الرئيسية / اصدارات جديدة / برهان شاوي في المتاهةِ الخامسة ” متاهةِ إبليس”(1)

برهان شاوي في المتاهةِ الخامسة ” متاهةِ إبليس”(1)

السيمر / الاحد 10 . 01 . 2016

هاتف بشبوش

برهان شاوي الروائي العراقي الكبير والشاعر المذهل ، والكاتب المسرحي والسينمائي والصحفي والمترجم ، لديه من النتاجات الكثيرة ، على كافة الأصعدة ، له من المجموعات الشعرية العديدة ، وله من الروايات التي تستحق القراءة وآخرها متاهاته الستة (متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة إبليس، ومتاهة الأرواح المنسية ) ، التي ستحوّل الى أكبر مسلسل درامي عربي في تأريخ الدراما العربية من قبل السيناريست الكبير ( محمد حلمي هلال) . أما موضوعة بحثنا هنا هي رواية (متاهة إبليس).
في متاهته الخامسة “متاهةِ إبليس” ، يدخلنا برهان شاوي في متاهات النفس البشرية إنطلاقا من شخصية العراقي وحتى يصل الى الأنفس الأوربية والغربية ، يدخلنا تلك المتاهة لكننا بالنتيجة نستطيع الخروج بالدلالات المضيئة ، التي تنفعنا في مسايرة حياتنا اليومية في معرفة معنى الحياة وتصرفات الكائن البشري بشكل عام ، ولكن الكائن العربي والعراقي يأخذ مجمل دراسة الروائي برهان شاوي في هذه المتاهات ، لما في الإنسان العراقي والعربي من خصوصية تختلف كثيرا عن بقية الخلق .
المتاهة كمصطلح هي تلك الدهاليز التي إذا مادخلها البشر فأنه لايستطيع أن يرى مخارجها الاّ بمعجزة . أو مثل لعبة الأفعى والسلّم ، مهما تصل الأعالي لابد لك أن تنتكس وترجع الى أسفل الدرج ، لابد لك أن تنتهي في طريق يؤدي الى رواقٍ آخرٍ يصطادك ، ويرميك في حلق الظلام ، كما في نهاية هذه المتاهة الأبليسية الرهيبة التي تنتهي ببطلة الرواية حواءذو النورين وهي في نفقٍ مظلم كما سنعرّج أخيراً .
في الصفحة الأولى من الرواية أربعة اسطر للشاعر ( يوسف برودسكي) من ترجمة الروائي نفسه برهان شاوي يقول فيها : (جهنم رقدت والفردوس البهي كذلك /ليس هناك من لايرقد في بيته بمثل هذه الساعة / الرب قد رقد فالأرض غريبة الآن/ فالعيون لاتبصر /والآذان لاتصغي) .
في هذه الأبيات نجد اختصاراً للعزاء الروحي لمصير الإنسان في حياته حتى مماته . في الموت وفي المنام ، فوق الأسرّة وتحت التراب ، في الأعالي وفي العميق ، تتوقف الرؤيا ، يتوقف السمع ، لا موسيقى ، لا لحن جميل ، ولا جناز ، لا مناكفة ، ولا وئام ، كل شئ يصبح جامدا ، الدماغ معطل ، الذهنية معطوبة ، الأوصال يابسة ، الجسد يستحيلُ الى رماد ودودُّ ينهشُ بعد حينٍ من الزمن .
كل أبطال وشخوص “متاهة إبليس” كما في بقية المتاهات قد أعطاهم الروائي أسماء مركبة ، حواء ذو النورين ، حواء الكرخي ، إيفا سميث ، حواء دمشقية ، آدم الشامي ، آدم بوناورتي ، آدم كارثة ، آدم سانشو ماريو زباتو …الخ .. وهذه إشارة الى مطحنة البشر التي تهرس بهم منذ الأزل حتى اليوم ، هذه المطحنة يدير رحاها الآدميون أنفسهم ، بعضهم يقتل بعضا ، بعضهم يحتل مركز الآخر ، بعضهم يزيح الآخر ، طبقا لمبدأ البقاء للأقوى ، ودائما نرى هناك من جرّاء ذلك ، الكثير من الحواءات الثكالى .
في رواية ” متاهة إبليس” ندخل التيه الفكري الذي يصيب البشر بفعل الخرافات وبعض الشعوذات التي يتخذها الإنسان كحل في سيرورة حياته ، ولكننا نرى الهدفية التي يرسمها لنا الروائي برهان شاوي في النهاية ، تلك الهدفية التي من الممكن أن يتخذها الإنسان في مساره الصحيح في بناء حياته بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة .
” متاهة إبليس ” كُتبت أساسا للدخول وبعمق في ماهيات الدين والسياسة ثم الحب والجنس ، والجنس بلذته الأخرى. كُتبت لتوضيح حالة العراق مابعد سقوط الصنم ، حيثُ وجدنا أنفسنا في طغيان بلونٍ آخر ولايختلف سوى في التفكير والسبل . الطغيان الجديد يستخدم أساليب متخلفة وأحكام عامة( لاتسرق ، لاتزني ، لاتقتل ….الخ) لكنه لايستطيع أن يبني مؤسسة أخلاقية تقوم بصنع القرار الأخلاقي للإنسان . سياسون تحكمهم الخرافة ، أحد السياسيين في الخارجية العراقية يقول ذات مرة على شاشة التلفزيون ، ( بأنه يعمل في الخيار) ومن القرآن مباشرة ، حيث يستكشف صفحات القرآن ، فإن تحدثت الصفحة عن الخير فبها ، أما إذا تحدثت عن غير ذلك فهي إشارة الى سوء الطالع .
في هذه الرواية نستطيع أنْ نستدل على الأساليب الملتوية لرجال الدين ، أي دينٍ كان ، وكيف كانوا كما الأساقفة وهم يعلنوا مباركتهم لسلاح الفرانكويين الفاشيين ، ومباركة زعيم الرايخ هتلر. وكذلك مساندة الكاردينالات لأمريكا في حربها ضد فيتنام ، وكيف أطلقوا على جنود القتال أنذاك ( جنود المسيح).
أما الرواية في جانبها الفني ، فهي كتبت بإسلوب سينمائي بحت ، لما لدى الروائي من المعرفة الكافية بالفن السابع وصناعة الأفلام السينمائية ، بل يمتلك شهادة تخصصية في هذا المجال ، ولذلك الرواية تنتمي الى الفن الصوري أكثر منها الى القرائي ، هي أقرب الى السيناريست منها الى الحكائي . الرواية لو تصورناها كعمل سينمائي سنجد فيه الكثير من الحوارية الفنية والفلسفية والدينية التي تنبع من واقع المشهد البشري بشكل عام ، سواء كان في العراق أو تحت سماء هذا العالم المترامي . سنجد الحب ، الجنس ، الرومانسية الحالمة ،الفن والأدب ،العلاقات الأسريّة، الجريمة ، الحرب، العنف ، القتل الرخيص ، الخيانة .
الرواية فيها الكثير من المشاهد الممتعة التي تستحق الوقوف عندها بانورامياً ، لكنها في نفس الوقت سوف تتعرض للكثير من المساءلة الرقابية لما فيها من جرأة الطرح الذي لايتناغم مع بعض العقول ، لأن إسلوب الكتابه والمفاهيم التي بنيت عليها ترتقي الى جيل صاعدٍ وعابرٍ للجهل ، وكل أملنا إذا ما تحولت الى السينما وأصبحت في متناول الجميع بهيئتها الفلمية ، أن لا يُشطب منها ما هو الأهم والمراد إيصاله الى الرائي أو المشاهد .
برهان شاوي يتحدث عن الشيطان ، وتلك الإسطورة الفرعونية ، التي نقلها العبريون لنا في التوراة ، حيث كان يلقب بإله الشر والظلام الفرعوني (شيت) أو( سيت) وهو نفسه كان يعرف بالأفعى . برهان شاوي يتخذ من الشيطان في روايته هذه من البداية حتى النهاية ، من أنه الذي يراود الكثير من الناس الجهلة وبعض المتعلمين في بعض تفاصيل حياتهم ، فيظهر لهم على هيئة ( رجل أشقر وسيم ) . المتعارف عليه بأن الشيطان يمتلك وجها قبيحا ، لكن الروائي برهان شاوي يظهره لنا جميلا على لسان شخوص الرواية ، من النساء والرجال ، ولذلك يظهر دائما بهيئته هذه لدى حواء ذو النورين ، كما ظهر أيضا لآدم الشامي مدير عام الفنادق ، تلك الشخصيتين المهمتين في الرواية ، فكان الرجل الأشقر الوسيم هو مصدر الغواية والغيرة ، في الجنس والقتل ، وفي إثارة الفتن ، وهذه قد تناولها الفلم العالمي (Woyzeck)الذي قام ببطولته الممثل الألماني الشهير في الستينات والسبعينات ( كلاوس كنيسكي) ، حيث كان يراوده إبليس الذي أدى بالنتيجة الى أن يغويه ويدفعه الى قتل زوجته ، لكنّ السرد الروائي والفكرة لهذا الفلم لاتأتي الى مستوى الرقي العظيم لرواية برهان شاوي .
الروائي هنا يعطينا درسا بليغا ، من أنّ اللياقة البشرية لاتستمد من الأديان بل تسبقها ، كما وأنّ الشك هو أفضل بكثير من اليقين ، حيث أنه لو سلّمنا جدلا ، بأن رجلا قد شكّ في خيانة زوجته وقام بمتابعتها ، في البداية ربما يرى شخصاً يحوم حول البيت ، لكنه يظل يشك في الأمر ، ثم بعد ذلك يرى الشخص ينظر الى باب البيت حين يمر ، لكنه يظل أيضاً يشك في الأمر ، ولم يقم بأي فعل إتجاه زوجته ، حتى يرى الشخص قد دخل البيت ، ثم قام هو بإقتحام االبيت ورآى الذي يحصل في خدرها بأم عينيه ، عندها دخل مرحلة اليقين ، فسحب المسدس وأرداهما قتيلين غسلا للعار ، لذلك حينما كان الرجل في مرحلة الشك لم يستطع القتل ، وحينما دخل اليقين ، قام بالقتل دون أن يتردد قيد أنملة ، ولذلك نرى اليوم الإرهاب الديني يقتل بهذه القسوة على إعتباره يمتلك اليقينيات بكل تفاصيلها في نصوصه المقدسة التي لاشكّ فيها لديهِ على الإطلاق .
الرواية تحكي عن ضحايا الأمس في العراق الذين أصبحوا طغاة اليوم، كما وإنها تخبرنا بسطرٍ جميل عن( فقدان رحمة البشر بينما الله يبحث عن حجج لكي يغفر للإنسان) . تتناول موضوعة البشر وتخص بالذكر شعوبنا المريضة وإفتخارهم بأنفسهم ، لكنهم فارغون من أي شئ يذكر سوى الضجيج( الضجيج دائما يأتي من العربات الفارغة) ، لنقرأ ماذا تقول الرواية بهذا الخصوص حول البشر :
(يعتقدون أنّ الله خصهم هم دون غيرهم برعايته وكرمه وفضّلهم على غيرهم وليست بلادنا إستثناء ، لكنهم إستثناء في تعنت اهلها وكبريائهم الفارغة ، فهم مثل الديكة أقدامها في الخراء وتصيح بكبرياء) . وفي وصف العراقيين ( هم طيبون كالذئاب في قطيعٍ كبير … منافقون ، دجالون … متطرفون في كل شئ في الحب وفي الكره … ويدعون أنهم من نسل كائنات هبطت من السماء).
السرد ينحى المنحى الفلسفي في الوجود والعدم ومافعلته الأديان بالشعوب منذ نشوءها حتى اليوم وماهو دورها الذي نراه بين شعوب العرب من تفريق وتمزيق للأمة الواحدة . لنقرأ بعض ثيمات السرد فيما يخص بعض المفاهيم الدينية ومنها على لسان إبليس وحواره مع أحد شخوص الرواية الرئيسيين ( آدم الشامي).
(حتى دخول الفردوس يجب أن تدفع ثمنه .. أما الجحيم فبواباته مفتوحة على مصراعيها مجانا للجميع).
كما وأن الرواية تفيدنا في أحد حواريتها وعلى لسان آدم بوناورتي وهو يقول لحواء ذي النورين بأنّ :
( الأديان اليوم تقود الى الألحاد وليس الى الإيمان ، العلم هو الذي يقود الى الإيمان …. جميع الأديان في ظاهرها تدعو الى التسامح ، لكن في باطنها تربّي على الحقد والعنصرية والكراهية).
التسامح يختلف كثيرا عن المساواة كما يقول( أدونيس) ، التسامح تعني أنّ الحقيقة لدى الشخص المتسامح أما الطرف الآخر فهو خاطئ ، هذا يعني أنّ المتسامح هو صاحب فضل ومنة على الآخر، بينما المساواة هي كلمة عصرية راقية تشمل الجميع وتجعلهم تحت طائلة القانون بدون أي إستثناء ، التسامح كلمة تنتمي الى السماء والرسالة النبوية ، بينما المساواة تنتمي الى الدولة والأرض التي نعيش عليها اليوم .
الرواية في فصل من فصولها ( جدران كافافيس) تعطينا رسالة أخرى عن البشر وكيفية تقمص دور الضحية والجلاد في آن واحد ، حيث يصف لنا الروائي رجلاً هجر زوجته وظل يمارس خياناته مع الأخريات ثم ندم وعاد الى زوجته المريضة الجميلة ، لكنه وجدها حاملا ، فاستغرب من ذلك ، كيف حصل هذا وهو الذي تركها بعفتها ولم يمارس معها الجنس لسنين طويلة . فمن هو الضحية هنا ومن هو الجلاد ، الرجل الذي لم يتظاهر بالعفة والطهارة بل كان واضحا في خياناته ، لكنه هجرها وخانها ، أم هي التي تدعي العفة والشرف فوجدها هي الأخرى تخونه بل أشدُ خيانةً منه حيث وجدها تحمل آثار خيانتها بكونها حاملا . وهذا مايحصل اليوم مع ساسة العراق الذين يدعون الشرف والولاء للوطن والدين والإسلام ، فتبين أنهم أعظم سرّاق في التأريخ الحديث والقديم ، وعلى مر العصور لم تنجب البشرية سرّاق وخونة على شاكلة هؤلاء المؤمنين بالله ورسوله . بينما لم نسمع أبدا بمثل هذه السرقات الاّ ماندر ، لدى رجالات الدولة البعيدين كل البعد عن الإيمان والورع .
كما وأن السرد الروائي يعطينا رسالة أخرى مفادها سنجده جلياً في الحوارية المذهلة أدناه بين آدم بوناروتي وحواء ذو النورين :
(الأديان تسيء للخالق من خلال هذا الركام من الهذيانت والتحريمات والتصورات المتناقضة …… اليهود يعتقدون انهم شعب الله المختار ، المسيحيون يعتقدون أن من لم يتم تعميده مسيحيا فهو خارج مجال الخلاص والرحمة ، المسلمون يعتقدون أن من جاء بغير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين . أترين هذه هي الأديان ، كل منها يدعي أنه هو الفرقة الناجية ).
هذه الحوارية المقتبسة من الكتب المقدسة لما فيها من أهوال تحرّض على كراهية الآخر ، نسمعها اليوم في أحاديث الناس ، الأحاديث التي أخذت تنحى منحىً آخراً في السنين الأخيرة لما وجدته الناس من أكاذيب وإدعاءات لدى رجالات الدين والكهنة ، الذين يصدرون أحكامهم تبعا لأهوائهم ومصالحهم وبما يتماشى مع البسطاء من عامة الناس الذين يُغرّربهم فينحدروا الى اقصى درجات التطرف التي نراها اليوم في أكثر بلدان العالم .
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجــــــــــــــــــــــزء الثانـــــــــــــــــــــــــــــي

اترك تعليقاً