السيمر / السبت 09 . 01 . 2016
د . صادق اطيمش
كثيراً ما يدعي المتعلقون بحرفية النص الديني للأديان التوحيدية/الإبراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام باختزال النص الديني أوإخراجه عن سياقه التاريخي او اللغوي او الإثنين معاً وذلك حينما يتعلق الأمر بنقاشهم مع المختلفين معهم حول مفهوم هذا النص وطبيعة انعكاسه على الواقع الحياتي الحضاري اليومي لأتباع هذه الديانات.
لا اريد بهذا الطرح تاجيج صراع بين الأديان حول بعض المفاهيم التي تتعلق بنصوص كتبها المقدسة، خاصة تلك النصوص التي تأخذ حيزاً هاماً في النقاشات الدائرة اليوم حول المقارنة بين هذه الأديان والمتعلقة بموقفها من العنف وممارسته من بعض التابعين. والمتابع الجيد لهذه النقاشات يستطيع الإثبات، دون عناء يُذكر، إلى غزارة ما يواجهه الدين الإسلامي من ربط يكاد يكون ملازماً بينه وبين العنف. ولم يأت ذلك الربط صدفة او عمداً، بل انه اقترن بوقائع جرمية وعنف وحشي كان لبعض المسلمين القدح المعلى فيه والذي جرى تنفيذه دوماً تحت رايات وشعارات ” الله اكبر” بحيث اصبحت هذه الصيحة وكأنها تمثل صوت الإنذار الذي يسبق الهجمات الجوية في الحروب، إلا انها لا تؤدي خدمة الإنذار بقدر ما تقود إلى الدمار.
لو تمعنا في النصوص المقدسة للأديان الثلاثة اعلاه لوجدنا ان ما رافقها من شروحات وتفسيرات وتأويلات قد بلغ حجماً تجاوز، لكل منها، حجم النص الأصلي بعدة مرات. والملاحظ ان التطبيق اليومي لمحتويات النصوص الدينية غالباً ما يستند على النصوص الفرعية في الشروحات والتفسيرات والتأويلات التي لا يمكن اعتبارها إلا نتاجات بشر خاضعين للخطأ والصواب، هذا إذا ما انطلقنا من قدسية النصوص الأصلية وعدم خضوعها للإختلافات الناشئة في النصوص البشرية.
سأحاول في هذا الطرح التطرق إلى ماهية بعض هذه النصوص في الكتب المقدسة الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، كمساهمة في فهم العلاقة بين كل من هذه الأديان وبين موضوعة العنف التي تشكل مادة اكثر النقاشات اليوم. وكذلك لتوضيح ماهية السياقات التاريخية واللغوية لهذه النصوص وكيفية التعامل معها.
قبل البدء في هذا العرض ارغب التأكيد هنا على ربط هذه النصوص بتاريخها وبالمستوى الثقافي الذي ساد مجتمعاتها وفرض عليها نوعاً من المصطلحات اللغوية التي لا نجد لها ما يشابهها في مصطلحاتنا اليومية في الوقت الحاضر او انها صِيغت بصيغة لغوية اخرى.
فبالنسبة للتاريخ نرى ان العصور المختلفة التي مرت بها المنطقة التي نشأت عليها هذه الأديان كانت مليئة بالصراعات السياسية والدينية التي إتصفت بالعنف الذي كان سائداً في مثل هذه الصراعات آنذاك. وحينما نطلع اليوم على النصوص الدينية التي رافقت او وصفت هذه الصراعات ، حتى تلك التي سبقت وجود الأديان، تتبلور التوجهات التي تلتزم بحرفية النص او تلك التي تحاول شرحه وتفسيره بما يوفر لديها حاضرها اللغوي من امكانيات تعيد بها صياغة النص بما ينسجم والحياة الجديدة، او تلك التي تلجأ إلى التأويل الذي يتجاوز على النص ليس لغوياً فقط ، بل وتاريخياً ايضاً.
فعندما نقرأ النص التوراتي الوارد في ” الخروج 32/26 ـ 29″ والذي جاء على لسان موسى بعد ان صنع هارون العجل لبني اسرائيل حيث وقف موسى في باب المخيم وصاح :
” كل من يتبع الرب فليقبل إلي هنا، فاجتمع حوله اللاويون
فهتف بهم، هذا ما يعلنه الرب إله بني اسرائيل ، ليتقلد كل
واحد سيفه وجولوا في المخيم ذهاباً وإياباً من مدخل إلى مدخل
واقتلوا كل داعر سواءً اكان اخاً او صاحباً او قريباً، فاطاع
اللاويون امر موسى ، فقتل من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة
آلاف رجل. عندئذ قال موسى للاويين، لقد كرستم اليوم انفسكم
لخدمة الرب وقد كلف ذلك كل واحد منكم قتل ابنه او اخيه، ولكن
لينعم عليكم الرب في هذا اليوم ببركة”[1]
يتناول بعض مفسري التوراة والعارفين بشروحات التلمود هذا النص من وجهات نظر مختلفة في الوقت الحاضر.حيث يربط بعضهم اعمال القتل التي امر بها موسى بسياق النص التاريخي الذي يشير إلى مخالفة النبي. وبما انه لا يوجد نبي في زماننا الحاضر لذلك لا يمكن عكس مضمون هذا النص على الحياة اليومية للمؤمنين بالتوراة. اي يمكننا القول بأن المبدأ القائل بنسخ الفعل وبقاء النص يتحقق هنا في هذه الرؤيا للنص التوراتي. في حين ينطلق البعض الآخر من حرفية النص الذي يؤولونه باعتبار ان الوقوف ضد النبي يعني الوقوف ضد شريعة موسى، وهذا ما ينعكس على كل عمل يمكن ان يؤدي إلى الوقوف ضد هذه الشريعة.
اما الحركة الصهيونية العالمية التي تتعامل مع النص التوراتي بانتقائية تحاكي إنتقائية الإسلام السياسي بالنسبة للنص القرآني، وهذا مما يشير مجدداً إلى ان الصهيونية والإسلام السياسي وجهان لعملة واحدة اسمها توظيف الدين والتجارة به لأغراض سياسية. وللتعرف على هذه الإنتقائية الصهيونية في تعاملها مع النص التوراتي المتعلق بالعنف يمكن الإستشهاد بالنصوص التالية:
جاء في الإصحاح 23 / 23 ـ 33 من كتاب الخروج نقرأ ما قاله الله لموسى ومن خلاله لبني اسرائيل :
” إذ يسير ملاكي امامك حتى يدخلك بلاد الأموريين والحيثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين الذين انا ابيدهم، إياك ان تسجد لآلهتهم، ولا تعبدها ولا تعمل اعمالهم، بل تبيدهم وتحطم انصابهم….. أُزعِجُ كل امة تقف في وجهك، واجعل اعداءك يولون الأدبار امامك، وابعث الزنابير امامك ، فتطرد الحويين والكنعانيين والحثيين من قدامك، إنما لن اطردهم في سنة واحدة لئلا تفقر الأرض فتتكاثر عليك وحوش البرية، بل اطردهم تدريجياً من أمامك ريثما تنمون وترِثون البلاد، اجعل تخومك تمتد من البحر الأحمر إلى ساحل فلسطين، ومن البرية حتى نهر الفرات، وأُخضِعُ لك سكان الأرض فتطردهم من أمامك، لا تبرم معهم ولا مع آلهتهم ميثاقاً، ولا تسكنهم في ارضك لئلا يجعلوك تخطئ إلي، لأنك إن عبدت آلهتهم ، فإن ذلك يكون لك فخاً ”
تتعامل الحركة الصهيونية العالمية من خلال دولتها العنصرية القمعية مع هذا النص وكأنه قد صيغ لتمارس هذه الدولة الدكتاتورية مضمونه حرفياً تجاه الشعوب الأخرى. إذ انها لا تعير اي اهتمام لتاريخية النص ولا لمضمونه بالنسبة للشعوب التي ذكرها ومدى واقعية او عدم واقعية وجود هذه الشعوب في الوقت الحاضر. إن هذا التعلق بالنص وتطبيقه فعلأ من قبل الدولة العنصرية اسرائيل لا يمكن تفسيره إلا بالتشبث بمقولات تجاوزت عصرها بآلاف السنين إنطلاقاً من التمسك بالنص الديني الوارد في الكتاب المقدس للديانة اليهودية. يجري هذا التمسك بحرفية النص من قبل الحركة الصهيونية العالمية وكل الحركات اليهودية المتطرفة لا تمسكاً بالتعاليم الدينية، من وجهة نظري، بل لتوظيف نصوصها لتحقيق مآرب اخرى جلها سياسية توسعية عنصرية على حساب شعوب اخرى، حتى وإن تطلب ذلك إفناء هذه الشعوب.
وفي الوقت الذي نرى فيه هذه التمسك بحرفية النص الديني، نلاحظ في نفس الوقت كيف تتعامل الحركة الصهيونية العالمية ودولتها العنصرية الدكتاتورية اسرائيل وكل القوى التي تتجاهل تأريخية ومحتوى النص الديني مع النصوص التي لا تتوخى من وراءها تحقيق مكاسب سياسية بالقدر الذي تراه. لقد جاء في إصحاح الخروج التوراتي 31/15 ما يلي:
” في ستة ايام تعملون ، اما يوم السبت فهو يوم عطلة مقدس للرب. كل من يقوم بعمل في يوم السبت يُقتل حتماً ”
أو في الإصحاح العدد 15/32 نقرأ ما يلي:
” وفي اثناء إقامة بني اسرائيل في الصحراء وجدوا رجلاً يجمع حطباً في يوم السبت، فاقتادوه إلى موسى وهرون وبقية الجماعة، وزجوه في السجن لأنه لم يكن واضحاً بعد ما يتوجب عليهم ان يفعلوا به. فقال الرب لموسى : لترجمه الجماعة كلها بالحجارة خارج المخيم، لأن عقابه القتل حتماً. فأخذه الشعب إلى خارج المخيم ورجموه بالحجارة حتى مات، كما امر الرب موسى ”
هذا النص لم تعره الحركة الصهيونية العالمية وحكومتها العنصرية في اسرائيل والمنظمات المتطرفة الأخرى اي اهتمام يؤدي إلى التمسك بحرفيته وذلك لعدم توفر المردود السياسي المنشود من التطبيق الحرفي، كما في نص قتل الشعوب الأخرى اعلاه. وبالرغم من وجود قوانين داخل الدولة الصهيونية تشير إلى عدم السماح الرسمي للعمل في يوم السبت إلا ان العامل الإقتصادي المرتبط بالربح والتراكم الرأسمالي من خلال العمل يعلو في كثير من المناسبات على هذا المبدأ التوراتي.
التوراة مليئة بنصوص العنف وممارساته المختلفة في القتل والتعذيب والتهجير والإبادة وشتى العقوبات ضد الآخر المختلف او المخالف للشريعة. وحينما انطلقت المسيحية لتحمل تراث اليهودية اصبح النص التوراتي لديها يحمل صفة العهد القديم الذي وجد استمراريته في العهد الجديد الذي يشمل الأناجيل الأربعة والتعليمات الأخرى التي تضمنتها الشريعة المسيحية، بحيث ظل العهد الجديد محافظاً في كثير من نصوصه على ما جاء به العهد القديم، وهذا ما سنتطرق إليه في القسم الثاني من هذا الموضوع.
LBI 1988, ISBN 0 86660 407 3 Blue
والتي جرت مقارنتها مع الطبعة الألمانية:
( Die heilige Schrift, das alte und das neue Testaments, Auslieferung durch die: privilegierte württembergische Bibelanstalt, Stuttgart, Verlag der Zwingli-Bibel Zürich 1942