د . صادق اطيمش
جميل جداً ان يزودنا الشارع العراقي الثائر بالأفكار اليومية التي نستعيرها لنشاركه التعبير عما يكنه شعبنا المظلوم منذ عشرات السنين. إذ انه لم يكد ينتعش بفرحة الخلاص من البعثفاشية المقيتة ودكتاتورية حزبها المجرم، حتى صبَّ عليه خلفاء دكتاتورية البعث ومواصلو مسيرتها سيلاً من الويلات التي يمارسونها منذ ان وضعتهم سياسة الإحتلال الأمريكي لوطننا على قمة السلطة السياسية وحتى يومنا هذا. إلا ان الممارسات الإجرامية تمت هذه المرة ليس باسم العروبة ووحدتها التي كانت عصابات البعث تخدع بها الجماهير، بل ان الخديعة تجلت في الشعارات الدينية التي بدأ تجار الدين من رواد الإسلام السياسي يطرحونها على الساحة السياسية العراقية حتى انقلبت هذه الشعارات إلى هويات للطائفية الدينية والقومية الشوفينية والإنحيازات المناطقية والإنتماءات العشائرية التي غيبت الهوية الوطنية العراقية تماماً عن اهلها. وكل ما نتج عن هذه الإنتماءت والهويات الثانوية تجلى بوضوح اكثر حينما اصبحت هذه الممارسات مصدراً للصوصية احزاب الإسلام السياسي الحاكمة وكل القوى التي تشاركها نهب خيرات الوطن وتجويع اهله والتلاعب بمستقبل اجياله. وحينما استعانت الأحزاب الحاكمة برموز البعث لضمان استمرار هيمنتها على موارد الدولة الأساسية وبالتالي التوغل في سرقة هذه الموارد، فإنها عملت بنفس الوقت على ان تساهم قوى البعث المجرمة ورموزها في التأثير على العملية السياسية، حتى وإن تبلور من خلال هذا التأثير بروز بعض وجوه الجريمة البعثفاشية على الساحة السياسية العراقية وتبؤها حتى مراكز قيادية في ادارة الدولة احياناً. لقد عملت هذه القوى، التي اختفت في جحور ظلامها بعد انهيار نظامها المقبور، على تعزيز مراكزها في مؤسسات الدولة المختلفة لتنطلق بعدئذ إلى الخطوة الأخرى التي شكلت من خلالها تجمعات ومنظمات اخذت تعمل بشكل علني ورسمي تحت مختلف المسميات التي عزتها إلى الديمقراطية التي ينص عليها الدستور العراقي، هذا الدستور الذي يسميه ثوار الشارع العراقي اليوم بالدستور الأعرج . وحينما تأكدت قوى البعث والجريمة من انفتاح الساحة السياسية العراقية امام محاولاتها في الولوج إلى قلب هذه الساحة، وحينما تأكدت ايضاً بان قوى الإسلام السياسي والقوى المشاركة لها في الحكم لا همَّ لها سوى جعل طرق اللصوصية ونهب خيرات الوطن سالكة لتنفيذ جرائمها ونشر فسادها المالي والإداري على كل ربوع الوطن، عملت على الدخول مع هذه القوى الإسلاموية القومية الشوفينية في لعبة المحاصصات السياسية التي سهلت لقوى البعث ممارستها دخولها الإنتخابات التي اعتبرتها في مراحلها الأولى بانها غير شرعية وغير دستورية فقاطعتها وعملت على التقليل من شأنها. إلا ان قوى البعث ورموزه الشريرة التي اصبحت في قلب العملية السياسية، مع الحلفاء الجدد تجار الدين وحملة التعصب القومي الأعمى، عملت على تعزيز مواقعها في كل مفاصل الدولة التي ارادت من خلالها قلب العملية السياسية من خلال تغيير بوصلة مسيرتها. فكان الإرهاب والعمليات الإرهابية التي قامت بها، بعد ان التقت مع المنظمات الإرهابية الوافدة من خارج وطننا، سبيلها الجديد لتحقيق ما ظلت تخطط له. وكل ما تمخض عن ذلك من تورط عصابات البعث ورموزها داخل وخارج العملية السياسية بكل الجرائم التي قامت بها عصابات الإجرام والتي ارتكبتها بحق اهلنا وآلاف الضحايا التي التهمتها التفجيرات والكواتم، يشير بما لا يقبل الشك بعد هذه الممارسات الكثيرة والطويلة بأن قوى الجريمة المنتشرة في وطننا تشكل حلفاً اجرامياً بين البعث وعصابات الإرهاب التي تعددت منظماتها باسماء مختلفة لتنتهي بالعصابات التي سيطرت عليها جميعاً بعدئذ والتي اتخذت من تنظيم داعش الإرهابي عنواناً جديداً لها لم تستطع قوى البعث إلا الخنوع له وتنفيذ اوامره في كل المواقع التي تتواجد فيها عصابات البعث في اجهزة الدولة العراقية ومن ضمنها، بل ومن اهمها البرلمان العراقي.
فالبرلمان العراقي اذاً اصبح والحالة هذه احدى المواقع التي تضم قوى البعث التي تأتمر باوامر داعش وتنفذ اجندتها، وهذا ما يعكس بالضبط تصرفات كل القوى التي وقفت ضد العلمية السياسية بعد سقوط البعثفاشية والتي اصبحت في نهاية المطاف في خدمة داعش وارهابها وتخضع لها عسكرياً حتى وإن لم تتفق معها فكرياً، وقد اثبت ذلك تحرير مدينة تكريت من الدواعش الذين تركوا خلفهم تابعيهم من البعثيين الذين تم اخراجهم بسلام من تكريت بموجب صفقة دبرها اعوانهم في البرلمان العراقي الذي يعج بهم. وعلى هذا الأساس فإن الشعارات التي يطلقها المتظاهرون والمحتجون على الفساد واركانه في العراق والتي يشخصون فيها تواجد قوى داعش الإرهابية داخل هذا البرلمان لها ما يبررها وهي لم تأت من الغيب، بل من تصرفات رموز البعث، حلفاء داعش، في البرلمان العراقي. ومن حق الشعب العراقي ان يتساءل ” اشلون انعيش بامان … والداعشي بالبرلمان ؟ ” او كيف يمكننا ان نثق بوجود ارادة حقيقية للتغيير ورؤوس الفساد الرافضة للتغيير، إلا حسب اجندتها، تعشعش كالزنابير الهائجة في هذا البرلمان. فما العمل والحالة هذه ؟
طالما كرر السيد العبادي بانه يريد تفويضاً من الشعب لإجراء إصلاحات قد لا تتفق وبعض نصوص الدستور المعمول به حالياً. ونجيب السيد العبادي على طلبه هذا بأن هذا الخروج الجماهيري الذي لم يشهده العراق في تاريخه الحديث، والذي تحول إلى ما يشبه الثورة الدائمة التي طرحت مطالب جماهيرية لا لبس فيها ولا تأويل ولا غموض والتي تتمحور جميعها حول قمع الفساد والفاسدين في كل اجهزة الدولة ومؤسساتها، بحيث طرحت اسماءهم كاملة وحتى بالصورة احياناً، ويحدث ذلك في اغلب محافظات العراق. إن لم يكن هذا تخويلاً من الشعب للبدء بالإصلاح الحقيقي والجذري لا الهامشي الشكلي، فكيف يكون التخويل إذن؟ وإن كانت مشكلتك مع هذا الدستور الأعرج الذي تعترفون جميعاً بصياغته على عجل وبمشاركة بعض مَن ليس لديهم خبرة ومعرفة علمية بصياغة الدساتير، بحيث خرج هذا الدستور وهو مشلول الحركة لما فيه من تناقضات جمة ونصوص لا يمكن لدولة يدعي قادتها من السياسيين تبني الديمقراطية والتأسيس للدولة المدنية، من جعله اساساً لوجودها بين مواطني بلدها وسمةً من سماتها بين دول عالم القرن الحادي والعشرين. إن كانت مشكلتك مع هكذا دستور فما عليك إلا ان توقف العمل به او تلغيه نهائياً بهذا التفويض الشعبي الذ ستجده ظهيراً لك فيما إذا حاول اللصوص سواءً في حزبك الحاكم، الذي يطالبك الشعب بتركه، او في احزاب اللصوص الأخرى الإسلامية منها والقومية الشوفينية، او من حثالات البعث الداعشية المعشعشة كالخفافيش في كثير من مؤسسات الدولة.
ولإتمام نجاح خطوة تعطيل الدستور هذه والسير بها نحو تحقيق الإصلاحات الجذرية لا الترقيعية، فما عليك، سيدي العبادي رئيس الوزراء، إلا استعمال هذا التفويض الشعبي المليوني لحل البرلمان الذي اثبت من خلال تصرفات معظم اعضاءه، خاصة اصحاب الكتل من تجار الدين وتابعيهم على كل سيئاتهم، بانه مؤسسة فاشلة تميل حيث تميل رياح السياسة اليومية، لا رابط يربطها مع الشعب ومطاليبه العادلة في توفير مستلزمات الحياة الإنسانية الحرة الكريمة.
ولكي لا تقع ضمن إغراءات كرسي الحكم ويحلو لك الإنفراد بالسلطة بعد الغاء الدستور وحل البرلمان، فما عليك إلا ان تستعمل هذا التفويض الشعبي ثانية باختيار المؤَهَلين الكفوئين النزيهين من بنات وابناء هذا الشعب ، وهم كثيرون جداً، لتشكيل حكومة وطنية من ذوي الخبرات العلمية والمهنية لكي تقود البلد في هذه المرحلة الهامة من تاريخه وتعمل على كنس دواعش الداخل والخارج من على ارض وطننا الطيبة التي لا مجال لمثل هذه الجراثيم على العيش فيها.
نصيحة اخيرة نقدمها للسيد العبادي مفادها ان موضوع الإصلاحات الجذرية الحقيقية لم يعد يحتمل التأجيل وإن قوى الشعب العراقي قد اصطفت موحدة الآن لا تلتفت للإنتماء الطائفي او القومي او العشائري قدر إلتفاتها للإنتماء العراقي الوطني الذي فتح امامها سبل النضال الثابت والواعي الهادف الذي لا يمكن خداعه بتلك الشعارات التي مارستها احزاب الإسلام السياسي بكل مذاهبه، بمشاركة المنتفعين والطفيليين واللصوص الذين عاثوا في البلد فساداً لأكثر من عقد من تاريخه الحديث. فما عليك إلا ان تغتنم هذه الفرصة التي لم يحظ بها سياسي عراقي قبلك ولا تتردد فيما نويت عليه، وكن صريحاً مع الجماهير التي سوف لن تتخل عنك إذا ما اخلصت في التعامل معها.