أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (22) / الاحتلال يقتل في غزة وعينه على الضفة

الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (22) / الاحتلال يقتل في غزة وعينه على الضفة

د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين

يتعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل المتظاهرين الفلسطينيين في قطاع غزة، واعتراض مسيراتهم، وفض تجمعاتهم، والاشتباك مع شبانهم، وإطلاق النار عليهم، وتعمد إصابتهم في الأجزاء العلوية من أجسادهم ضماناً وتأكيداً على قتلهم، بل إنه يقنصهم باستهتارٍ واستخفافٍ بالإنسان الفلسطيني عن بعدٍ في لهوٍ وعبثٍ، وسباقٍ بين جنوده وتنافسٍ، أيهم يقتل أكثر ويصيب بدقةٍ أكبر، بينما يصورون بفرحٍ عمليات القنص والقتل، ويحتفظون بها ذكرى لهم، وشيئاً يفاخرون به غيرهم.
ينتقي جيش الاحتلال ضحاياه بهدوءٍ وأعصابٍ باردة، وكأنه يقرر في كل يومٍ بدراسةٍ وعنايةٍ مشددةٍ عدد القتلى ومناطقهم، فينوع بينهم ويشكل في أعمارهم، ويمزج بين مناطقهم، وكأنه يريد أن يوزع الدم الفلسطيني بين الجميع، ويساوي بين المناطق، فيتعمد القتل والإصابة المباشرة، رغم أن المتظاهرين لا يشكلون خطورةً عليه، ولا يهددون أمنه، ولا يقتربون من عناصره، إذ أنهم يتظاهرون بعيداً عنه، وإن اقتربوا من الحدود فإنهم لا يتجاوزون الأسلاك الشائكة، ولا يوغلون كثيراً في المناطق العازلة، ولا يقتربون من مناطق مصنفة أنها خطرة، حيث يمنع المواطنون من الاقتراب منها أو الدخول إليها دائماً.
يشعر سكان قطاع غزة المعزولون عن العالم، والمفصولون عن المحيط والجوار، والمحاصرون من الأشقاء والأعداء، بكثيرٍ من الحزن والأسى، والضيق والكرب، أنهم لا يستطيعون مشاركة شعبهم في الضفة الغربية والأرض المحتلة عام 48 في انتفاضتهم المباركة، التي أبلوا فيها بلاءً حسناً، وقاموا بعملياتٍ رائعةٍ وصمودٍ بطوليٍ كبير، أدهش شعبنا وأمتنا، وأثبت للعالمين كافةً أن هذا الشعب حرٌ كريمٌ، وأنه لا يسكت على الذل ولا يقبل بالضيم، وأنه سرعان ما يثور على المحتلين الغاصبين أياً كانت قوتهم وسلاحهم.
يريد أبناء قطاع غزة أن يشاركوا شعبهم أعمال وفعاليات هذه الانتفاضة العظيمة، ولا يحبون أن يكونوا بعيداً عنها أو غير مشاركين فيها، أو متفرجين عليها، فهم جزءٌ من الوطن أصيلٌ، وقطاعٌ من الشعب كريمٌ، وهم الذين كان لهم فضل المساهمة الخلاقة المبدعة في الانتفاضتين السابقتين، التي اصطبغت بجهودهم، وعرفت بشهدائهم، وانتهت بإنجازاتهم، وبدأت من مخيماتهم، فلا يتصورون أنفسهم بعيدين عن الثالثة الجديدة، التي هي للقدس الثانية، ولهذا فهم يخرجون كل يومٍ إلى المناطق الحدودية لقطاع غزة، يتظاهرون ويهتفون، علهم يغيظون العدو ويؤذونه، وقد يقذفونه بالحجارة رغم أن أغلبها لا يتجاوز الأسلاك الشائكة بصعوبة، ويحتاج وصولها إلى الجانب الآخر إلى مخاطرة ومجازفة، وقوة وقدرة، هو ما لا يتوفر لدى الجميع دائماً.
لكن العدو الصهيوني الذي يقف على الجانب الآخر من الحدود، يعرف تماماً أن حجارة الغزيين لن تصله، وأن هتافاتهم لن يسمعها، وأنه لن يطاله منهم أذى أو سوءٌ، وهو يرى أن من المتظاهرين أطفالٌ صغارٌ، وشيوخٌ كبارٌ، وأن الناس تخرج للتضامن وإعلان التأييد أكثر مما هي للمواجهة ورمي الحجارة، لكنه مع ذلك يتربص بالمتظاهرين ويقف لهم بالمرصاد، لا ليصدهم بل ليقتلهم، ولا ليمنعهم من اختراق الحدود أو تهديد أمنه، فهو يعلم أنهم لا يستطيعون أو لا يريدون، إذ أنهم يعلمون أن العدو يريد أن يستدرجهم إلى معركةٍ يطفيء لهيبها شمعة الانتفاضة، وتطغى بعنفها وقوتها وضراوتها على حركة الانتفاضة الغضة الفتية، بعد أن عجز عن مواجهتها بقوته العسكرية وعتاده القتالي المتفوق، وجنون مستوطنيه الأرعن.
هل يريد العدو الصهيوني أن يمنع سكان قطاع غزة من التضامن مع شعبهم، ومن الوقوف معه ومساندته، وتأييده وتشجيعه، عبر مظاهراتٍ أشبه ما تكون بالمظاهرات السلمية، والمسيرات التضامنية، والمهرجانات الشعبية، إذ أنها لا تشكل على جيش العدو وجنوده خطراً، ولو أنها تشكل خطراً فإنه خطرٌ بسيط يمكن السيطرة عليه والتحكم فيه، ولا يوجب أبداً ولا يجيز استخدام القوة النارية ضدهم، علماً أن الإسرائيليين لا يقصدون فض المظاهرات ولا تفريق الجموع، لأنهم يعرفون أن الفلسطينيين يزدادون قوةً عند التحدي، ويصرون أكثر عند المواجهة، ولا يقبلون بالتهدئة والسكون خوفاً من القوة العسكرية للعدو، أو تحسباً من بطشه واعتدائه، فهم قد تعودوا على عدوهم وخبروا أسوأ ما عنده، وذاقوا أكثره مرارةً وسماً، ومع ذلك ما خضعوا له يوماً، ولا استسلموا إليه أبداً.
لعل كل قوانين الدنيا وأعراف الكون، وتقاليد الدول وسياسات الحكومات لا تمنع شعباً من أن يقف مع شعبه، وأن يؤازره وينصره، ولو كان يخضع بالقوة للاحتلال، بل إن كل القوانين والسوابق تجيز ذلك وتقبل به وتتعامل معه، وعليه فلا يوجد أي تفسيرٍ لما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي على حدود قطاع غزة، إلا أن يكون ما تقوم به جزءاً من حقدها الدفين، وكرهها القديم، وثارها المبيت مع قطاع غزة، فتريد أن تعبر عنه ما استطاعت بالمزيد من القتل والخراب، فتنتقم منه وتعتدي عليه، وهو الذي اعتاد منذ القدم أن يمرغ أنفها في التراب، وأن يذل كبرياء قادتها، ويكسر هيبة جيشها، ويهين كرامة حكومتها.
العدو الإسرائيلي يريد أن يهرب في غزة إلى الأمام، فيجرها والفلسطينيين إلى حربٍ ومعركةٍ كبيرة، يعتقد واهماً أن الغلبة ستكون له فيها، إذا نجح في جر المقاومة الفلسطينية إلى قصف مستوطناته القريبة أو البعيدة بالصواريخ، وتهديد أمن مستوطناته ومدنه، ومنشآته ومصالحه، ولو أدت صواريخ المقاومة إلى سقوط بعض القتلى الإسرائيليين، فإن ذلك سيخدمهم أكثر، وسيعجل في قرارهم المبيت، إذ أنه سيبرر لهم استخدام القوة المفرطة، وإشعال فتيل حربٍ جديدةٍ في غزة، ستكون هي المفتاح السحري للقضاء على الانتفاضة، وإطفاء لهيبها، التي يتعذر على الإسرائيليين إيجاد مفتاحٍ لها، تستجيب له وتقبل به، وتعيد الأوضاع به إلى سابق عهدها، وإلى ما كانت عليه قبلها.