الرئيسية / مقالات / بين العلمانيّة والدين / قرابةٌ لا تقريب

بين العلمانيّة والدين / قرابةٌ لا تقريب

السيمر / الجمعة 09 . 09 . 2016

جواد غلوم

يُشيع الكثير من المغرضين ومنتفعي الدين والمتاجرين به وحفنة من الجهّال وضيقي الافق بان العلمانية في تضاد وخصام مع العقائد الدينية أيّا كانت ؛ وقد لمست ايضا ان البعض ممن يتحدث عن العلمانية سواء كانوا مقتنعين بها او رافضين لمشاريعها لايفرّقون بين معناها السياسي وبين من يتصورون عداءها الفكري للدين ويصل الامر بمجموعة من المتـثاقـفين المحسوبين على العلمانية زيفا وخطأً الى التمادي والاستهزاء بالعقائد والإيغال بالشتم واللعنات والعداء الأهوج للدين والمتدينين ولكل من تعلّق بالمفاهيم الدينية وتمسك بها
نقولها بكل تبسيط وشرح مُبين ومنطق سليم الطويّة بعيدا عن تنظيرات الانتلجنسيا والتواءات السفسطة حتى يفهم الأقلّ معرفة وإدراكاً ان العلمانية من بديهياتها الاساسية ومبادئها الاولى هو تنحية المؤسسات الدينية عن ادارة الدولة دون معاداتها مثلما هي ايضا رفض ان تتدخل الدولة في ادارة الدين وشؤونه ومؤسساته ولا يدسّ هيكلُ النظام السياسي أنفه في محاباة عقيدة على حساب عقيدة اخرى ولا ترفع العلمانية سيفها او سوطها لتعادي او تحارب بقية العقائد سواء كانوا من الاكثرية او من الاقلية فهي ترى في المواطنة اساس المساواة ؛ وليس من شأنها ان تمنع طقوسا دينية او شعائر طالما لاتؤذي احدا من مواطني المجتمع ولم تصب ضررا في هيكل الدولة وانشطتها المتنوعة وتثلم بنيانها الفوقي او التحتي وكأنك تحذّر طفلا من الاقتراب من مواطن الأذى والخطر
نعم وفي أحايين نادرة قد تسارع الدولة الى منع الشعائر العقائدية المتشددة والنرجسية الدينية والشعور بالفوقية التي تحيق الضرر بالمجتمع والاستهانة بحياة الانسان مثل استخدام البشر كأضحية وتعذيب النفس وجلد الذات والشعور بالذنب والخيبة مثلما يفعل التوّابون واشاعة التنابز والتكفير وبث الكراهية للغير وإسباغ الفضيلة المفرطة الكاذبة والمخادعة للجهاد وما يتمخض منه ازهاق للنفس بحجج وذرائع لاتخلو من اشاعة الحروب وإرخاص الأرواح وغسيل الادمغة بمفاهيم الاستشهاد من اجل العقيدة وإلقاء النفوس الى التهلكة جزافا وخديعة مظللة ؛ فهنا يحق للدولة ان تقف حازمة الى منع تلك المظاهر من العقائد ذات النزوع الارهابي او الدموي بكل حزم ولو اضطرّت الى استخدام القوة الرادعة ،
كل ذلك من اجل الحفاظ على مواطنيها وإزالة الاورام الخبيثة التي تبرز في مكونات العقائد حتى لاتمتد الى ماهو أبعد وتكون وباءً مستشريا ولا نغالي لو قلنا ان العلمانية لاتمنع رجال الدين ورعاته من التحدث بالسياسة او الكلام والنقاش في شؤونها وشجونها فلهم قناعاتهم الفكرية ورؤاهم — أصابت أم تعثرت — ولهم كل الحق في ان تراعى وجهات نظرهم ، بل ان العلماني قد يكون اكثر من المتدينين ايمانا ومراعاة واتباعا للشعائر وهو الاحرص من غيره على معتقدات الاخرين وتوجهاتهم الاثنية ، فعملية فرز الدين عن السياسة ونظام الحكم جاءت اصلا لحماية الدين من الدولة وليس لحماية الدولة من الدين فالدولة ليس لها الحقّ في ان تتخذ ديناً بعينه ليكون دين الدولة الرسمي دستوريا وتهمّش او تحارب العقائد الاخرى ولاتوجد في العلمانية هوى المحاباة او المعاداة طالما اتخذت من المدنية نهجا وخارطة طريق لها تقوم على المساواة والمواطنة ،
انها بايجاز شديد حياد الدولة تجاه الدين عوضا عن فصل الدولة عن الدين ؛ فالإكراه الأعمى تجاه العقيدة هو الخطيئة بعينها كما قال توماس جيفرسون احد اهم اقطاب العلمانية والديمقراطية في اميركا وكثيرا ما أهزأ حينما ارى بعضا ممن يسمون انفسهم بالعلمانيين الذين يتحمسون ويتمنون ابعاد الدين ورجاله من العمل السياسي وفرض القوانين التعسفية على الأهواء العقائدية ومنع ممارسة الطقوس الدينية واداء العبادات المألوفة في الكنائس والمساجد والمعابد الاخرى بكل شراسة وصلف غير مقبولين ، فمثل هذه الافعال الشنيعة هي صفة الدكتاتوريات وانظمة الحكم الواحد والنظم الشمولية وليس العلمانية التي تتخذ طابعا مدنيا راقيا وان بدت تلك الدكتاتوريات الشمولية بمنأى عن عقائد شعوبها فهي بعيدة كل البعد عن المدنية وكارهة لتفكير وآراء بني جلدتها فهي ابعد ماتكون محسوبة على العلمانية فلا يخدعنكم ان نسبتموها للعلمانية لمجرد انها تقف بالضد من الدين ورجاله فالدكتاتورية تمقت كل شيء بما في ذلك الدين وتداول السلطة والأحزاب ذات النفَس المعارض ولا تقدس سوى صنميتها
وعلى هذا الاساس فان العلمانية الحقّة ليست معارضة لامور الدين ولا تتدخل بشأنه وتقف على الحياد بل انها في حالات كثيرة حافظت على الدين من تدخلات الحكومات الدكتاتورية المتسلطة وهذا مالمسناه من دعوة الكثير من العلمانيين العرب عندنا سواء كانوا ليبراليين او من قوى اليسار الى التضامن مع المعتقلين ذوي التوجه الديني المعارض واطلاق سراح النخب السياسية الاسلاموية الذين كانوا يقبعون في سجون الطغمة الدكتاتورية العربية قبل سقوطها / مصر وسوريا وتونس وليبيا مثالا لاحصرا وغاية العلمانية ومبادؤها الاساسية هو عدم تسييس الدين حفاظا عليه من الثلم والانتقاص خاصة اذا عرفنا ان دعاته ورعاته قد استغلوا الدين أيما استغلال فجعلوه تجارة ومثيرا للقلاقل وحققوا من خلاله مكاسب وامتيازات وحظوة وجاهاً ومدّاً للنفوذ وابتكروا كل انواع النرجسية العقائدية وبثوا الكراهية بين الاجناس وكل مايعكّر صفاء المجتمعات التي تهفو الى السلام وهناء العيش
فالعلّة الاساس ليس في الدين نفسه انما في ممثليه ومن تعلّق بأذياله وحاولوا امتطاءه وادّعائهم الكاذب باتصالهم بالمقدس ولهذا دعت العلمانية الى تنزيه العقائد وإبعادها عن النظم السياسية إكراما لها وحفاظا على عفّتها من هتك هؤلاء الساعين الى تلويث العقيدة ويخطئ من يظن ان العلمانية تقترن بالكفر لانها ببساطة لاتعمل على إلغاء الدين مطلقا ؛ إنما إبعاده عن الهيكل السياسي لنظام الدولة صونا له وحفاظا على إرثه الروحي لكنها ايضا لاتعبأ ولا تهتم بالدعوة الى تبنّي عقيدة ما او تقف الى جانب فكرة دينية مهما كبرت او اصطفت الى جانبها الاكثرية وليس من مهامها التبشير او الترويج العقائدي وهل اكثر من العلمانية دعواتها المتكررة الى احترام قناعات المرء الروحيّة والدفاع عن رؤاه الدينية وان تعارضت فكريا مع مبادئه ومضامينه الماورائية وتأويلاته غير العقلانية
فمن الطبيعي جدا ان يكون المتديّن ينهج نهجا علمانيا في رؤاه تجاه نظام حكم الدولة وهي قناعة ذاتية شخصية يرى ان النهج العلماني هو الأسلم لبناء الدولة بأسس متينة والابقى لأرث الدين وجوانبه الايجابية وانا هنا لااتحدث عن هؤلاء الذين يعطفون الدين الى مسارات الاسلمة والتحزب ويلوونه نحو مطبّات العنف والنزاعات والتخويف سعيا وراء السلطة ثم فرض سلوكياتهم ومناهجهم المستهجنة التي لاتوافق العصرنة والنماء والتطوير مما يُبقي ظاهرة التخلف والركود والتقوقع بينما بقية الانظمة والشعوب تسارع الى التقدم والتنوير لترتيب حاضرها ورسم ملامح مستقبلها ؛ فالاسلام السياسي عندنا على سبيل المثال وحده هو العدو اللدود للعلمانية وليس الدين كعقيدة راسخة في النفس وهذا مالمسناه من اتباع الاسلمة السياسية الذين يركزون اهتمامهم على التمظهر بالعبادات وتقواها والتظاهر بأشكال الورع ( لحى مسترسلة ، جباه سود لأظهار سجودهم وألسنة مسعورة ، عِمّة وجبّة وعباءة … الخ ) دون ان يعبأوا بالمعاملات وإحقاق حقوق الرعايا والصدق مع الاخرين وامانة المسؤولية والحرص على تلبية متطلبات الملأ المتعب المحروم حتى من حقوقه وينسون ان ساعة من العمل المثابر والجاد من اجل الناس تعدل عبادة سنوات من الصلاة والصوم والدعاء والاستغفار وبقية العبادات
فالعلمانية السليمة المحايدة او كما سماها البعض ” الرخوة ” تدرك جليا مدى تأثير الدين وغوره العميق في نفس الانسان أي انسان سواء كان شرقيا ام غربيا مع ان الغربيّ قطع اشواطا في انتزاع الكثير من جذور التديّن من أطيانه لكنه يبقى قليله عالقا ويصعب زحزحته حاليا بمساحيق غسيل تنتجها مصانع العلمانية التي تبتكرها عقول التنوير وما علينا الاّ ان ننتظر في عقود لاحقة وربما ابعد من ذلك لابتكار مساحيق مزيلة تماما تلك المؤثرات العقائدية ونزع رواسبها تماما من النفس الانسانية وليس غريبا انه حتى في المجتمعات الغربية يبقى تأثير المعتقدات الدينية بائنا في الانظمة الديمقراطية الحديثة كما لاحظنا من تلك الاحزاب الديمقراطية والعلمانية التي اتخذت اسماء دينية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ايطاليا وحزب المحافظين في بريطانيا ولا ننسى ان من اوصل رونالد ريغان رئيسا للولايات المتحدة هو التيار السياسي الكبير المسمى باليمين المسيحي وقتذاك
ولو تخاصمت العلمانية مع الدين فان خطاها ستتعثر ويزداد تعثرها اكثر في المجتمعات التي يطغى فيها الدين طغيانا كبيرا بسطوته ونفوذه وامتداده في الاوساط التي يزداد بها الجهل والخرافة والماورائيات وبالاخص في اوساطنا العربية والاسلامية التي مازالت في قيعان التخلف ولم تخطُ بعد خطوتها الواثقة وسيخفت صوتها حتما ان تصلبت وازدادت عنتاً كمن يملأ الماء في قِربة مخرومة لا بل تتعرض الى السهام وتكون هدفا للتصويب ولهذا عليها ان تتصالح مع الدين وتمدّ يدها ليترافقا معا دون ان تهادن على حساب قناعاتها وخياراتها الفكرية ولابد ان يكون صوتها مسموعا لأبعد مدى فالعلمانية التي تُبدي عداءها مع روح الدين وتدعو الى فصل الدين نهائيا عن الدولة لايكتب لها النجاح مثلما حصل قبلا منذ عصر النهضة في انجلترا حينما شنّ هنري الثامن حربه على الكاثوليكية ومانتج عنها من حروب وكوارث مع روما بسبب فصل الكنيسة الرومانية عن انجلترا وفي روسيا بداية حكم البلاشفة ونقمتهم على الدين ورهطه وبداية حكم أتاتورك في تركيا وحوادث تأريخية اخرى كثيرة لايسعنا ذكرها
من هنا يأتي دور الابداع والابتكار والتصرف السليم من رعاة العلمانية وأخلص المدافعين عنها تكنيكيا واستراتيجيا في ترسيخ العلمانية بالاساليب السلمية والاقناع الواعي بضرورة بناء الهيكل السياسي والنظام الاكثر فعالية ونجاحا للدولة وهذه هي مهمة من يتبنّى العلمانية البنّاءة في الخروج من مأزق وركام التخلف دون ان ترفع سيفها وسوطها عداءً وكراهية للعقائد وذلك ما نحتاجه تماما اما من يزعق بأنه علماني صابّاً جام غضبه على المعتقدات الدينية كلها فلا يعدو كلامه سوى هذر القول دون اية مراعاة لمشاعر الآخرين وقناعاتهم النفسية متخبطا خبط عشواء فهذا من سخف التصدي والأذى لعموم الملأ مما يعطّل خطى التنوير والإصلاح الجمعي وخاصة لمجتمعنا المغرق بالاثنية كمن يكحّل البصر فأعماه ، وكفانا عمياً وعشواً وفقدان عيون تـتوه لاتدري أين طريق النماء والرقي والنهوض

اترك تعليقاً