أحمد الشرقاوي / مصر
منذ عقود والعرب ينتظرون في محطة القطار عودة “غودو” ليخلصهم من مَّا هم فيه من بؤس ويأس ويحول حلمهم إلى حقيقة.. لكن “غودو” لم يأتي برغم طول انتظار، لأن الانتظار بحد ذاته هو عين العبث كما عرَّفه الكاتب الإرلندي الشهير ‘صموئيل بيكيت’ في مسرحيته الرائعة (في انتظار غودو) أو (Waiting for Godot) أو (En attendant Godot)..
لا أحد يعرف من هو ‘غودو’ بالتحديد، قد يكون في مخيال العرب نسخة مستحدثة من ‘صلاح الدين’ الكردي، وقد يكون “عمر بن الخطاب” بالنسبة للمسلمين “السنة”، أو “المهدي المنتظر” بالنسبة للمسلمين “الشيعة”، أو “قيامة المسيح” بالنسبة للمسلمين والمسيحيين معا.. أو ربما هو ‘أبو علي بوتين’ الذي لم يرد ذكره في نبوءات آخر الزمان..
وفي انتظار عودة هذا “المجهول” المسمى “غودو” من خلف حجب الغيب، يقبـع الناس في يأسهم صامتين، لا يتحاورون، لا يبحثون عن حلول، لا يفعلون شيئا للخروج من واقعهم السيئ، ربما لأن “المصيبـة” التي حلت بهم أكبر من أن يجدوا لها حلولا بالحوار، لأنها تتجاوز قدرتهم على الفهم والإدراك، وخير سبيل للهروب من هذا المأزق المخيف هو الانتظار في سكون..
لكن انتظار ماذا؟.. هل تحول ‘غودو’ بالنسبة للعرب إلى رديف للموت؟.. ربما لأنهم يعتقدون أن في الموت الخلاص، عملا بمقولة أبو العلاء المعري: (تعب كلها الحياة فما أعجب *** إلا من راغب في ازدياد).. لكن، أليس في ما بعد الموت رعب أشد من تعب الحياة؟..
سورية لم تنتظر ‘غودو’، لأنها تعرف أن ‘صلاح الدين’ المدفون في أرضها لن يعود، وأن لا حل لديها سوى مقاومة العبث، عبث الانتظار وعبث الاستسلام للأقدار المفروضة عليها من قبل تجار الحرب، ووكلاء الغدر المعلـّب، وشياطين الخراب في العصر الحديث..
صحيح أن سورية نجت بأعجوبة من السقوط في يد ‘بوش الصغير’ الذي كان يقول عن نفسه أنه “كليم الله” بعثه ليدمر العراق وسورية وحزب الله وإيران… كي لا يقاوم أحد بعده “شعب الله المختار” الذي وعده الله بأكل التفاح بالعسل في أرض الميعاد رغم كيد العرب وإصرارهم على رمي اليهود في البحر..
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفينة سورية، ولم يعد العدو الظاهر هو “إسرائيل” فحسب، والتي كانت تتحضر له بما تستطيع من قوة منذ عقود، وبنت عقيدة جيشها على أساس مواجهته الحتمية، فخرج لها من حيث لم تكن تحتسب عدو يوازيه إن لم يكن يزيد عليه في التوحش والإجرام، عدو تكفيري من جلد الأمة وما هو منها ولا علاقة له بدينها ولا قيمها وأخلاقها، عدو أنتجته أنظمة الردة العربية والنفاق الإسلامي التي كان يفترض أن تكون نصيرا لسورية في محنتها وسندا لها في مواجهة الإحتلال، فلم تجد من المؤمنين لدفع البلاء عنها سوى شرفاء حلف المقاومة الذين أخلصوا الدين لله ولم يبدلوا تبديلا..
حينها، أدركت سورية أن ‘باراك حسين أوباما’ هو أسوء من ‘بوش الصغير’ بكثير، لأن مبعوث الشيطان “الأسود” اعتبر نفسه “سيف الله المسلول”، وقدر أن مهمته الأساس هي قتال أعداء “إسرائيل” بعدو من ملتهم كي يشتبه الأمر عليهم فيذبح بعضهم بعضا، فقرر خوض الحرب في وعلى سورية بالوكالة، باعتبارها الحلقة الذهبية في محور “الشر” إذا سقطت سقط المحور بأكمله، وهو ما يفسر لجوء ‘أوباما’ الجبان لإدارة الصراع من الخلف بأقنعة ثلاثة من باب التعمية والتضليل:
* قناع ‘باراك’ الصهيوني الذي ساعد “إسرائيل” كما لم يساعدها رئيس أمريكي من قبل، ويفتخر بذلك علنا دون خجل أو حياء..
وقناع ‘حسين’ “المتأسلم” الذي ظل يتأرجح بين المذهب النووي الشيعي والمذهب الداعشي الوهابي، إلى أن تموضع كمدافع عن “السنة” العرب إلى جانب ‘آل سعود’ اليهود..
وقناع ‘أوباما’ المسيحي “البروتستانتي” المناهض للمسيحية الأرثوذكسية المشرقية، والذي قام بتهجير أبنائها من المشرق العربي لتسود القيم البروتستانتية – اليهودية بديلا عن كل القيم والثقافات، حتى إذا قام المسيح عليه السلام، لن يجد في القدس غير اليهود، فيحل الظلام ويسقط مشروع “الوعد الثالث” القرآني، أو “يوم الله الأكبر” التوراتي الذي ينتظره اليهود برعب يفوق التصور..
وبالفعل، استطاع الشيطان الأمريكي اللعب بالورقة المذهبية في المنطقة بنجاح، فاستبدل العداء لـ”إسرائيل” الصهيونية العنصرية المجرمة، بالعداء لإيران المسلمة المسالمة التي لم تعتدي على أية دولة عربية أو غربية منذ فجر الثورة، بل هي من اعتدى عليها الأعراب خوفا من أن يتحول “الإمـام” إلى “غودو” يخلص الشعوب العربية المستضعفة من ما هي فيه من فقر وجهل وذل وهوان، برغم ما حباها الله به من نعمة القرآن وخيرات لا تنضب ومقدرات لا تفنى..
هكذا أصبح ‘باراك حسين أوباما’ أول رئيس أمريكي منظر للحروب الطائفية المقيتة في المنطقة، بتوجيه من ‘كيسنجر’ الذي بشر العرب بحروب دينية لا تنتهي قبل عقود من القتل والخراب.. ثم يقولون أن الحرب في سورية وعلى سورية حرب أهلية ضد الديكتاتورية ومن أجل الحرية وحقوق الإنسان، يخوضها إرهابيون قدموا إلى بلاد الشام من كل حدب وصوب، ولا علاقة لهم بسورية وشعبها، ولا بحرية أو ديمقراطية، ولا بكل العهر السياسي الذي يتحدث عنه “الشيطان الأكبر” فيصيبك حديثهم بالقرف والغثيان..
وللمفارقة، أصبحنا نسمع أمريكا “العلمانية”، واحة “الحرية” والمدافعة عن “الديمقراطية” في العالم، تدافع عن “الإرهاب السني” وتصنفه في خانة “المعارضة المعتدلة”، وتقول أن الرئيس ‘الأسد’ لا يمكن أن يحكم سورية لأن 65 مليون “سنـي” في المنطقة لا يوافقون على بقائه.. لكن إذا سلمنا جدلا بهذا المنطق “الديمقراطي” المبتدع، وطبقناه على الحالة “الإسرائيلية” مثلا، فكم مليون من سنة وشيعة ومسيحين وغيرهم سيقبلون بوجود الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين؟..
نترك الجواب للسيد ‘جون كيري’ الذي يدافع عن ديمقراطية “الإرهاب” و”يهودية إسرائيل” التي يبرر بها حق المغتصب في الدفاع عن احتلاله للأرض وممارساته العنصرية والإجرامية ضد شعب أعزل يقبع تحت الإحتلال منذ أكثر من ستين سنة، ويعتبر كل من يقاوم الهيمنة والظلم والذل والهوان الصهيوني، “إرهابـي” لا يستحق الحياة..
والحقيقة أن المنطق الأمريكي العجائبي والغرائبي لا يقف عند حد، لأنه إذا كان التحريض المذهبي ضد إيران يجد تبريره في الموروث الثقافي التاريخي القديم الذي تفشى في جسد الأمة كالسرطان بسبب الجهل، فما لا يمكن فهمه هو لجوء الإدارة الأمريكية لنفس التبرير لتحذير روسيا من مغبة الحرب على الإرهاب، لأن من شأن ذلك أن يحولها إلى عدو لهذه “السنـة” في المنطقة والعالم..
والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: هل الإرهاب أصبح ماركة مسجلة باسم “السنة”، ما يعني أن محاربته هي محاربة للمسلمين “السنة” في العالم؟.. وما علاقة أمريكا بالإسلام “السني” تحديدا؟.. ألا يثبت هذا المنطق المفلس أن أمريكا ضالعة في استغلال الدين في السياسة، ونصبت نفسها الناطق الرسمي باسم “السنة” في العالم العربي والإسلامي من دون وجه حق؟..
نقول هذا على ضوء البيانات التحريضية النارية التي صدرت مؤخرا عن فقهاء الجهل المحسوبين على “الإخوان”، وحاخامات الظلام المحسوبين على “الوهابية”، وأعلنوا بموجبها النفير العام للمسلمين “السنة” في كل مكان للالتحاق بسورية من أجل خوض “حرب مقدسة” ضد روسيا “الصليبية” في سورية، في حين لم نسمع هؤلاء الحوافيش المفلسين أخلاقيا يحركون ساكنا ضد أمريكا التي أعلنت الحرب ضد الإسلام، ولا ضد ما تقوم به “إسرائيل” من إجرام في حق الفلسطينيين العزل وتدنيس لمقدسات المسلمين والمسيحيين على حد سواء.. فيا للغرابة (!).
*** / ***
ما من شك أن ‘باراك حسين أوباما’ هو “المسيح الدجال” بلحمه وشحمه، أرسله الشيطان الرجيم لينوب عنه في نشر الفوضى والخراب في بلاد العرب، وأن الحلف الطلسي هو “الدابة” الموعودة في الكتاب، لأن “الدابة” ليست بالضرورة حيوان، بل هي رمز لكل من يدب في الأرض فيعثو فيها موتا وفسادا وخرابا، ولأن حلف “الناتو” بجبروته هو التجسيد العملي لأفعال “الدابة”، ووصفها بأنها “الجساسة” في الحديث الذي رواه تميم الداري، ينطبق تماما على الحلف الأطلسي، لأنه الدراع العسكري والاستخباراتي الذي يقوم بالتجسس على كل سكان الأرض لصالح “الدابـة” التي هي إمبراطورية الشر والإرهاب بامتياز..
ولم يكن من باب الصدفة قول شيخ الفتانين الحاخام ‘يوسف القرضاوي’ (له من الله ما يستحق)، بمناسبة قصف حلف الناتو لليبيا: “إن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو بعث بيننا من جديد، لما وسعه إلا القتال في صفوف ‘الناتو’ ضد القذافي”..
كما وأننا رأينا بأم العين “الدخـان” الذي هو من أشراط الساعة يتصاعد من ليبيا ومن العراق ولبنان وغزة وسورية واليمن، فتحمله الرياح ليتكدس على شكل سحب ملبدة فوق سماء الشام التي توشك أن تمطر قملا وضفادعا ودمـا..
كما أن “داعش” و”النصرة” وكل مشتقات “القاعدة” هم التجسيد العملي لأعمال يأجوج وماجوج في الأرض، لأنهم أهل فساد وشر وقوة لا يصدّهم شيء عن ظلم من حولهم كما وصفهم القرآن، وقال عنهم أنهم (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)، ويتكاثرون ويتمددون كالفطر المتوحش الذي ينمو في العفن مع الريح دون زراعة، وقدوم التكفيريين والمرتزقة المجرمين من كل أصقاع الأرض إلى بلاد الشام، هو التفسير العملي والواقعي الذي يؤكد أن التكفيريين هم وحوش يأجوج وماجوج الذين تحدث عنهم القرآن إلى أن يثبت العكس.
إلى هنا تبدو الأمور واضحة من ناحية تأويل نبوءات أشراط الساعة الكبرى، وإن خالفت بعض الاجتهادات القديمة التي لم تكن مؤسسة على قراءة موضوعية للواقع كما نعيشه نحن اليوم بالمشاهدة.. لكن ما ليس واضحا حتى الآن هو من يكون هذا الرجل المسمى “أبو علي بوتين”؟، والذي يبدو أنه يحظى باحترام وتقدير “الشيعة”، فيما يكرهه “السنة” المحسوبين على التيار الوهابي التلمودي والتيار الإخونجي الماسوني..
بحثت في الأسفار القديمة، لكنني لم أجد شيئا يساعدني على معرفة محل ‘أبو علي بوتين’ من الإعراب في النبوءات المتداولة في التراث، فهل قررت السماء تغيير الأقدار كسبا للوقت وتلافيا للأسوأ كي لا تحل الكارثة بالمنطقة، في انتظار أن تنضج الظروف والشروط لقيامة أجناد الشام وأجناد العراق وأجناد اليمن الموعودين بتحرير مقدسات المسلمين في الحجاز وفلسطين؟.. لأن هذا هو ما تعمل الصهيونية اليهودية والغربية والعربية على الحؤول دون تحققه من خلال التركيز تحديدا على تدمير وتقسيم وزوال سورية والعراق واليمن بشكل انتقائي لا يمكن أن يقرأ إلا في إطار الرؤيا النبوية الشهيرة للصراع بين الكفر والإيمان في آخر الزمان..
إن لله في خلقه شؤون، ويضع سره في من يختار من خلقه، ولا أحد يستطيع فهم لغز مجرى الأحداث إلا بعد وقوعها، ففي عصر الردة العربية الذي نعيشه اليوم، لا أمل يرجى من حكومات الأعراب الصهيونية المرتهنة للغرب الإمبريالي، ولا أمل يعلق على جماعات الإسلام السياسي التي كانت السبب في كل ما حل بالأمة من كوارث منذ المئة سنة الأخيرة بسبب ارتباطاتها المشبوهة بالغرب الأطلسي طمعا في مساعدتها على استلام السلطة، وبالتالي، لا يمكن الحديث عن الوضع القائم اليوم في المنطقة بمنطق نصرة غير المسلمين على قتال المسلمين، لأن العدو التكفيري الذي نواجهه لا يمكن أن يكون مسلما بكل المقاييس الدينية والعقلية بالنظر إلى فساده الذي تزول من هوله الجبال..
وبهذا المعنى، فدخول الروسي والإيراني وحزب الله لإنقاذ سورية والعراق والمنطقة من الجحيم الذي أشعله الشيطان الأمريكي الرجيم بمساعدة دابته الجساسة من مخابرات “الناتو”، وأدواته من الأعراب الصهاينة بالإضافة إلى تركيا والأردن و”إسرائيل”، الذين فتحوا الحدود التي تسلل منها يأجوج وماجوج القادمين من كل حدب وصوب لتخريب سورية والعراق ولبنان واليمن.. هو دخول لقوم مؤمنين بالله من غير الأعراب المنافقين المتاجرين بالدين في سوق النخاسة السياسية، قوم أحبهم الله وأحبوه، قوم يناصرون الحق ضد الظلم والعدوان والباطل، قوم يدافعون عن أقدس المقدسات عند الله تعالى ألا وهو الحق في الحياة الآمنة الكريمة التي جعل الله حرمتها أسمى من حرمة بيته الحرام..
والله ينصر من يشاء من عباده، وهو العزيز الحكيم.
بانوراما الشرق الاوسط