السيمر / الاحد 10 . 01 . 2016
د . صادق اطيمش
أشرنا في القسم الأول من هذا الموضوع إلى ان الأناجيل المسيحية الأربعة، متي ومرقس ولوقا ويوحنا والنصوص المتعلقة باعمال الرسل والرسائل وكل ما يتضمنه ما يسمى بالعهد الجديد ، مقارنة بالعهد القديم ، التوراة ، تعتبر امتداداً لما جاءت به التوراة في كل ما يُطلق عليه شريعة موسى، او الناموس، بما في ذلك نصوص العنف ومختلف اشكال ممارساته. وقد اكد عيسى على كل ذلك كما جاء في انجيل متي على لسان عيسى الذي قال:
إنجيل متي 5/17
” لا تظنوا اني جئت لألغي الشريعة او الأنبياء، ما جئت لألغي ، بل لأُكمل . ”
وعلى هذا الأساس الزمت الشريعة المسيحية نفسها بتبني كل ما جاء في الشريعة اليهودية واعتبرت العهد الجديد مكملاً للعهد القديم، بما في ذلك استعمالها العنف وتبنيه كوسيلة من وسائل تطبيق الشريعة او الدفاع عنها. فالمسيحية التي يروج لها البعض بانها كانت دين سلام ومحبة منذ ارهاصاتها الأولى لم تكن كذلك استاداً إلى نصوص كثيرة وردت في شريعتها. فقد جاء على لسان المسيح في إنجيل متي الإصحاح 10/34 حينما دعا تلاميذه وقال لهم:
” لا تظنوا إني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع ابيه، والبنت مع امها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير اعداء الإنسان اهل بيته.”
يمكننا تفسير هذا النص بلغة اليوم على انه يدعو إلى الفتنة الإجتماعية التي لا يراها منظرو الإنجيل من هذه الزاوية، بل بالعكس فإنهم يرون فيه طريقاً للهداية من خلال نبذ ما كان عليه آباء وأجداد القوم آنذاك. وما نراه في هذا النص ينسحب ايضاً على الأديان الأخرى التي تطالب مَن حلَّت بارضهم ان يديروا ظهورهم لما كانوا عليه ويعتنقوا الدين الجديد، ويصب هذا الطرح في صلب منظري هذه الأديان على انه الدعوة إلى الخير من خلال نبذ طريق الشر الذي كانت عليه المجتمعات قبل مجيئ هذه الأديان. والسؤال المنطقي الذي يمكن طرحه هنا على منظري هذه الأديان هو : ماذا لو تكررت هذه الدعوة اليوم من قِبل مَن يدعون إلى دين جديد يعتبرونه اكثر إصلاحاً من الأديان القائمة اليوم؟ كيف ستتعامل هذه الأديان مع دعاة الدين الجديد الذي يطلق نفس مضمون الدعوة التي اطلقها انبياؤهم؟ الإجابة على هذا السؤال تتجلى امامنا من خلال تصرفات الأديان الإبراهيمية الثلاثة مع بعضها البعض. فاليهودية رفضت المسيحية كدين جديد وألب حاخامات اليهود في ذلك الوقت الحكام الرومان على قتل المسيح الذي كان هو يهودياً مختوناً ايضاً ولم يدعي رفض الشريعة اليهودية ، بل صرح بانه يريد إكمالها او إصلاحها بلغة اليوم. كما وقف الإثنان اليهودية والمسيحية ضد الدين الإسلامي الجديد الذي اعترف بهذه الأديان في كثير من نصوصه واعتبرها تنطلق من ذلك الجذر الإبراهيمي الذي ينطلق منه الإسلام. كما تعامل ولم يزل يتعامل الدين الإسلامي بالرفض والتكفير مع البهائية التي يمكن ان ينطبق على إنسلاخها من الإسلام نفسخ الإنسلاخ المسيحي من اليهودية. إن دل هذا الموقف العدائي للأديان الإبراهيمية من بعضها البعض في مراحل نشوء الدين الجديد الأولى على شيئ، فإنه يدل بكل تأكيد على سماح القائمين على هذه الأديان لأنفسهم بتوظيف العنف بكل اشكاله ضد الآخر المختلف، سواءً كان هذا الآخر من نفس الدين والشعب او من دين او شعب آخر.
ومن وسائل العنف البشعة التي مورست من قبل هذه الأديان الثلاثة، سواءً اقترن هذا التنفيذ بنصوص ” مقدسة ” كما في اليهودية والمسيحية، ام لم يقترن بنصوص وإنما بفتاوى دينية كما في الإسلام، تتجلى مسألة العقاب بالحرق.
في نصوص المسيحية وما مارسه الرهبان المسيحيون فعلاً ضد فئات من البشر( يمكن ان تكون ممارسات داعش في الحرق قد استندت إلى هذه النصوص التي هي نصوص دينية ايضاً، العلم عند الله). فقد جاء في إنجيل يوحنا ما يلي:
الإصحاح 15/6
” إن كان احدكم لا يُثبِتُ فيَّ يُطرح خارجاً كالغصن فيجف، ثم تُجمع الأغصان الجافة وتُطرح في النار فتحترق ”
يشكل هذا النص مادة للسياق اللغوي الذي يجعل من الأغصان مجازاً كل مَن لا يتبع المسيح من البشر والذي يستحق الحرق. اما البعض الآخر الذي لا يعمل بهذا الرأي فيقف حائراً امام تفسير تحول الإنسان إلى غصن لكي يجف ويحرق بعدئذ.
استناداً إلى ما اشرنا اليه اعلاه من تبني المسيحية في عهدها الجديد لمحتويات نصوص العهد القديم ( ما جئت لأنقض ، بل لأكمل ) فإن ذلك يعني ان جميع العقوبات الواردة في نصوص العهد القديم ، بما فيها الحرق، تصبح جزءً من شريعة عيسى الجديدة. وتشير كثير من المصادر التاريخية إلى ممارسة هذه العقوبة فعلاً ضد من أُتهموا بممارسة السحر من قبل كنيسة العصور الوسطى. ولكن ليس السحر وحده قاد إلى تنفيذ عقوبة الحرق. ففي الإصحاح يشوع 7/15 نقرأ:
” والذي تثبت عليه جريمة السرقة مما هو محرم ، يُحرق بالنار هو وكل ما له، لأنه نقض عهد الرب، وارتكب قباحة في اسرائيل ”
أو نقرأ في إصحاح اللاويين 21/9
“وإذا زنت ابنة الكاهن فيجب حرقها لأنها دنست قداسة ابيها ”
وغيرها من ممارسات العنف الأخرى التي مارستها كنيسة العصور الوسطى فعلا من خلال القتل والتعذيب والحرق وكذلك الحروب التي شنتها على الأمم الأخرى وممارستها للفتوحات الدينية كالحروب الصليبية مثلاً.
وفي الوقت الذي نرى فيه ممارسة مثل هذه الجرائم فعلاً في الوقت الحاضر على يد العصابة الصهيونية من خلال حكومتها العنصرية في اسرائيل مستندة بذلك إلى نصوصها الدينية، نلاحظ انحسار توظيف العنف لدى المسيحية واقتصاره على مناطق وفئات محدودة جداً كما في الصراع الدائر في شمال ايرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت او كما مورست الجرائم من قبل منظمات مسيحية متطرفة ضد المسلمين في البوسنة والهرسك. اي انه يمكن القول ان الدين الوحيد من هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة التي تشير نصوصها إلى العنف، قلص مساحة استعمال العنف كثيراً، خاصة ذلك الإستعمال الساعي لتوظيف الدين لتحقيق اهداف سياسية، فتجاوز بذلك ليس السياق التاريخي للنص، بل وسياقه اللغوي ايضاً، بل وتعدى ذلك في كثير من الأحيان إلى تجاوز السياق العبادي لهذه النصوص كاللجوء مثلاً إلى الرمزية في تعريف بعض المصطلحات الدينية كالجنة والنار او العقاب والثواب مثلاً.
لم يأت ذلك عبثاً او صدفة بالنسبة للمسيحية اليوم. لقد عانت المسيحية، كما يعاني الإسلام في عصره الحاضر، من سيادة الفكر الظلامي المتخلف الرافض للإصلاح الفكري في المبادئ الدينية. وسالت الدماء الكثيرة بين الفرق المسيحية المختلفة، كما تسيل دماء الصراع الطائفي البغيض اليوم بين المسلمين. إلا ان المسيحية استطاعت تخطي هذه الصعاب التي بدأ افق تذليلها منذ إنطلاق حركة لوثر الإصلاحية في القرن السادس عشر. ولكن الحركة الإصلاحية المسيحية لم تكن وحدها كافية لإصلاح الفكر الديني المسيحي، إذ ان هذا الإصلاح كانت له عوامل كثيرة اخرى، تبلورت فيما بعد، ساعدت على ترسيخه في المجتمعات المسيحية المختلفة واهمها : انتشار وتطور المسيحية في غير منطقة نشوءها في بلاد الشرق. وهذا ما جعلها تتأثر بالإرث الحضاري الإغريقي والروماني الذي جعل من الفلسفة احدى الركائز العلمية التي رافقت نشأة الدولة لدى الإغريق والرومان والتي اصبحت من مقومات نشوء الدولة الأوربية الحديثة التي بنت علاقتها بالدين على هذا الأساس. ثم إنطلاق الثورة الفرنسية والمبادئ الإنسانية التي تبنتها في القرن الثامن عشر، ومن ثم انتشار هذه المبادئ التي شكلت اسس النضال الشعبي في اوربا. تلى ذلك تطور علاقات الإنتاج بشكل اساسي من خلال الثورة الصناعية التي بدأت إرهاصاتها الأولى في انكلترا في القرن الثامن عشر واتضح بعدئذ تطورها الإجتماعي والإقتصادي والسياسي في القرن التاسع عشر بعد ان انتشرت على بقاع واسعة من اوربا. كما كان لعامل اختراع آلة الطباعة أثراً كبيراً على انتشار المعارف من خلال الكلمة المكتوبة في رفع الوعي الثقافي لدى الجماهير. يتضح لنا من كل ذلك بان الإصلاح الديني في المسيحية لم يشكل إلا عاملاً واحداً من كثير من العوامل التي جعلت من المسيحية ديناً يعي التطور الزمني ويتماشى معه، إذ بدون هذا الإنسجام مع الحداثة وأخذ المراحل الزمنية بنظر الإعتبار لا يمكن لأي فكر، مهما كانت قوة تأثيره الآنية، ان يحافظ على هذه القوة إلى ما لا نهاية.
هذا لا يعني طبعاً ان المسيحية حذفت النصوص الداعية للعنف من اناجيلها ، بل انها تخلت عن تنفيذ مضمونها. وربما سيعترض بعض فقهاء التخلف من المسلمين على هذا النهج الذي يعتبرونه تزييفاً للنصوص المقدسة. وهذا القول مردود عليهم اساساً لأنهم اولاً لا يعترفون بهذه الأناجيل وينكرون نصوصها داعين إلى أناجيل اخرى لا احد يعلم اين هي. وثانياً فإن المسيحية إتبعت بذلك قاعدة فقهية سار عليها المسلمون ايضاً والتي تدعو إلى ايقاف العمل بالنص مع بقاءه، اي نسخ الفعل مع بقاء النص، وهذا ما ينطبق على آيات الخمر في القرآن.
إختصاراً يمكن القول ان المسيحية حاولت من خلال كل ذلك الإنتقال بالدين الذي اراد تكبيل الطاقات والإبداعات البشرية فانتج الكنيسة الهمجية في العصور الوسطى من تاريخ اوربا، حيث تم إبدالها اليوم بالكنيسة التي تعي متطلبات الحياة في القرن الحادي والعشرين.
فأين الفكر الديني الإسلامي من كل ذلك؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه في القسم الثالث من هذا الموضوع.
مقال ذو صلة :
إشكالية السياقين التاريخي واللغوي في النص الديني ـ القسم الأول ـ