د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
كثيرةٌ هي المشاهد المؤلمة التي تشهدها أرضنا الفلسطينية في ظل انتفاضة القدس وقبلها، على مدى الوطن كله وامتداد شعبه في أرضه وشتاته، فلا يكاد يخلو يومٌ من مشاهد قاسية، وأحداث مؤلمة، باتت تجوب الأرض الفلسطينية كلها، وتوحد بالدم بينها، وتجمع بالمعاناة بين أطرافها، وتصبغ بالحزن أيامها، وتقوي بالإحساس الوشائج بين أبنائها، وتعمق بيقينٍ الأمل بين أهلها، حتى أصبحت مشاهد يومية، ومظاهر طبيعية تميز الأيام كلها، وتجعل منها حالاً واحداً لا يتغير، وزمناً متشابهاً متصلاً بلا انقطاع.
تحول الشطر الشرقي من مدينة القدس، حيث المسجد الأقصى وبواباته، والأحياء العربية الإسلامية فيها، بالإضافة إلى القرى والبلدات المقدسية، إلى ثكنةٍ عسكريةٍ إسرائيلية، وقد غصت شوارعها بمئات الجنود وعناصر الشرطة المدججين بالسلاح، وبدورياتٍ عسكرية راجلة وعرباتٍ عسكرية صغيرة وكبيرة، محصنة ومصفحة، وبدورياتٍ غيرها على ظهور الخيل، تجوب الأماكن الضيقة، وتدخل إلى الشوارع المخصصة للمشاة فقط، بالإضافةٍ إلى عناصر أمنية متخفية بلباسٍ مدني، ومجموعاتٍ إسرائيلية مستعربة بأزياء فلسطينية، وكأن مدينة القدس تحتل من جديد.
جميع الدوريات على أهبة الاستعداد، يحملون بنادقهم الآلية، وأصابعهم على الزناد جاهزة، وآخرون بالزي المدني أو من المستوطنين والمتدينين، يحملون مسدساتهم ويشهرونها باستفزازٍ وتحدي في وجوه المارة، يهددون بها ويتوعدون، ويستعدون لاستخدامها ضد أي فلسطيني يشتبهون فيه، أو يعتقدون أنه ينوي مهاجمتهم والاعتداء عليهم، وهم يعلمون أن قانونهم معهم، وحكومتهم تؤيدهم، ولا يوجد من يتهمهم ويحاسبهم، وعناصر الشرطة والجيش حولهم تحميهم وتدافع عنهم، وتعتقل كل من تشك فيه، أو لا يعجبها شكله أو هيئته، أو يلفت نظرها صوته وحديثه، أو حماسته واستعداده، ولا ينجو من الاعتقال أو الضرب امرأة ولا طفل ولا شيخ عجوز يمشي على عكازة.
لا تخلو بوابات المسجد الأقصى جميعها من مئات المستوطنين الإسرائيليين، والمتدينين المتطرفين، والمئات من طلبة المدارس الدينية الشبان، الذين يستفزون المارة، يسبونهم ويشتمونهم، ويؤذون مشاعرهم ويخدشون أحاسيسهم، ويستفزونهم بشتم العرب وسب الإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويرفعون أصواتهم بالشتائم والكلمات البذيئة والنابية، بينما تحميهم عناصر الشرطة الإسرائيلية، التي يحتمون بها وتدافع عنهم، حيث يستغلون وجودها للقيام بمزيدٍ من الاستفزازات والإهانات، في حين تقوم الشرطة بضرب وسحب واعتقال كل من فكر من العرب، من الرجال أو النساء، بأن يرد على طلاب المدارس الدينية اليهودية عليهم شتائمهم وإهاناتهم.
جميع المستوطنين الإسرائيليين لديهم القدرة على استخدام السلاح، بعد أن سمحت لهم قراراتٌ حكومية وأخرى تشريعية وقضائية، بجواز استخدام الأسلحة النارية للدفاع عن النفس، أو لرد الخطر وصده، وقد تبين بالصور الموثقة، أن مستوطنين مارةً، أطلقوا النار على فلسطينيين كانوا يتواجدون في محيط الأحداث، دون أن يكون لديهم علمٌ مسبقٌ أنهم مشتبهٌ بهم، أو أنهم قاموا بالطعن فعلاً، وقد سأل أحد المستوطنين بعد أن نفذ بيده عملية القتل، إن كان الفلسطيني القتيل قد طعن أو قتل أحداً، الأمر الذي يشير إلى أن الإسرائيليين يتعمدون استخدام الأسلحة النارية وتنفيذ القتل، بغض النظر عن وجود مبررات .
استغل المستوطنون الأحداث وانفلتوا من عقالهم، وكأنهم خنازير برية خرجت من حظائرها، يجتاحون من في طريقهم، فيدهسون ويصدمون، ويقتلون ويجرحون، ثم يدعون أنهم كانوا يدافعون عن أنفسهم، وأن من قتلوهم كانوا ينوون مهاجمتهم أو طعنهم، وهم يعلمون أنهم كاذبون، وأنهم فقط يحاولون تبرير فعلتهم، وتبرئة أنفسهم من الجريمة المقصودة، إذ يدسون في ثياب الضحية الفلسطيني سكيناً، أو يضعونها في يده، أو يلقونها بالقرب منه، والصور التي تنشر إثر كل حادثة تفضح ادعاءاتهم، وتكشف بشاعة أفعالهم.
كما عمد المستوطنون كعادتهم إلى مهاجمة البيوت والمنازل الفلسطينية في مختلف مدن الضفة الغربية، وخاصة تلك القريبة من المستوطنات الإسرائيلية، أو القريبة من الشوارع والطرقات العامة التي يرتادونها، ويمطرونها بالحجارة، ويكسرون النوافذ الزجاجية والأبواب الخارجية، كما يقومون باعتراض سيارات الفلسطينيين المارة، ويقذفونها بالحجارة، يهشمون زجاجها، ويؤذون ركابها، وفي حال توقف بعضها ونزول سائقها ، فإنهم قد يقتلونه بتهمة محاولة دهسهم والاعتداء عليهم.
أما في مدينة القدس وبلداتها العربية، فإنهم لا يكتفون بمهاجمة البيوت والمنازل وقذفها بالحجارة، بل يقوم بعض المستوطنين باقتحامها، ويخرجون السكان عنوةً وبالقوة العنيفة منها، وأحياناً تحت سمع وبصر جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين يكتفون بالمشاهدة، أو بحماية المستوطنين في حال تعرضهم للخطر، الذين يقومون برمي أثاث سكانها العرب خارج البيوت، ويجبرونهم على المغادرة تحت تهديد السلاح، ثم يحتلون البيوت ويقيمون فيها، ويأتون معهم بنساء وأطفالٍ للإقامة في البيوت المغتصبة، بينما تقف الشرطة الإسرائيلية عاجزة عن إخراجهم، وتطالب العائلات الفلسطينية المتضررة باللجوء إلى البلدية أو القضاء للنظر في قضيتهم، والمطالبة بإخراج المستوطنين منها، على أن يبقى الحال على ما هو عليه حتى يقول القضاء كلمته.
يظن الإسرائيليون أن الإجراءات المشددة، والعقوبات المغلظة القاسية التي قررها رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو ضد المتظاهرين والثائرين الفلسطينيين وذويهم، أنها ستحد من اندفاعهم، وستضع حداً لغضبتهم، وستجبرهم على العودة إلى بيوتهم، والقبول بالمستجدات اليهودية، وستجعلهم يغضون الطرف عن استفزازات المستوطنين والحاخامات، ومحاولات الاقتحام المتكررة التي يقوم بها ساستهم المتطرفون، ووزراؤهم ونوابهم المتشددون، لكن الواقع أثبت غير ذلك كلياً، وأسقط معادلتهم، وسيفشل مع الأيام رهانهم، وسيعلمون أن الفلسطيني قرر أن يقاوم بعنادٍ، فيستشهد عزيزاً، أو يثبت صامداً، وأنه لن يسمح أبداً لمخططاتهم أن تمر أياً كانت التضحيات والدماء المبذولة، حمايةً لمقدساتهم، وحفاظاً على وجودهم الخالد في الأرض المقدسة.