السيمر / الاحد 24 . 07 . 2016
هاتف بشبوش
للمرة الثالثة يستفزني مايكتبه الروائي برهان شاوي ، فما بمستطاعي أن أضطهد قلمي وأوقفه عن بوحه المتشارد لكي يكتب عن هذه القامة الروائية العملاقة التي بدأت تأخذ حجمها في هذه الأيام على المستوى العراقي والعربي ولابد لها أن لاتتوقف عند هذه الحدود بل ستتعداها الى العالمية في وقتٍ قريبٍ لامحال .
رواية (إستراحة مفيستو).. هي موضوعة دراستنا هذه ..الرواية كتبت بأسلوب سينمائي بحت ، وقص وسرد بوحي عالمي تجاوز القص العربي والعراقي كثيرا ، حتى شخوص الرواية وأماكنها وأكشنة بعض المشاهد ، والبوليسية وصبغة الرعب والجرميّة التي تحتويها ، توحي بأنها عالمية السرد ، وهذه هي التي جعلت من برهان يرتقي سلّم العالمية .
برهان شاوي في إستراحة مفيستو سجل رقما قياسيا في كتابة الرواية من ناحية الوقت أو العامل الزمني وما تتطلبه الرواية من عناية فائقة ومتابعة وتنقيح ، إنه أنتج ( إستراحة مفيستو) بشهرواحدٍ فقط (21/2/2016….21/3/2016) ، ربما كان يكتب على مدار نصف نهار ثم يستريح النصف الآخر . أكثر الروايات العالمية الشهيرة أخذت من كاتبها سنين عديدة ، جوستاف فلوبير كتب رواية مدام بوفاري على مدار خمس عشرة سنة ، البؤساء أخذت من الروائي هوغو أكثر من خمس سنين ، الدون الهادئ لشولوخوف هي الأخرى أخذت وقتا كبيرا ، وغيرها . يعجز المرء على هذه القابلية التي تحلى بها برهان شاوي . اكثر الروائيين العالميين في الزمن الرومانسي والكلاسيكي يكتب رواياته وينشرها في الصحف على شكل حلقات ولذلك نرى أكثر الروايات الشهيرة أخذت من الكتاب سنين وسنين حتى أنجزت وأصبحت في متناول القارئ ككتاب . ولكننا أمام روائي عراقي وفي القرن الواحد والعشرين يسترسل ويكتب ويكمل الرواية في ظرف ثلاثين يوماً ، حقا أنه الروائي الثر الذي يملك من الخيال العجيب الغريب ، وللاسف لايوجد هناك إعلام حر غير منحاز كي ينصف هذه القامة التي أعطت الكثير ولايزال الدرب عسيرا. الروائية الإنكليزية(جوان رولينج موراي)التي كتبت هاري بوتر، فرنسية يهودية معدمة الحال حتى أصبحت من ضمن قائمة أثرياء العالم ، الإعلام اليهودي جعل لها مهرجانا سنويا خاصا باسم مهرجان هاري بوتر ، أين نحن من ذاك .
ورغم ماتقدم أعلاه نحنُ بانتظار تحويل متاهات برهان شاوي الست الى عمل تلفزيوني درامي وهذا هو الإنجاز الكبير .
في إستراحة مفيستو مرة أخرى يتحفنا الروائي برهان في الدخول الى عالم المرأة الجميل والمثير وشاغل الدنيا ، وجالب المتاعب ، والممتع في الحب والجنس ، إنه الروائي الذي يعرف جيدا أنّ الدخول الى القص بلا إمرأة هو بمثابة الدخول الى صحراء قاحلة بلا قطرة ماء . قص وسرد إمتلأ بالحواءات الجميلات ، تلك تحب ويقلقها الحبيب ، وتلك يُختطف زوجها ، وتلك أم ، وتلك منتقمة من زوجها الخائن ، وهكذا نجد الحواءات ، حواء الدلو ، حواء المسافر، حواء الصوفي ، حواء المحدبة ، حواء النمرود ، حواء الأعمى ، حواء الأبيض ، حواء الأسود ، حواء الدلو المدفون ، وأغلبهنّ يُختطف أزواجهن بسبب المال الذي هو اللعنة الرئيسة على صاحبها في هذه الرواية ، كما سنبين لاحقا . كما وأنّ محور الراواية الرئيسي الذي يجعلنا مشدودين على مسار السرد هو عثور آدم المسكين في مقبرة على حقيبة جلدية مليئة بستمئة الف دولار ، وبالقرب منها جثة ممدة ممقطوعة الرأس مما يجعل آدم المسكين دائم البحث عن شخصية الجثة المجنى عليها ، ويتبين أيضا وهذا هو المهم في جشع البشرية في عالم رأسمالي قذر ، من أنّ الأشخاص الذين يختطفون ، يقتلون في سبيل الحصول على المال الكثير من شركات التأمين .
في استراحة مفيستو تناول الروائي برهان شاوي بشكل فنتازي ، خيالي ، غامض نوعا ما ، لشخصية آدم المسكين الذي تلح عليه الظروف المادية ليستقرض نقودا من أبشع رجل مُرابٍ في المدينة التي يعيش فيها ، لكي يدفن أبويه . غريب أمر الإنسان حينما تتكالب عليه الظروف فإنه يستعين بالشيطان ، ولم لا ففي هذا الزمن الرديء هناك من القادة الذين تفاعلوا مع هذه المقولة ( في سبيل مصلحة بلادنا نتحالف مع أيٍ كان حتى مع الشيطان) .
في الرواية يموت أبَوَا آدم المسكين بطل الرواية ولم يمتلك نقودا لدفنهم مما يضطر أن يستدين من هابيل السفاح الذي لايرحم أحداً في حال عدم إسترداد الدَين ، فمصيره الموت لامحال ، مثلما حصل في مسرحية ( تاجر البندقية) وكيف كان اليهودي المرابي شايلوك الذي أعطى مالاً الى (أنطونيو) التاجر الذي تغرق مراكبه واشترط عليه حين لم يُرجع ماعليه من ديون وينتهي الوقت المحدد لتسديد الدين ، عليه أن يستقطع اللحم الطري من جسمه المعافى .
بالرغم من عالمية السرد ، الاّ أننا نجد انفسنا وسط حكايات من صلب واقعنا العراقي المعاش ، وفزوراته المترفة ، فعلى سبيل المثال ، هناك الكثير من العراقيين لايمتلكون نقوداً لمراسيم دفن ذويهم ، ومن هذه إنطلقت الكثير من الحكايا المضحكة في هذا المجال ، في السماوة كان هناك رجلُّ خفيف الظل ممراح طحنته السنين طحناً حتى جعلته فقيراً مدقعاً ، هذا الرجل يدعى (حولي) ماتت أمه ولم يمتلك نقودا لدفنها ، صعد الى أعلى السطح مناجيا ربه قائلاً( يارب تصور انت حولي وأنا الله) ، ماذا تفعل حين تموت أمك ولم تمتلك نقودا لدفنها . نزل حولي الى باحة البيت مهموما منكسرا جذلاً على فقره المدقع ، فاذا بأحدهم من أثرياء السماوة يطرق الباب ويعطيه عشرة دنانير ، فقال له حولي، هل أتيت وحدك لتعطيني هذه النقود أم الله أرسلك لي ، قال له الله أرسلني فأتيت لأنك فقير وبحاجة الى المال لدفنِ أمك ، فرفع جميل رأسه الى الله وقال له (هذه أول مرةٍ في حياتك تفعل معي خيرا يارب ).
يبدأ آدم المسكين بالخوف من تهديدات هابيل السفاح لعدم قدرته على تسديد الدين ، فيضطر أن يترك البيت خوفا من مجيء هابيل السفاح ولايعرف مالذي يحصل ، يهرب الى فندق يسمى ( إستراحة مفيستو) ، مفيستو كلمة من أسماء الشيطان ، ( لا أدري لماذا كلمات الرب والشيطان لها الكثير من المعاني والكلمات الآخرى المترادفة ) . يهرب الى الفندق وهنا تحصل المشاهد البوليسية المرعبة والمخيفة والتي يرسمها برهان بشكل مذهل لايقل إبداعا عن السيناريوهات التي نشاهدها عن طريق الأفلام العالمية ، بل تتفوقها كثيرا. هناك يلتقي بمدير الفندق آدم الآدم ، ثم الصحفي آدم الضائع ثم الكثير من العاملين والعاملات الذين يتشابهون كثيرا مع بعضهم ، أي كل واحد منهم عبارة عن نسخة من الآخر ، إنه فندق ألأشباح أو القادمين من الموت والمقابر ، إنه فندق تسيّرهُ الأشباح الموتى أو إنه على غرار ذلك المكان في براغ حين تدخله عبارة عن مرايا كثيرة ، فترى نفسك فيها وقد إستنسخت الى أكثر من نفسك بمراتٍ عديدة ، لربما الرسالة التي يريد إيصالها لنا الروائي برهان ، هي أنّ البشر هو هو ، ولكن في غالب الأحيان يتحول الى طبعِ مجاراة القرود في التصرف ، فلانستطيع التمييز بين الوجوه المتعددة للقردة وتصرفاتها المخزية . أو إننا وسط سجن كبير وسجّانوه كلهم جلاوزة مجرمون قتلة وسفاحون غير إنهم يختلفون في إسلوب تعاملهم مع السجين ، فنرى ذاك السجان يحب الركل وآخر يحب الصفع وآخر يستهويه اللكم وأخرُ يفضل الضرب بالسوط وآخرُّ يتلذذ بالإغتصاب وهلم جراّ ، لكنّ الفعل واحد هو السادية التي يملكها هذا الجلاد أو الجلواز ، فلا مناص أن يكونوا بالنسبة للسجين كلهم متشابهين ومن نسخةٍ واحدةٍ لاتختلف سوى بالتصرف ونوع الإجرام .
آدم المسكين حينما يموت أبَواهُ يتعرف على جارته الخمسينية العمر التي يصغرها سنا( حواء الدلو) ، وهي صديقة لوالدته لكنها مثيرة وجميلة ، يستطيب لها قلبه وجوانحه ويشتهيها بعد كسر حاجز الخوف والحياء . من المثير جدا والمغري في العراق وشعوب الشرق أن يقع رجل في حب إمرأة تكبره سنا و على مستوى عالٍ من الجمال المكتنز واللحم البض ، يطلق على هذه المرأة كتسمية جنسية خالصة وخاصة في العراق ( الأيجة) . كما وأننا رأينا هذا الحب القاتل والمدمر في الفيلم المصري الرائع والخالد من ذلك الزمن الرومانسي الجميل والذي لايتكرر( أبي فوق الشجرة) من تمثيل الراحل عبد الحليم حافظ والممثلة الحسناء ( نادية لطفي ) ، وكيف كان الفارق العمري بين الإثنين وماحل بعبد الحليم من جراء حب إمرأة مكتنزة تكبره في السن . أما عالميا فهو الحب الذي شاهدناه في الفيلم الدرامي الأكثر من رائع ( القارئ) من تمثل حسناء تايتنك ( كيت وينسلت) التي تعشق طفلاً يصغرها بأكثر من ثلاثين عاما ، الفلم كان يصرخ بالحب والجنس والتنهيد المثير الذي تفوح منه رائحة الصبا والإنوثة الأربعينية الشبقة في آنٍ واحد .
حواء الدلو تشفق على آدم المسكين فتقوم بمساعدته في إحضار الطعام . هو من النوع الإنطوائي ، لكنها تستدرجه ، تحب فيه الغموض ، الشهامة ، الشباب ، سحنة وجهه ، عضلاته ، لكنه من النوع الخجول ، النساء تحب الرجال الذين يتركون فيهنّ شيئا من الجنس ، النساء يستهويهنّ الرجل الذي يتجرأ وله القابلية على التقبيل أو ممارسة الجنس معها في أحلك الظروف ، لايمكن للمرأة بعد مضي السنوات أن تتذكر الرجل إذا لم يمارس معها الطقس الجنسي الذي تحبه وتشتهيه ، الجنس هو الدليل الأكثر موضوعية للتذكر في عالم النسيان . ولذلك في يوم خاص يحصل الذي يحصل في ممارسة جنسية خجلة بين آدم المسكين وحواء الدلو إرتاح لها الطرفان وارتاحت شهوتهما وهدأت أعضاؤهما وكبر الحب بينهما ، حتى غدا أسفينا في حياتهما الباقية ، نتيجة إستذواق عسيلةّ كل منهما الآخر .
يهرب آدم المسكين من هابيل السفاح ويذهب الى فندق ( إستراحة مفيستو) مدير الفندق ينصحه بالذهاب الى المقبرة القريبة لعدم توفر السكن الشاغر . ينذهل لما يسمع ، لكنه يذهب مرغما وهناك يجد حقيبة مليئة بالدولارات وجثة ممدة مقطوعة الرأس بالقرب منها ، يرتعب لما يرى إنّ الجثة تشبه مدير الفندق آدم الآدم ، ويجد أيضا مجموعة من الهويات الشخصية المتشابهة . يأخذ الحقيبة ومنها يسدد دينه لهابيل السفاح ، فيتخلّص من موت محقق كان سيأتيه لو أنه أخلّ بالعهد والصفقة التي عقدها مع هابيل السفاح . يتبين فيما بعد أنّ مدير الفندق( آدم الآدم) هو الذي رتب هذه المكيدة لآدم المسكين ، أي أنه تخلّص من ورطة الصفقة مع هابيل السفاح فيجد نفسه في ورطةِ صفقة أخرى أكثر خطورة على حياته . هذه هي الحياة التي يتكلم عنها برهان ، عبارة عن صفقات مميتة مقلقة مشبوهة على الدوام .
في جانب من الرواية حيث يُستغل آدم المسكين فيجد نفسه يعمل صحفيا مرغما على ذلك بدلاً من الصحفي الرئيسي في الرواية آدم الضائع ، يستغل آدم المسكين لوسامته وثقافته العالية لغرض الإيقاع بالنساء اللواتي يُختطف أزواجهنّ ولايُعرف مصائرهم . يلتقي آدم المسكين بحواء المسافر ابنة الثلاثين ربيعا فيجدها تشبه أمه ولديها ابنان قابيل وهابيل ، وهذان يشبهان آدم المسكين ، فيتبين أثناء السرد اللاحق إنها أمه وهذان إخواه المتوفيان في الطفولة ، لكنها تأتي من القبر لزيارة ولدها آدم المسكين ، أنه شيء من الحديث عن الأرواح التي تأتي لزيارة أماكنها بين الحين والحين . هنا الروائي يقترب من القص العالمي لأفلام الرعب ، أو أفلام الخيال العلمي التي تتحدث عن قدوم أحدهم من الماضي الى الحاضر أو ذهاب أحدهم من الماضي والحاضر الى المستقبل ، حيث يروي لنا القادم من الماضي عن حيثيات الحياة أنذاك ، أو يروي لنا القادم من المستقبل عن تطور الزمن وماوصل اليه العلم . هكذا يجعلنا برهان في أجواء ممتعة للغاية بين الخيال والحقيقة والواقع ، فنجد حواء المسافر توضح لآدم المسكين في حوارية صحفية معها عما جرى لزوجها المخطوف وعن ظلم الحياة وتفاهة الإنسان فتقول :
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجـــــــــــــــــــــــــــــــــــزء الثانــــــــــــــــــــــــي