد 15 . 09 . 2019
د . لبيب قمحاوي/ الاردن
كلما سقط الأردنيون درجة نحو الأسفل إعتقدوا أنهم وصلوا القاع ليكتشفوا أنهم ما زالوا في الطريق إلى القاع . المطلوب على ما يبدوا أن يصل الأردنيون بالنتيجة إلى القاع دون أن يرتكبوا معصية الإنتحار لأن المطلوب ليس موت الأردنيين بل إستسلامهم الكامل لما هو قادم من مخططات يتبناها القريب مثل الغريب لدفعهم إلى الخضوع الطوعي لتلك المخططات الخارجية التي تهدف إلى إنتقاص السيادة الأردنية وكسر الإرادة الوطنية وجعل الأردن أحد وسائل وقنوات تصفية القضية الفلسطينية .
هل ما يجري مؤخراً في الأردن وللأردن أمراً عفوياً أم أنه نتيجة لمخطط بائس جرى ويجري العمل عليه منذ عقود ؟ إن نظرية المؤامرة هي في الغالب إنعكاساً إما لغياب الحقائق والمعلومات الصحيحة أو نتيجة لحالة من الإحباط والإفلاس الفكري والمعنوي تحرم الكثيرين من القدرة على تقييم الأمور بشكل موضوعي . ولكن في الحالة الأردنية فإن تطور الأمور يشير إلى وجود ما يمكن تسميته بإصرار مقصود وممنهج على دفع الأمور بإتجاه الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي وإلى الحد الذي قد يخلق قناعة متزايدة لدى الكثيرين بوجود مخطط ما يهدف إلى خلق حالة من اليأس تُفقِدْ المواطن الأمل في إمكانية معالجة الأمور بشكل إيجابي ، خصوصاً في ظل استمرار شعور عام بوجود جهة ما تدفع الأمور نحو الهاوية .
الأمر ببساطة ولمن يريد أن يعلم مباشرة ودون أي مواربة هي أن التعليمات او المخططات أو السياسات تأتي عادة من الخارج كعناوين أو أهداف والمطلوب من الحكم ومن المسؤولين تطبيقها بالطريقة التي يرونها مناسبة للوصول إلى الأهداف المنشودة . وفي هذا السياق من الخطأ الإفتراض أو قبول إدعاء الحكومات بأن الجهات الخارجية تفرض على الأردن التفاصيل الدقيقة لكيفية تنفيذ ما هو مطلوب ، بل تترك ذلك في العادة للحكم والحكومة . والمغالاة في التنفيذ يعكس جنوح الحكومة لخدمة و إرضاء الجهات الخارجية والتي غالباً ما تُبدي إستغرابها من تمادي الحكومات في فرض تفاصيل مؤذية على الشعب متذرعة بأن ذلك مفروض عليها من الخارج ولنقل مثلاً تعليمات البنك الدولي . وواقع الأمر هو أن تلك المغالاة غالباً ما تهدف إلى خدمة مسار الفساد الكبير أو لتغطية العجز المتراكم الناجم عن ذلك الفساد أو فشل الحكومات المتعاقبة في إنتهاج سياسات إقتصادية ومالية حصيفة . الأردن في جميع الأحوال لا يشكل حالة إستثنائية في هذا الوضع ، بل هو في نفس مسار العديد من الدول العربية إن لم يكن معظمها . وهذا يعني أن حل القضايا والمشاكل الداخلية يأتي في مرتبة ثانوية في الأهمية مقارنة بما هو مطلوب من تلك الأنظمة تمريره وتنفيذه سواء بإرادة خارجية أو بحكم متطلبات الفساد الداخلي وإنعدام الكفاءة في إدارة شؤون الدولة . وعلى أية حال فإن المحافظة على أمن واستمرار كل نظام تبقى هي الألوية المطلقة في الدولة التي يحكمها ذلك النظام وليس ما يريده الشعب أو يحتاج إليه . والأنظمة ، في المقابل ، تقوم بالتفاني في تنفيذ رغبات الجهات الخارجية ودون أي تردد حتى تحافظ على الدعم القادم إليها من تلك الجهات الخارجية .
من الواضح أن محاولة الإيحاء بفك الإرتباط نظرياً بين القصر والحكومة . خصوصاً فيما يتعلق بالقرارات والسياسات التي لا تحظى باي قبول شعبي ناهيك عن المعارضة الشعبية لها هو أمر أساسي في خلق إنطباع بان ما تفعله الحكومة يجئ بمعزل عن ما يريده القصر علماً أو ولاية الحكومة الدستورية منقوصة عملياً لصالح القصر . إن هذه السياسة تهدف أولاً إلى إبراء ذمة القصر مما يجري ، وثانياً خلق الإنطباع بأن القصر هو الملاذ والملجأ الوحيد المتبقي أمام الناس ضد تعسف الحكومات وجبروتها وإنعدام كفاءتها . أمر عجيب ولكنه حقيقي جداً على أرض الواقع . وقد أصبح هذا الوضع اكثر منطقية وإنسجاماً مع التحول الواضح في مطالب وإهتمامات الأردنيين من السياسة إلى الأمور الحياتية والمطلبية والتي تجعل من القصر الملاذ الأخير للمواطن في ظل ضعف الحكومات وضعف إيراداتها المالية .
وفي خضم كل ذلك ، فإن النظام الأردني يسعى الآن إلى إعادة إنتاج نفسه ولكن باستعمال أدوات قديمة وليس من خلال أدوات جديدة كما يفترضه المنطق . ويتم هذا من خلال إعادة إنتاج بعض شخصيات النظام ورموزه التقليدية بإعطائها صفات جديدة مثل تحويلها إلى معارضة ناعمة ، أو تلميعها من خلال السماح لها بلعب أدوار في العمل العام تحظى بالشعبية والقبول . والنظام بذلك يسعى لأن يكون كل شيء . الموالاة مِنه ولَهُ ، والمعارضة مِنه ولَهُ ، وما بينهما مِنه ولَهُ . ومن لا يكون كذلك فهو خارج نطاق الحظوة بالنسبة للنظام ولا يشفع له أي شيء وأي صفة مهما كانت . ويسعى النظام وأدواته إلى التعامل مع أولئك بطرق مختلفة حتى لو انتهك بذلك حقوق المواطن الدستورية ، وغالباً ما يتم ذلك من خلال إغلاق كافة الأبواب ومنها أبواب العمل أمام أولئك المواطنين ، ويتم التعامل معهم من خلال تجاهل وجودهم وهضم حقوقهم وإغلاق كافة منابر التعبير أمامهم وكأنهم ينتمون إلى وطن آخر و عالم آخر . فالنظام لا يؤمن بأي شكل من أشكال المعارضة من منطلق أن من لم يكن معنا فهو ضدنا ، وأن المعارضة الوحيدة المقبولة لدى النظام تنحصر في درجة الإستسلام والولاء له فقط .
النظام لا يريد أن يتصدى لحل المشاكل بقدر ما يريد تجاوزها وتجاوز تبعاتها ، مما أدى بالنتيجة إلى تراكمها وتفاقمها وإلى الحد الذي أصبح فيه الوضع عَصِياً على الحل ، وأصبحت المطالبة بالإصلاح مطالبة دون مستوى التحديات نظراً لإستمرار الأسباب التي تجعل من الإنهيار السياسي والإقتصادي واقعاً مفروضاً متجذراً ومتأصلاً في صلب الدولة ومؤسساتها . المطلوب هو إعادة بناء مؤسسات الدولة ونهجها ونهج العمل فيها وشطب أولئك الفاسدين والمنتفعين والمتملقين وصُنَّاع الظلم والظلام من الحياة العامة ومن إمكانية تولي أي منصب عام في الدولة وعلى كافة المستويات ، وبما يؤدي إلى إزالة الفساد والقذارة التي علقت بالجسم السياسي الأردني على مدى العقود الماضية وإقتلاعها من جذورها . وبخلاف ذلك لا توجد فرصة حقيقية للإصلاح في أي مجال .
و أخيراً ، يجري العمل الآن بشكل صامت ولكن حثيث على الإلتفاف على المطالب الشعبية بالإصلاح السياسي الديموقراطي من خلال العمل على إنشاء هياكل سياسية مرتبطة بأجهزة النظام وبقيادة وعضوية سياسيين تقليديين يجري العمل على تسويقها تمهيداً لخوضها الإنتخابات النيابية المقبلة وخلق كتلة نيابية ذات أغلبية وربما حكومة نيابية حتى يتم تمرير ما هو قادم من خلالها وإعتبار ذلك خضوعاً لإرادة الشعب من خلال حكومة تحظى بتأييد برلماني ملحوظ .
ما نحن مقبلون عليه يشهد تناقضاً ملحوظاً بين إنسحاب إهتمام الأردنيين بالسياسة لصالح البرنامج الحياتي والمطلبي ، في حين أن التحديات القادمة سياسية بإمتياز وتتطلب إهتمام وإنخراط أكبر عدد من الأردنيين . وربما هذا هو المقصود مما جرى ويجري وهو تحويل إهتمام الناس إلى البرنامج المطلبي لصالح تنازلات مصيرية قادمة وتمريرها كثمن لا بد من دفعه لإيجاد حلول لمطالب الشعب الحياتية . معادلة محزنة لأن ما نحن فيه الآن وما وضعونا فيه هو في واقِعِهِ خَيَار اللاخيار .
*مفكر عربي
14 . 09 . 2019