أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / قراءة في سجل الربان الكبير عصام عمسو

قراءة في سجل الربان الكبير عصام عمسو

كاظم فنجان الحمامي

يتعذر على أي عراقي منصف – من الذين عملوا في البحر في حقبة الستينيات والسبعينيات – اختزال حياة الكابتن العراقي الراحل (عصام عمسو) بكلمات مختصرة، فقد غرس هذا الرجل مفاهيمه التعليمية الصحيحة في عقول وقلوب الرجال الذين تدربوا على يده. كان مثالا شامخا للرجل الملتزم، وكان رمزا متميزا من رموز الموانئ العراقية في أوج عظمتها، وفي قمة ازدهارها.

الراحل من مواليد بغداد في الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1939، واسمه الكامل (عصام عبد المسيح عمسو). التحق عام 1951 بالمدارس البحرية البريطانية على نفقة الموانئ العراقية وهو في سن الثانية عشر، ووافته المنية في فلوريدا في الرابع عشر من آب عام 2015. كان رحمه الله من أوائل الملاحين الذين تلقوا تعليمهم البحري العالي في المملكة المتحدة، وكان يمثل أهم نجوم وعناصر الكوكبة الأولى، الذين طرزوا شواطئ العراق بفنارات متلألئة بالخير والعطاء الدائم، وتركوا بصماتهم التطويرية على واجهات الأرصفة، وفي منعطفات شط العرب. نذكر منهم شيوخ البحر من الربابنة الكبار: خالد الأسدي، ومضر سالم علوان، وطارق عبد الصمد النجم، ومحمود محمد أحمد المهنا، وعصام بني، وصبيح محمد صالح، وخلف صيهود سنباد، وباسم بلال، وسمير ناصر بولص، وصليوه يوسف، وضياء توفيق علي، وفاضل الجلبي، وباسل رؤوف صادق، الذين شاءت ارادة الحكومات الغبية أن يتأرجح مصيرهم بين خيارين اثنين لا ثالث لهما. أما الموت في الغربة، ومن ثم الرقود الأبدي في مقابر القارات البعيدة. أو الضياع في أرض الشتات من دون أن ينالوا أبسط استحقاقاتهم الوظيفية.

كان (أبو ميسون) أصغر مدير للشؤون البحرية، وأول مدير من الدفعات الفتية الأولى، الذين تلقوا تأهيلهم البحري العالي في المملكة المتحدة، لكنه وعلى الرغم من صغر سنه حقق نجاحاً فريداً في عمله، وكان له الدور الكبير في ارتباط العراق بالمنظمة البحرية العالمية، وله إسهامات مباشرة مع المشاور القانوني الأستاذ عبد الحليم جواد في صياغة قانون الخدمة البحرية المدنية، وفي تأسيس المدرسة المهنية البحرية، وفي تأسيس أكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية.

لو عدنا قليلا إلى الوراء لوجدنا أن الغالبية العظمى من الرواد الأوائل من العاملين في سفن الموانئ العراقية وسفن اسطول صيد الأسماك، وسفن النقل البحري وناقلات النفط، تخرجوا بإشراف وتوجيه الكابتن عصام عمسو، وعملوا معه عندما كان مديراً لدائرة الشؤون البحرية، كانت الحفارات في زمنه تعمل على مدار الساعة ومن دون توقف في جميع المقاطع الملاحية الضحلة، والممرات الضيقة. كان انتاجها اليومي يضاهي انتاج حفاراتنا السنوي هذه الأيام.

كانت السفن الخدمية العاملة بتوجيهاته تعمل من دون انقطاع، ومن دون عطلات مفتعلة، ومن دون تصرفات مريبة. وكانت عمليات المناورة والإقلاع والإرساء لكل السفن الأجنبية المترددة على الموانئ العراقية تجري على قدم وساق من دون حوادث. فالرجل الذي نتكلم عنه كان هو المايسترو المسيطر على تحركات السفن والوحدات العائمة في أدق مفاصلها المعقدة.

لا أذكر أنه دخل مقر الموانئ العراقية من دون ارتداء ملابسه الرسمية، ولا أذكر أنه صعد في يوم من الأيام إلى برج القيادة بملابسه الرياضية أو بقميص النوم، كان غليونه المعبأ بأفضل أنواع التبوغ يضوع بروائح النكهات المنعشة، وينفث سحب الدخان المعطر بالعزة والافتخار، فينشر عبق الأصالة والرقي في أروقة القسم البحري.

أذكر أنه (رحمه الله) كان شديد الحرص على تطبيق الأنظمة البحرية الصارمة، من دون أن يتحيز لأحد، ومن دون أن تكون لديه أية ميول طائفية أو عرقية، ولا أذكر اننا سمعنا بمفردات الفساد الإداري في تلك الحقبة المتميزة بالعفة والنزاهة والتكامل.

لكن حظوظنا البائسة هي التي حرمتنا من هؤلاء القادة الأفذاذ، فقد وقعت المناصب العليا في مرحلة الثمانينات بيد المتحزبين والوصوليين والانتهازيين والمتذبذبين والمتملقين والمتزلفين، الذين توحدوا جميعهم في استفزاز أصحاب الكفاءات النادرة، وتخصصوا بإزعاج أصحاب المواهب الرائعة، كان المتطفلون يعملون ليل نهار من أجل التخلص من هذه القامات السامقة، والاستغناء عنها نهائيا بأساليب كيدية واهية. فكانت محطات الهجرة هي الملاذات الآمنة للهاربين من المضايقات المستمرة، وهي الخيار الأفضل في مغادرة العراق إلى غير رجعة. وهكذا ألقى الكابتن (عصام) مراسيه في المرافئ الأوربية والغربية البعيدة، ليدير موانئها ويشرف على عملياتها المينائية، فكان هو العنصر الفاعل واللاعب الماهر في الملاعب البحرية الدولية.

رحل الربان عصام عمسو إلى جوار ربه، لكنه خلف وراءه عشرات الرجال والقادة من الذين ساروا على نهجه، والتزموا باستقامته، فكانوا هم الأوفياء لهذا البلد الذي تحامل عليه الغرباء وأصحاب العقول المعطوبة والنفوس المريضة.

كنت اتحدث معه عبر الهاتف المحمول قبل وفاته بعامين اثناء وجودي على ظهر سفينة الحاويات (MAG PEARL)، كانت فرحته لا حدود لها عندما سمع أخبار تلاميذه الذين حملوا على أكتافهم وزر إدارة أسطول الموانئ في أحلك ظروفها. كان مسرورا مبتهجا بما حققه لأهله ولبلده. وهذا هو الوفاء الوطني العظيم، الذي ظل ينير الطريق لأجيال وأجيال من الخبراء البحريين والمهنيين بدعم وتوجيهات هذا الرجل العملاق.

الرحمة والخلود لأبناء العراق الذين شاءت الأقدار أن يموتوا بعيدا عن أرضهم وديارهم، واللعنة الدائمة على الذين حاربوهم وتسببوا في تهجيرهم.

ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين