السيمر / 07 . 12 . 2015
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
الانتفاضةُ الفلسطينية الثالثة حدثٌ كبيرٌ، وفعلٌ مقاومٌ لها أثرٌ عظيمٌ، وسيكون لها نتائج ملموسة، وآثارٌ في المستقبل مرصودة، وهي وقد دخلت شهرها الثالث، فلن تكون حدثاً عابراً، ولا هبةً وتخبو، ورياحاً هوجاء وستسكن، أو عاصفة شديدة وستهدأ، وهي ليست ظاهرة لها عمرٌ محدودٌ وستذوي أو ستموت، وإن كان هذا هو قدرها ومصيرها في نهاية المطاف، ولكن بالتأكيد ليس قبل تحقيق الأهداف وقطف الثمار المرجوة منها، فهي أحد الأدوات والوسائل النضالية الإبداعية التي يلجأ إليها الفلسطينيون من وقتٍ لآخرٍ، تماشياً مع الظروف، أو تحدياً للواقع، وتصدياً للإجراءات الأمنية والعسكرية القاسية التي تتخذها حكومة العدو.
لن يقبل الفلسطينيون وهم الأقوى بإرادتهم، والأصدق في مقاومتهم، والأكثر عدالةً في قضيتهم، بالعودة من الانتفاضة خاوي الوفاض، أو كما يقول المثل العربي “بخفي حنين”، فهم لن يرضوا بالخسارة، ولن يقبلوا بأن تذهب تضحياتهم سدىً أو هباءً أدراج الرياح، بل إنهم يحسبون جيداً ويعون أكثر، ويعرفون أن ثمرة انتفاضاتهم السابقة كانت نصراً، وأنها رغم حجم التضحيات فقد كانت فتحاً، ولم يبدُ الشعب من خسائره فيها وإن كانت كبيرة تذمراً، ولم يبخل في عطائه وقد كان غزيراً وهو يستشرف المستقبل، ويتطلع إلى الأفضل، ولهذا فليس في قاموس الفلسطينيين مكانٌ لما يسمى بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، فما كان الفلسطينيون ليثوروا وينتفضوا، ويقدموا كل ما قدموا، لو كانوا يريدون الحفاظ على الأوضاع كما هي دون تغييرٍ يذكر.
الإسرائيليون وغيرهم يعرفون هذا تمام المعرفة، ويدركون أن الفلسطينيين ما نزلوا إلى الميدان ليعودوا منه قتلى أو جرحى ومعتقلين، بل نزلوا إلى الميدان ليغيروا الواقع، ويبدلوا الحال، ويرفضوا ما يفرض عليهم أو يراد لهم، وقد حار العدو من إرادة الفلسطينيين وهمتهم، فهم يذهبون إلى الشهادة التي يسميها موتاً بفرحٍ وأملٍ واستبشارٍ ويقين، لا يأس فيه ولا قنوط، ولا إحباط ولا تشاؤم، فما من منفذٍ لعملية طعنٍ إلا واستشهد، وقليلٌ منهم من أُصيب بجراحٍ وأُعتقل، بل جميعهم يقدمون على المقاومة بروح الاستشهاد المسكونة بالأمل، والتي لا مكان فيها ليأسٍ أو قنوطٍ، أو انعدام رؤيةٍ وانسداد أفق، ولهذا فإن قادة العدو السياسيين والأمنيين والعسكريين يجدون أنفسهم عاجزين بالقوة والسياسة، وبالأمن والخدعة والحيلة والتنسيق والتعاون، عن إيجاد حلٍ أو غلبة الفلسطينيين وإخماد انتفاضتهم.
اليوم على الأرض الفلسطينية إرادتان متعارضتان ومتناقضتان، فلسطينيةٌ شعبيةٌ ومعها جموعٌ عربيةٌ وإسلاميةٍ شعبيةٌ، تؤيد الانتفاضة، وتريد أن تستمر فيها، وألا تتراجع عنها، وتعتبر أن التراجع انتحار، وبعضهم يراه خيانة، إذ لا يجوز أن نقابل تضحيات الشباب وهم الأكثر، بانكسارٍ أو تخاذل، ولعل الشعب قادرٌ على الاستمرار فيما قرر ومضى فيه، وإن كانت هناك أصواتٌ تعلو وترتفع، وتقول بأن على الفلسطينيين أن يوقفوا شلال الدم المتدفق، وأن ينهوا المعاناة المتزايدة، فالعدو الإسرائيلي نهمٌ وجشعٌ، ولا يشبع من القتل، وهو ماضٍ في سياسته، وغير مكترثٍ بما يسمع ويرى من انتقاداتٍ واستنكارات، ويرون أنه من الخطأ الجسيم احتساب النصر والصمود والثبات بحجم التضحيات وأعداد الشهداء.
في الجهة المقابلة يقف العدو الصهيوني داخل فلسطين المحتلة كسلطة احتلال ومعه المؤيدون والمناصرون والمساندون الدوليون حائرين مضطربين، يريدون أن ينهوا الانتفاضة بأي شكلٍ كان، بالقوة أو بالتفاوض، بالوساطة أو بالتنسيق، وبالضغط أو بالإكراه، فهذه الانتفاضة لا تخدم مصالحهم، ولا تفيد مشروعهم، ولا تتفق مع أهدافهم، وهي تحيي لدى الفلسطينيين إرادة المقاومة، وتبعث الحياة في معاني وطنية جميلة، تروق للشعب، وتتغنى بها الأمة، ومن شأن استنهاضها إدامة المقاومة وتعميق الصراع، والإضرار بالمصالح الإسرائيلية وتعريض أمن الكيان ومستوطنيه إلى أخطارٍ حقيقية.
كل طرفٍ يستخدم أدواته وإمكانياته، ويراهن على ما عنده أو ما يمكن أن يستخدمه بنفسه وما يستطيع توفيره من حلفائه وأنصاره، وهو يدرك أن هذه المعركة تتطلب نفساً طويلاً، وعضاً على الجراح شديداً، والغلبة تكون لمن يصبر ويعض على جرحه أكثر، ولعل قدرة الفلسطينيين على الصبر أكبر، وكل التجارب التي سبقت تدل على أنه الأصبر والأكثر احتمالاً، إذ أن ما تعرض له على مدى سبعة عقودٍ من شدةٍ وضيقٍ وضنك وقسوة معاملة، وآلاف الشهداء ومئات آلاف الجرحى والمعتقلين، ليؤكد أن هذا الشعب المسلح بالصبر، والمتسربل بالإيمان، لهو المؤهل بالنصر في نهاية المطاف.
أما العدو فعلام يراهن وبماذا يغامر، وما هي عوامل الفوز والكسب عنده، فهو لم يدخر سلاحاً ولا وسيلةً إلا واستخدمها، فإن كان يراهن على المزيد من القوة فإن الشعب ينتظرها ويتوقعها، لكنه لن يستجيب إلى نتائجها المرجوة، وإن كان يتطلع إلى التركيع والإخضاع بمزيدٍ من القتل والتضييق، ليصل بالشعب إلى درجةٍ لا يقوى فيها على الصمود والمواصلة، فإنه وغيره يعرف أن هذه المعادلة خاطئة، وهذا الرهان فاشل، فالفلسطينيون ذاقوا المر ألوناً على مدى كل السنين، فلن يزيدهم مر العدو الجديد مراً آخراً، لكن العدو ينسى أنه بات وشعبه يذوق من نفس الكأس، ويتجرع المر نفسه، ويدفع ضريبة سياسته دماً، فهل يصبر وشعبه، وهل يصمد واقتصاده، وهل يقوى على الاستمرار ومؤسساته تخسر وتنهار.
الانتفاضة إن صمدت فقد انتصرت، وإن بقت فقد حققت أهدافها، وإن اشتد ساعدها وقوي عودها فقد آذنت بنصرٍ مرتقبٍ، وتغييرٍ حقيقيٍ آتٍ، والفلسطينيون يعلمون أن الأوضاع صعبة، والظروف قاسية، والعدو مستوحشٌ جداً وخائف، فبات كحيوانٍ مفترسٍ جريحٍ أو يشعر بالخطر من حوله، فيريد أن ينجو بنفسه بمزيدٍ من القتل والاعتداء، والبطش والافتراس، وهو يرى جموع الفلسطينيين ينتفضون، وشبابهم وشاباتهم يخرجون، لا يلوون على شئٍ غير العزة، ولا يبحثون عن شئٍ غير الحرية، ولا يتطلعون لغير النصر أو الشهادة، فاللهم اجعل انتفاضتنا خيراً، مآلها نصراً، وخانتها عزةً وفخراً.