السيمر / فيينا / الخميس 17 . 10 . 2019
محمد خضير
أشفِق على أصحاب الأطروحات البريئة، وأنا منهم، حين يضعون أنفسهم في “حلق السباع” كما يقال. والسباع المقصودون في هذا الجزء من الرؤية المرحلية لانتفاضات الشباب هم مجموعة غير متناسقة من الراديكاليين الجدد، ركاب الموجات الشوارعية الغاضبة. هؤلاء “الطافحون” يقارنون تظاهرات تشرين بثورة الشباب التي عمّت أوربا في العام ١٩٦٨. وهي مقارنة تستمد من روح الثورة البولشفية (ثورة أكتوبر) شرارات لا تزيد عن اقتباس جمرات قيس بن الملوح من موقد بيت عمه أبي ليلى (امض قيس امض، جئت تطلب ناراً، أم ترى جئت تشعل البيت نارا؟). فيا لسخرية التأجيج حيث التنور الكبير يرسل الشرر حول بقاع الشرق الأوسط كله! ورحم الله أحمد شوقي الذي مسرحَ قصةَ الحب القديمة لتصبح أوبريت الشباب العاطفي أيام الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩، الممزوج بالرغبة في التحرر من الاستعمار، على غير قصد وتأويل!
هنا في العراق، ومن غير حذر وإشفاق، فإن هذه المقارنات تتسرع النهايات بعد أن أعجزتها البداياتُ عن تلمس نور في نهاية المراحل البرلمانية الأربع (بين ٢٠٠٣ ويومنا هذا) التي دخلت نفقاً مسدوداً، بل شارعاً غاضباً لا تمكن تهدئته إلا بمزيد من الغضب والتطرف والدماء. لقد كانت ثورة الشباب الأوربية حاصلاً رئيساً لاستقتال الأيديولوجيات الكبرى (الماركسية والليبرالية الرأسمالية المتوحشة) وبلوغ الوعي الفلسفي اقصاه (قاد تظاهرات الشباب وتحمسَ لها فلاسفة ومفكرون امثال فوكو وسارتر ودولوز وغودار وماركوز وجماعات الماويين والتروتسكيين) وتُوجت بصدور مانفستوات شهيرة (كتاب: الى الثورة، الذي أصدره أحد قادة الثائرين الشباب) إضافة الى مراجعات ثورية شاملة في علم الاجتماع والنفس والسياسة والأدب (كتُب إريك فروم وماركوز وغارودي ودوبريه وأنجيلا ديفز وسواهم)، ولم تكن الفلسفة البنيوية الا واحدة من أوجه الثورة الفلسفية التي قادها طلاب الجامعات وأساتذتهم بالدرجة الأولى. فالأمر الذي حث على التغيير والاصلاح الشامل صدر عن شعور عميق بالأزمة الفكرية والاقتصادية للمجتمع الأوربي وبلوغ الرأسمالية مرحلة من انعطاف الصراع من الآلة إلى الفكر، ومن الشيوخ إلى الشباب، ومن التقاليد البالية (في الأوساط الجامعية خاصة) إلى التحرر الفكري ونقد الذات العنيف.
لم تنقدح العواصمُ العربية بشرار الأفكار الأوربية الراديكالية إلا بعد هزيمة العرب في حرب ١٩٦٧ مع إسرائيل، وبزوغ حركة المقاومة الفلسطينية. كانت هذه القطيعة حافزاً لمراجعات كبرى تستلهم من التثوير الأوربي الفكري جانبه الانقلابي، وعزيمته على الانقضاض على الحكم. وكانت حركة تموز ١٩٦٨ في العراق قمة هذا التثوير حينما استولى البعث على الحركة القومية “التقليدية” وأجبر القوى اليسارية على التحالف الجبهوي معه، لتنشأ أولى التجارب التاريخية المهمة في تاريخ العراق الحديث.
لم تدم التجربة الانقلابية “الوردية” في الفكر والحياة والفن، سوى سنوات قليلة، إذ سقطت الطلائع الثورية تحت طائلة نزعة راديكالية، قومية، عنصرية، قادت العراق الى محرقة الحرب، التي شاركت قوى إقليمية ودولية في إشعالها بين إيران والعراق. استنفدت الحرب الطاقة الوطنية، الفكرية والعاطفية، موارد الاقتصاد الكبيرة، وثروة الشباب الدافعة للتغيير، من دون ان تحصل ردة وعي انقلابية واحدة (عدا محاولات بعض الضباط الطامحين) خلال فترة حرب الخليج الاولى؛ وتأخرت الانتفاضة على سلطة انهكتها الحرب حتى العام 1991 بعد غزو الكويت (ولم يقارن أحد من راديكاليي اليوم انتفاضة 1991 بثورة اكتوبر 1914 التي استغلت ضعف الجيش الروسي في الحرب العظمى). سنرى أن عوامل وظروفاً ووعياً متغيراً فات محللي تلك الفترات المظلمة من تاريخ العراق، وأغفلهم عن دفع السلطة العسكرية شباب الوطن الى المحرقة، في غياب المؤسسة الثقافية والجامعية، والتهاء القوى المتفرقة (المتحالفة سابقا) في معارك يائسة.
أليس غريباً ان يستعيد حلفاء الأمس، أعداء اليوم، أدواراً فائتة، وإلباس ممثليها الرئيسيين (ضحاياها) ثياباً فضفاضة على خشبة تهتز على قرن التوازنات الدولية والاقليمية الجديدة، وسلطات تفوق سلطات ديغول وجونسون، على مرمى نظر من مؤسسة الرؤوس الفكرية الخاوية، التي لا تجيد الا تكرير الأفكار الأوربية النافدة؟
إزاء هذا الغروب التراجيدي للمصائر والتحالفات القديمة، والتشظية الشاملة للبنى التاريخية المتماسكة، ألم يحن للفاعلين الجانبيين (المتوكلين بدوافع ثورية غاربة) فرصة ذهبية لحل المشكلة العراقية المزمنة، عبر امكانيات سياسية بديلة؟ ألا يمكنهم استدراك الانحدار السريع للهاوية، عبر سلوك طرق عديدة أهمها في نظري اثنتان:
إصلاح البنية الثقافية التعليمية، وتربية جيل جامعيّ جديد قادر على التغيير المتدرج عبر نظم ووسائل ضغط عقلية وفكرية شاملة؛ مع خوض نضال اجتماعي عام لتنمية الأنفس البشرية العاطلة والعارية من شروط الحياة الكريمة.
عقد مؤتمر تحت اشراف الأمم المتحدة للتداول في إصلاح جذري للبنية السياسية الحاكمة، بشرط ألا يكون وليداً مسخاً لمؤتمرات المعارضة التي سببت مأزق العراق الحالي.
وبين الأمرين (البطئ والسريع) بون شاسع هو مسافة التاريخ الذي لا يحتمل التسريع على وفق صيغ انتحارية.